يعاني النظام القانوني من حالة غريبة طارئة تستلزم قرارا سياديا لإيقافها. فقد ألغي النظام القانوني حق الأفراد في تحريك دعاوي الحسبة الدينية، وجعلها فقط في يد سلطة الادعاء -أي النيابة العامة، لكنه ترك الحق في تحريك دعاوى الحسبة السياسية متاحا، شائعا أمام كل شخص، وهو ما جعل بعض الأشخاص -من غير ذي صفة- يحركون قضايا ضد أشخاص لا تجمعهم بهم خصومة مباشرة. ما يجري الآن في هذا الخصوص كفيل بتدمير النظام القانوني للمجتمع بأسره، لأنه يخلق حالة أقرب إلى توصيف الفيلسوف المعروف توماس هوبز “حرب الكل ضد الكل”. الأصل في النظام القانوني أن يكون تحريك الدعاوى القضائية “شخصيا”، بمعنى أن يلجأ المتضرر إلى القضاء. والمعنى المقصود لكلمة ” المتضرر” هو الشخص الواقع عليه الضرر بشكل مباشر. وبالتالى ليس لأي مواطن أن يحرك دعوى قضائية عن ضرر أصاب غيره، حتى لو كان هو شخصيا جزءا من كيان أكبر يجمع الاثنين معا. وبالتالي فإن قيام أي شخص بالدفاع عن رئيس الجمهورية أو رئيس الحزب الذي ينتمي إليه أمر لا معنى له في النظام القانوني الحديث، لأن الشخص الذي ناله ضرر -أيا كان موقعه السياسي أو الوظيفي، في إمكانه أن يحرك دعاوى قضائية للدفاع عن نفسه.
أما القول إن الشخص العضو في حزب يحق له أن يحرك دعوى قضائية للدفاع عن رئيس حزبه أيا كان، أمر مردود عليه، لأن العضوية في مؤسسات المجتمع المدني -والتي من بينها الأحزاب- اختيارية، يقبل عليها الأفراد بإرادتهم الحرة الطوعية، وتكفل آليات الديموقراطية أن تكون هناك ‘قيادة’ منتخبة شرعية لهذه الكيانات المدنية، تمثلها، وتتحدث باسمها، وتتحمل مسئولية إدارتها إلى أن تأتي مناسبة انتخابية أخرى تبقي عليها أو تستبدل آخر بها. وبالتالي فإن أمر هذه المنظمات المدنية في يد قياداتها، والمتحدثين باسمها، وليس في يد كل شخص عضو فيها، وإلا أدى إلى الفوضي والعشوائية، التي قامت هذه المؤسسات في الأصل من أجل تحجيمها.
من هنا فإن ما يجري من تحريك دعاوى قضائية من أشخاص ليسوا ذي صفة، بالمعنى السابق ذكره، يؤدي إلى نوع من العشوائية، والاضطراب، وفقدان معنى القانون والعدالة في نهاية المطاف، وتتحول ساحات المحاكم إلى مجال واسع من المعارك السياسية، وتصفية الحسابات، وإرباك كل من الحياة السياسية، ومؤسسات العدالة على السواء.
في المجتمع المصري، الذي تسير فيه المحاكم كالسلحفاة من جراء تكدس القضايا، وازدياد عددها بشكل مضطرد، تصبح دعاوى الحسبة السياسية لا معنى لها سوى إضافة أسباب جديدة لإرباك الواقعين السياسي والقانوني، بكل معنى الكلمة. فلا المحاكم بحاجة إلى قضايا جديدة مثل هذه النوعية، ولا الحياة السياسية تحتمل مساجلات وخصومات على شاكلة الحسبة السياسية.
هذا ليس معناه التستر على خطأ صحفي، أو تجاوز لا محل له أو عدم تطبيق القانون في قضايا النشر. ولكن المطلوب هو الابتعاد عن القضايا القضائية “الإعلامية”، والنأي بالمحاكم بعيدا عن المساجلات السياسية. في بلد يعاني المواطن فيها حتى يحصل على حقه “متأخرا”، ليس مقبولا التغطية على تعثر الديموقراطية بإرباك مؤسسات العدالة.
* كاتب مصري
samehfh@yahoo.com