بعد الأحداث الثورية العارمة في كل من تونس ومصر؛ دون أي شك، تدخل المنطقة العربية، وربما منطقة الشرق الأوسط بكاملها، في حقبة جديدة تختلف جذرياً عن الحقبة التي تعيشها منذ أكثر من نصف قرن. إن الهبَّات الشعبية الهائلة المنطلقة من تحت الرماد، تشير إلى أن شعوب العالم العربي المترامي الأطراف قد نفذ صبرها، ولم يعد لديها القدرة على تحمل الاستبداد والقمع وكمّ الأفواه وطغيان الفساد والبطالة والفقر والجوع وهدر الكرامة وحرمان الناس من أبسط حقوقهم الطبيعية والمدنية والسياسية.
-1-
في بداية الاحتجاجات ذهب بعض الكتاب اليساريين ليطلق عليها ثورات الجياع والمحرومين وسكان المقابر والعشوائيات. في اعتقادي لم يكن إلى حدٍ كبير هذا التوصيف دقيقاً. وفي الواقع أنها ثورات الطبقة الوسطى بامتياز، وحاملها الاجتماعي أوسع بكثير من أن نقصره على الجياع والمحرومين. فقد انخرط فيها منذ ساعاتها الأولى أعداد كبيرة من الصحفيين والكتاب والأدباء والفنانين والقضاة والمحامين والأطباء والمهندسين ورموز كبيرة من العلماء والسياسيين المخضرمين وكذلك أيدها رموز من البرجوازية الوطنية والاقتصاديين ورجال الأعمال. فهذه الثورات هي من أجل الحرية والديموقراطية والمجتمع المدني، و من أجل استعادة كرامة الناس التي استبيحت، ومن أجل سيادة القانون والمساواة وتكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية. ففي هذه الأحداث الثورية تعانقت بكل قوة مطالب الحرية السياسية مع مطالب الحرية الاجتماعية وسقطت نظرية تقديم الثانية على الأولى التي كان قد أسس لها منظرو وسياسيو نظام حكم الحزب الواحد القائد للمجتمع في أواخر خمسينات القرن الماضي. ولذلك لا نستغرب أن يكون شعار الجمهورية الثانية أحد شعارات المنتفضين. فالهدف هو بناء الجمهورية المدنية والديموقراطية.
-2-
لقد فاجأت أحداث تونس ومصر الأنظمة العربية الحاكمة كافة، سواءً من حيث حاملها الاجتماعي الواسع والمتنوع أو من حيث زخمها المشهدي الهائل ومنظورها الاستراتيجي . وليس ذلك فحسب، إنما فاجئت أيضاً أحزاب المعارضة التقليدية بمختلف اتجاهاتها الإيديولوجية من اليمين واليسار والوسط. وقد شعرت هذه الأحزاب أنها خلف هذا السيل الهادر من الشباب المحتجين وبعيدة عنهم وعن أدواتهم النضالية إلى حدٍ كبير.
ربما هذه التطورات الهائلة في الشرق الأوسط، لم تفاجئ تماماً المجتمع الدولي والأوساط السياسية الغربية ومعاهد الأبحاث فيها ، لكن مع ذلك بدا أن هذه الجهات لم تكن تتوقع أن تكون هذه الأحداث بمثل هذا الزخم الثوري وهذه الديناميكية، وتبين أنها لم تكون مستعدة لمواجهتها وخاصة أنها تجري في منطقة حساسة جداً بالنسبة إليها. وهذا ما أدى إلى أن نرى شيئاً من الارتباك في مواقف الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي. وكذلك لا يمكن تجاهل الارتباك الأكثر وضوحاً والخوف من قادم الأيام لدى الحكومة الإسرائيلية وهي ترى نظام مبارك يترنح. وهنا علينا ألا نستغرب فإسرائيل تخاف من قيام أنظمة ديموقراطية في العالم العربي وتعتبرها خطراً على وجودها، وخاصة في دولة مثل مصر التي تشكل ثقلاً استراتيجياً وسكانياً كبيراً في المنطقة.
