1-
لا يضيف شلومو ساند جديدا في كتابه المعنون “اختراع الشعب اليهودي” إلى عدد من الأفكار المتداولة بين العاملين في حقل الدراسات الإسرائيلية واليهودية. ولكن الجديد في الأمر أنه تمكّن في وضع تلك الأفكار في سياق موّحد، بحكم ما لديه من أدوات المؤرخ، وما وَسَمَ مرافعاته في هذا الشأن من منهجية، ومعرفة تكاد تكون موسوعية بموضوع البحث.
بداية ينبغي القول إن ما ندعوه بالأفكار المتداولة يتمثل في نقد ونقض عدد من الأفكار، التي تحوّلت على أيدي المؤرخين الصهاينة إلى ما يشبه مسلّمات تاريخية، تمكنهم من تفسير وتأويل تاريخ اليهود منذ الأزمنة التوراتية وحتى قيام الدولة الإسرائيلية. ومن بينها أن اليهودية مزيج من الدين والقومية، وأن لليهود خصوصية ثقافية حافظوا عليها على مر العصور، وفي مختلف الأمكنة، وأنهم طُردوا من فلسطين في القرن الأوّل للميلاد، وعاشوا في المنافي على مدار ألفين من السنوات على أمل العودة، وهذا ما تمكنوا من تحقيقه في أواسط القرن العشرين.
يرد ساند على تلك المُسلّمات أولا بتحليل معنى الدين والقومية، ويخلص للقول إن اليهود شكّلوا جماعات دينية على مدار الألفيتين الأولى والثانية، أما النظر إلى أنفسهم كجماعة دينية وقومية في آن فهذا ما تم ابتكاره في القرن التاسع عشر. وبالقدر نفسه يطرح فكرة “المنفى” و”العودة” من خلال التذكير بحقائق من نوع: أولا، أن “الدياسبورا” اليهودية نشأت في الواقع قبل تدمير الهيكل على يد الرومان، ناهيك عن حقيقة أن أعداداً كبيرة من اليهود بقيت في فلسطين بعد ذلك التاريخ، وأن أغلب هؤلاء اعتنق المسيحية، ثم الإسلام في وقت لاحق. ثانيا، “يهود الشتات” ليسوا أبناء وأحفاد المطرودين من فلسطين، بل أبناء وأحفاد أقوام مختلفة اعتنقت اليهودية في العالم الروماني ـ المسيحي القديم، كما هو الشأن ليهود شمال أفريقيا والجزيرة العربية، وكذلك مملكة الخزر، التي انحدر منها يهود أوروبا الشرقية والوسطى.
2-
والمدهش في الأمر أن الأفكار التي أعاد ساند صياغتها كمؤرخ ظهرت في كتابات مختلفة من قبل، ولم يكن أصحابها مؤرخين، بل جاء أغلبهم من حقول الدراسات الأدبية والثقافية. روبرت آلتر، اليهودي الأميركي المختص في الأدب، مثلا، في كتابه عن إحياء اللغة العبرية (Robert Alter, the invention of Hebrew prose)، يعيد الأمر إلى رغبة المنوّرين اليهود في أوروبا في الاعتراف بهم من جانب القوميات، التي يعيشون بين ظهرانيها، كجماعة تتميز بلغة وتاريخ مشتركين، مما يؤهلها للاندماج في المحيط على قدم المساواة مع الآخرين، وتحقيق الاستقلال الذاتي. بمعنى آخر، لم يكن مشروع الإحياء اللغوي في البداية جزءا من مشروع الدولة اليهودية في آسيا.
وكذلك الأمر بالنسبة لبوعز عفرون، اليهودي الإسرائيلي المختص في المسرح، الذي أنكر، في كتاب بعنوان “الحساب القومي” (تُرجِم إلى الإنكليزية بعنوان: Boaz Avron, the national account)، أن تكون اليهودية قومية، وأقر بوجود قومية للناطقين بلغة “الييدش”، عمادها تلك اللغة، وحقلها الجغرافي أوروبا الشرقية والوسطى.
المرحوم عبد الوهاب المسيري، المصري الذي كان الأدب حقل اختصاصه الرئيس، حوّل فكرة الجماعات اليهودية إلى أداة تحليلية في موسوعته الشهيرة، ورفض الاعتراف بوجود تاريخ يهودي عام، ودعا إلى ضرورة التعامل مع تواريخ يهودية. كما كتب الروائي البريطاني آرثر كوستلر، منذ عقود، كتابا بعنوان “القبيلة الثالثة عشرة” عن مملكة الخزر. (Arthur Koestler, the thirteenth tribe الذي نشر بالإنكليزية، وتُرجم إلى العربية في أواخر السبعينيات، ونٌشر في بيروت. وكان كوستلر في شبابه صهيونيا وهاجر إلى فلسطين كمستوطن في بداية القرن لكنه أصيب بخيبة الأمل، وتخلى عن أفكاره السابقة، وهو بالمناسبة صاحب الرواية المدهشة “ظلام في الظهيرة”، التي انتقد فيها الستالينية والنظام الشمولي في الاتحاد السوفياتي.)
