خاص بـ”الشفّاف”
أولّ قرار أتخذته الحكومة السودانية، بعد صدور مذكرة التوقيف الدولية، بحق الرئيس البشير، هو “طرد” عشر منظمات عاملة في حقل “الإغاثة الإنسانية” في دارفور، هي: منظمة العمل ضد الجوع،أوكسفام البريطانية، منظمة التضامن الفرنسية، كير الأمريكية، منظمة أطباء بلا حدود الهولندية، المجلس النرويجي للاجئين، لجنة الانقاذ الدولية،مؤسسة التمويل التعاوني الأمريكي،ميرسي قروب الأمريكية، ومنظمة إنقاذ الطفولة !!
القرار الحكومي شمل أيضا حل منظمتين سودانيتين هما: مركز الخرطوم لحقوق الإنسان، ومركز الأمل لتأهيل ضحايا العنف !!
وأرجعت الحكومة السودانية قرارها هذا إلى مخالفة هذه المنظمات كلها لقوانين العمل الإنساني، ودعم المحكمة الجنائية الدولية !!
هل هذا معقول ؟ طيّب فلنمض مع الحكومة السودانية إلى نهاية هذا الشوط، فلتكن هذه المنظمات كلها متورطة في التعامل مع المحكمة، ومخالفة لقوانين العمل الإنساني في السودان، هل صحت الحكومة السودانية فجأة لتكتشف – مصادفة – يوم الإعلان عن مذكرة التوقيف، أن هذه المنظمات لا يحق لها العمل على الأراضي السودانية ؟
لماذا لم تعلن الحكومة السودانية هذا القرار قبل شهر أو شهرين، ولماذا لم تؤجله حتى لا يساء فهم الأمر، وسيساء بطبيعة الحال، وبسبب عشوائية اتخاذ القرارات في أروقة النظام الحاكم في الخرطوم !!
وللغرابة، هذه المنظمات العشر المطرودة هي الأكثر نشاطا في توزيع المساعدات الغذائية وتقديم الرعاية الصحية والتعليمية، من بين نحو 80 منظمة غير حكومية دولية عاملة في دارفور، فأيّ رسالة هذه تبعث بها الخرطوم في هذا الظرف الدقيق ؟
هذه المنظمات تقدم العون إلى نحو 4 ملايين و700 ألف شخص في السودان، من بينهم مليونان و700 ألف في دارفور !!
الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، سارع إلى القول إن عمليات المساعدات التي تديرها المنظمة الدولية في دارفور سيلحق بها ضرر جسيم اذا نفذت الحكومة السودانية قرارها بطرد منظمات مساعدات. ومن جهتها دعت واشنطن الحكومة السودانية إلى العودة عن قرارها هذا.
لا شكّ أن المنظمة الدولية، وعددا من الدول الكبرى تشعر بإنزعاج شديد، فالقرار سيؤثر بشكل مباشر على ملايين الدارفوريين الذين يحصلون بالكاد على الغذاء والدواء، ويعيشون ظروفا بالغة السوء.
ولاشكّ أن تعنت الخرطوم – وهذا متوقع – سيؤدي إلى نتائج على الأرض في دارفور، وهذا بدوره سيؤدي إلى موت الناس بالجملة هناك، وبطبيعة الحال لن يقف العالم مكتوف الأيدي، فرسالة الخرطوم، كما تُقرأ في هذا التوقيت كالآتي: حسنا ! أصدرتم المذكرة ؟ ردنا الفوري هو عرقلة عمليات الإغاثة في دارفور، وتتحملون أنتم مسؤولية الآلاف في دارفور !
منظمة أطباء بلا حدود المطرودة، قالت في بيان إن الطرد يأتي في وقت يتفشى فيه مرض التهاب السحايا البكتيري في واحد من مخيمات النازحين التي نعمل فيها والتي يعيش فيها بشكل مؤقت أكثر من 90 ألفا من النازحين. ولا توجد رعاية صحية في الوقت الحالي لنحو 73 ألفا اخرين بسبب الطرد واغلاق المستشفى الوحيد في بلدة مهاجرية وعيادات في أنحاء بلدة أخرى في دارفور حيث تعمل المنظمة.
مرة ثانية، الرسالة الواضحة، خاصة أن قرار الطرد صدر بعد ساعات فقط على المؤتمر الصحافي الذي عُقد في لاهاي بشأن توقيف البشير، الرسالة هي: فليمت من يمت في دارفور بالتهاب السحايا أو بنقص الغذاء، لا يهم، المهم هو أنكم، جميعا أيها الغربيون انتهكتم كرامتنا وسيادتنا وسنرد بأيّ طريقة نراها مناسبة، وهاكم ردنا الأول !!
على الخرطوم – في هذا التوقيت – أن تتخذ قراراتها بأناة وبعد دراسة عميقة لكل الآثار المتوقعة، ودراسة كيفية قراءة الرسالة المبثوثة في أيّ قرار على الصعد كافة.”العنتريات” التي نراها على شاشات التلفزيون، والخطابات الحماسية، على أهميتها لتقوية الجبهة الداخلية، إلا أنها غير مفيدة، بل مضرة إن لم تكن “عقلانية” وفي منتهى الحكمة.
على الحكومة السودانية أن تعي جيدا أن هذه القضية في بداياتها، وأن المعركة المقبلة ستدور داخل مجلس الأمن.ومثل هذه القرارات ستضع حتى أصدقاء السودان في ورطة حقيقية حين تبدأ مداولات مجلس الأمن بشأن قرار توقيف البشير.هذا عن المنظمات “الغربية”، أما على صعيد المنظمتين السودانيتين، فإن ما حدث لا يقل سوءا، فاحداهما معنية بـ”حقوق الإنسان”، والأخرى بـ”تأهيل ضحايا التعذيب”.وهذه أيضا رسالة ثانية خاطئة في هذا التوقيت، مفادها ببساطة أن الخرطوم لا تعير أمر حقوق الإنسان وتأهيل ضحايا التعذيب اهتماما كبيرا.
المشكلة في هذا القرار، من الناحية السياسية هو التوقيت والعدد، خاصة أن عدد المنظمات الغربية المطرودة، بلغ في ظرف يومين 13 منظمة !!
وسيقول بعض المحللين إن بعض النافذين في الحكومة السودانية يريدون توريط البشير أكثر فأكثر، لأن مثل هذا القرار لا يعني إلا شيئا من هذا القبيل، أو تعاملا سطحيا مع الأزمات.
khalidowais@hotmail.com
* كاتب سوداني