بطبيعة الحال، لن يكون العالم العربي بكامله دون استثناء، بمنأى عما حدث من تغيير في تونس ومصر. و تأثيرات هذا التغيير سوف لن تقتصر على الدول العربية فقط وإنما ستشمل دولاً تسلطية أخرى في الشرق الأوسط وأفريقيا. لكن هذه التأثيرات والتغيرات السياسية المتوقعة، يجب ألا تقودنا إلى توقع استنساخات للتجربة التونسية أو المصرية. لا يوجد أي شك في أن روح هاتين الانتفاضتين ستهيمن على أي تغيير آخر في المنطقة وهي روح تكريس الحرية والديموقراطية والمجتمع المدني والمواطنة، ولكن شكل وآلية التغيير سوف يرتبطان بكل تأكيد بظروف وبنية وسمات المجتمع. ولقد رأينا مثل هذه السيناريوهات المختلفة في دول أوربا الشرقية في أواخر ثمانينات وأوائل تسعينات القرن الماضي.
-3-
كان لكل من التجربتين التونسية والمصرية سماتها الخاصة بها، ولكن هنالك سمات عامة تجمعهما وهي تنطبق على أكثر بلدان المنطقة. ومن هذين الحدثين الكبيرين يمكن استخلاص الكثير من الأمور.
في الواقع تستطيع، وقد استطاعت، كل الأنظمة الشمولية التسلطية أن تحجِّمَ وتقزِّم المعارضات السياسية للنظام (الأحزاب السياسية، النقابات، الجمعيات، الصحافة..) عبر قانون الطوارئ الدائم والاعتقال والتعذيب وردع كل وسائل التعبير، ولكن رغم هذا النجاح في قمع المعارضة، ورغم تمكنها من استيعاب وتدجين وإلحاق بعضها، فهي تصطدم في النهاية بمعارضة شعبية شاملة نتيجة الفساد وتدهور مستوى المعيشة وتدني مستوى التعليم والثقافة، وعدم تكافؤ الفرص وتلاشي سيادة القانون وتناقص فاعلية الدولة كدولة. وهنا علينا أن نميز بين مفهوم الدولة ومفهوم السلطة.
ومهما غطى النظام الشمولي التسلطي نفسه بشعارات القومية والوطنية والاشتراكية وغير ذلك من الشعارات البراقة، فالواقع الناشئ في الداخل أقوى من كل هذه الشعارات. وهذا ما رأيناه في نهايات معظم منظومة الدول الاشتراكية السابقة، فالتفسخ الداخلي أدى إلى انهيار هذه الأنظمة من خلال حركات شعبية شاملة. وهذا ما رأيناه تماماً في كل من تونس ومصر. فهناك أحزاب معارضة ضعيفة وبعضها منضوي تحت عباءة السلطة، وحزب حاكم عدده بمئات الألوف، ولكن فجأة نرى هبة شعبية عارمة شاملة لتغيير النظام القائم. وهنا نرى أن الأنظمة الشمولية التسلطية والبيروقراطية بشكل عام، تؤدي إلى تناقص فعالية الدولة وضعف المجتمع بشكل مضطرد يؤدي إلى أزمةٍ عامة.
إن الأنظمة الشمولية التسلطية تعمد دائماً إلى إغلاق المجال السياسي في المجتمع و تقيم السدود العالية أمامه. فتغلق الصحافة الحرة، وتحل الأحزاب، وتسيطر على مؤسسات المجتمع المدني، وتخنق كل وسائل التعبير، وتذهب إلى التباهي بضعف المعارضة وهزالها مؤكدة قوتها. لكن تجربة أميركا اللاتينية وأوربا الشرقية والتجربة الجديدة في العالم العربي، تؤكد أن إقفال الطرق الشرعية والمجال العام أمام السياسة في المجتمع يؤدي في لحظة ما إلى تفجرات دراماتيكية غير محسوبة. وهذا ما رأيناه في تونس ومصر فالشعارات ابتدأت اجتماعية ولكنها سرعان ما تحولت إلى شعارات سياسية بامتياز. لقد تلاشت تماماً دعاوى الأنظمة الحاكمة إلى الإصلاح الاقتصادي قبل الإصلاح السياسي، ولم تعد ذات معنى على الإطلاق نظرية الفصل بين الاقتصاد والسياسة وبين الحداثة والتحديث.