هل هذا يعني أن العاملين في حقول غير التاريخ أقدر من غيرهم على اكتشاف ما تنطوي عليه التواريخ المكرّسة، التي يكتبها مؤرخون محترفون، من أفكار وتأويلات تاريخية؟
يصعب القبول بفكرة كهذه، ولكن ينبغي التذكير بحقيقة أن كل علم من العلوم الإنسانية يمتاز بسلطة ومرجعيات تعرقل إمكانية الخروج على ما لديه من “حقائق”، وما نجح في إنجازه من تأويلات. والسلطة والمرجعيات كلتاهما نتاج لعلاقة معقدة ودائمة بين السياسة والمعرفة، وبين الأنظمة والحركات الأيديولوجية السائدة ومنتجي الأفكار. وغالبا ما يتم الانتقال من سلطة ومرجعية إلى سلطة ومرجعية مغايرة نتيجة تحوّلات اجتماعية وسياسية كبيرة وحاسمة.
بهذا المعنى يمكن النظر إلى كتاب ساند كمحاولة للانقلاب على سلطة ومرجعيات تكرّست على مدار قرنين من الزمن، واكتسبت بعد إنشاء الدولة اليهودية مهابة ومكانة تاريخ يحظى برعاية الدولة وحمايتها. وفي هذا السياق، أيضا، يصح الكلام عنه كفاتحة ربما لتاريخ جديد، يتجاوز المؤرخين الإسرائيليين الجدد، الذين ركزوا أبصارهم على قصة نشوء إسرائيل، بينما ظل التاريخ اليهودي العام عصيا على المراجعة والنقد.
3-
قدّم ساند لكتابه بسرد يستعرض تاريخه العائلي، أي تواريخ أشخاص جاءوا من أماكن مختلفة، ووضعتهم الظروف التاريخية في سياق محتوم. والخلاصة، أيضا، أن التاريخ لا يقبل الاختزال والتبسيط. فالتواريخ الشخصية يمكن أن تفسّر التاريخ العام، وربما بكفاءة أكبر، نتيجة ما تبيحه من التعددية، وما تقر به من دورٍ للمصادفة والمفارقة والمآسي الإنسانية الصافية.
وما لا يمكن تجاهله في ذلك التقديم أن ساند نفسه كان هو الجندي، الذي كتب عنه محمود درويش، قبل أربعة عقود، قصيدته الذائعة الصيت “جندي يحلم بالزنابق البيضاء”. وهكذا يدور التاريخ دورة كاملة: من محاولة محمود درويش لإنشاء تاريخ جديد للصراع في فلسطين وعليها بلغة وأدوات الشاعر، إلى محاولة الجندي القديم لإعادة تفسير تاريخ، أو تواريخ شعبه، بطريقة ربما تسهم في جسر الهوة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بقدر ما تبدد من أوهام، وما تذبح من أبقار مقدسة، وما تفتح من آفاق للعيش المشترك.
Khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني يقيم في برلين
عن جريدة الأيام
شلومو ساند عن كتابه بالإ‘نكليزية
شلومو ساند عن كتابه، بالفرنسية:
الجندي الذي حلم بالزنابق البيضاء..!! – لا اعتقد ان (شلومو ساند) هو (نفسه) الذي كتب عنه محمود درويش قصيدة “جندي يحلم بالزنابق” ؟! .. ولكن ما أورده (ساند) بخصوص (درويش) بالغ الاهمية : فقصيدة (سجل انا عربي) كانت السبب المباشر في اضافة (عربي) الى جانب (يهودي) , (كاتالوني) , (غير متدين : Non Believer) لتحديد (تصنيف) لهوية مواطني “دولة اسرائيل” في الاوراق الرسمية .. وان (اسرائيل) تخاف من (الشعراء – اعني الشعراء الشعراء-) اكثر من الانتحاريين “الاستشهاديين” : (فقصيدة درويش (عابرون في كلام عابر) اصابت الخطاب الاسرائيلي بكافة مستوياته “الثقافية , الاجتماعية , السياسية ..” بالحمى والقشعريرة سواء عندما نشرها… قراءة المزيد ..