وبالنسبة إلى العالم العربي، فمقولة الأنظمة الحاكمة أن بقاءها في الحكم وعدم التغيير الديموقراطي هو الضامن الوحيد من الإسلام السياسي المتطرف ومن الفوضى، لم تعد صالحة لاستخدامها فزاعة للخارج والداخل معاً. ولقد بدا واضحاً أن الإسلام السياسي لم يكن الفاعل الرئيسي في الاحتجاجات.
لقد كان بارزاً في الحدثين التونسي والمصري الهَمّ الداخلي مثل المطالبة بسيادة الشعب، وسيادة القانون، والديموقراطية، والحقوق المدنية والسياسية والانتخابات الحرة والنزيهة، وتأسيس الدولة المدنية (لا عسكرية ولا دينية)، وكذلك كانت قضايا الفساد ونهب أموال الشعب و البطالة والفقر وضياع فرص الشباب وعدم تمكنهم من بناء مستقبلهم بنداً رئيسياً من عناوين وشعارات هاتين الثورتين. ولم يكن العبق الإيديولوجي والحزبي والديني بارزاً فيهما وإنما غلب عليهما الطابع الشعبي والشبابي. ولقد تبين من الحدثين أن هنالك إمكانية كبيرة للتغيير من الداخل بواسطة الشعب وبأساليب سلمية تماماً ، وهنا تسقط أيضاً نظرية التغيير بالتدخل الخارجي الذي لن يكون إلا وبالاً على الشعب والوطن بكامله. ولكن في النهاية أي تغيير ديموقراطي لن يلقى طريقه إلى النجاح إلا بالتلاحم الوطني والشعبي الكامل ، وقد رأينا هذا بارزاً بين معظم أطياف المجتمع في تونس ومصر. وفي الأخيرة كان هام جداً التلاحم بين المكونين الرئيسيين للشعب المصري، المسلمين والأقباط. وعلى أرض الواقع تبين أن الشعب في كل من تونس ومصر كان قادراً على تقرير مصيره وجاهزاً للديموقراطية ونظام الحكم المدني.
zahran39@gmail.com
دمشق في13/2/2011
الحرية والدولة المدنية عنوان ثورتي تونس ومصر
الصديق نقولا .. مقالك يلتقط أهم مغزى لانتفاضتي تونس ومصر : الحرية والدولة المدنية.. الأولوية للديمقراطية.. انت دائما مواكبا للحدث لأنك تنظر للوقائع الراهنة وليس لأي نصوص مسبقة .. نتابعك باهتمام وتحياتنا
الحرية والدولة المدنية عنوان ثورتي تونس ومصر الأستاذ نقولا بعد الثوره سوف تنغلق مصر على نفسها ، وتبدأ عملية إصلاح صعبه ومؤلمه لتنتج بعدها جمهوريه برلمانيه بمؤسسات حقيقيه تحارب الفساد وتجسد مطالب شباب الثوره في الحريه والكرامه والعداله ، ستبدأ في مصر حرب طويله الأمد لمحاصرة الفقر والجهل والتخلف والقضاء عليهم ، ستوضع الأسس الصحيحه للمواطنه والانتماء ليس على أساس الدين أوالأنتماء الجهوي أوالمذهب و وأنما على أساس المساواة الأجتماعيه بين كافة شرائح المجتمع ، في مصر سوف ينتجون دستورا راقيا سوف يكتبه فقهاء الدستور والقانون ، ويستلهمون من دساتير دول متقدمه مايجعل الدوله هي الحاضن والضامن للمواطن ، سوف… قراءة المزيد ..
الحرية والدولة المدنية عنوان ثورتي تونس ومصر
وليد
أخي نقولا،
ما ثار من أجله الشعب من مباديء شيء، وما ستؤول اليه النتائج لاحقا شيء آخر.
أنا أعيش في الغرب وأتابع أعلامهم وخبرائهم وسياسييهم. لقد أختارت أمريكا الأخوان المسلمين بديلا وسينتهي الأمر بعد أنتخاب دورتين … بالشريعة الأسلامية