الصورة: لوحة لعبد الرازق عكاشة
ليس من قبيل المجازفة القول إن الخطاب في الثقافة وعنها، هذه الأيام، لا يحفل بمفردات من نوع: الصراع الطبقي، والكادحين، والديالكتيك، والالتزام، والتقدّمية والرجعية، والمثقف الثوري، وكل ما يتصل بمفردات كهذه من تداعيات. ولو عادت بنا الذاكرة إلى ثلاثة عقود مضت، وتخيلنا أنفسنا في مؤتمر، يعالج قضايا الثقافة العربية، في القاهرة، أو بيروت، أو دمشق، لما وجدنا صعوبة لا في العثور عليها وحسب، بل وربما على ما يبرر الشكوى من كثافة حضورها، أيضاً.
فما الذي تغيّر؟ هل انتهى الصراع الطبقي، واختفت الطبقات، وفقد الديالكتيك فعاليته، وجدواه، وهل تساوى الناس وأفكارهم كأسنان المشط، فلم يعد بينهم تقدمي ولا رجعي، وهل أصبح الالتزام عبئاً على الممارسة الثقافة، وفقدت الثقافة الثورية المعنى والجدوى؟
ولأسباب جدالية محضة، ومؤقتاً على الأقل، فلنقل إن لا في حضور مفردات كهذه، أو غيابها، ما يستدعي استخلاص إيحاءات إيجابية أو سلبية، بل يكفي التذكير بحضورها وغيابها للتدليل على حقيقة أن للكلام في الثقافة وعنها لغة ومفردات، وأن اللغة والمفردات لا تتسم بالثبات، بل هي متغيّرة، وأن التغيير يعكس حقائق اجتماعية، وسياسية، واقتصادية تُوّلد الفرق بين خطابين في موضوع واحد، حتى وإن كانت المسافة الزمنية بينهما لا تتجاوز عقوداً قليلة.
وإذا كان ثمة من خلاصة لا يمكن الاستغناء عنها، في هذا الشأن، فتتمثل في حقيقة أن الواقع المتغيّر ينتج ويفرض لغته ومفرداته. ولا معنى للممارسة النقدية ما لم تبدأ بسؤال: لماذا وكيف ينتج الواقع لغته ومفرداته وينجح في فرضها. وهذا، بدوره، يعيد التذكير بمركزية العلاقة بالواقع، وبما هو أكثر أهمية: استحالة تعالي أو استقلال الممارسة النقدية عن الواقع، واستحالة تعريفها إلا بوصفها ترجمة للصراع على صورة الواقع نفسه.
لذا، عندما نفكّر في عنوان عريض من نوع “الثقافة الفلسطينية إلى أين“، فإن أوّل ما يتبادر إلى الذهن أننا إزاء معطى سابق، ثابت، ومحدد الملامح اسمه “الثقافة الفلسطينية”، وأن هذا المعطى على مفترق طرق، بدليل التساؤل في العنوان نفسه بشأن وجهته المحتملة. ولكن هل ثمة من معطى سابق، بالفعل، وإذا كان الأمر كذلك، فما هي ملامحه الرئيسة؟ وما الذي أوصله إلى مفترق طرق؟ وإذا كان ثمة ما يستدعي التساؤل بشأن وجهته المحتملة، فما هي لحظته الحالية، وما معنى مفترق الطرق؟
للوهلة الأولى، تبدو “الثقافة الفلسطينية” معطى سابق فعلاً، فلها رواية خاصة، ومرجعيات، تتموضع في نسق تاريخي واضح المعالم، وما على المُتكلّم في “الثقافة” سوى إعادة إنتاج، أو تدوير، سردية مألوفة. ولكن يندر ملاحظة أمرين: أن الرواية والمرجعيات نشأت في سياق بناء الجماعة المُتخيّلة، أي خضعت لقراءة انتقائية، في مرحلة الصعود القومي أولاً، وأن القراءة الانتقائية اعتمدت على ميراث ولغة ومفردات الخطاب المعادي للكولونيالية ثانياً. وفي الحالتين اقتصر مفهوم الثقافة على “الثقافة العالِمة”، فغابت عنه عناصر سوسيولوجية وتاريخية، وتم اختزاله في تمثيلات أدبية، يصعب التدليل على مدى تمثيلها للواقع، وحقيقة إسهامها في تكوين المخيال الثقافي العام.
وُلدت مُكوّنات الكلام في الثقافة الفلسطينية وعنها (كما نعرفها ونُعرّفها) في بيروت، والقاهرة، ودمشق، وبغداد، في الربع الثالث من القرن العشرين. وهي الفترة التي شهدت غزارة استثنائية في ولادة المكوّنات الرئيسة للكلام في الثقافة اللبنانية، والمصرية، والسورية، والعراقية (والعربية عموماً). وهناك الكثير من أوجه الشبه، والقواسم المشتركة بينها.
فهل يمكن الكلام عن مفترق الطرق بكل صياغة محتملة لسؤال “إلى أين”، دون تأمل حال ومآل بيروت، والقاهرة، ودمشق، وبغداد: تهيمن ميليشيا مسلحة اسمها حزب الله على بيروت، ويعشش دواعش في أطواق البؤس على أطراف المدن، وفي المخيمات. وفي سيناء يشن دواعش حرباً على الدولة المصرية في محاولة للاستيلاء على الوادي والقاهرة. وتعيش دمشق وبغداد حروب الطوائف، وقد تهددهما، ولا يزال، خطر السقوط في قبضة الدواعش.
وهل يمكن الكلام عن مفترق الطرق، و”إلى أين” دون الاعتراف بتصدّع الهوية الجامعة للجماعة الفلسطينية المُتخيّلة. وإن لم يكن ما يُدعى “بالانقسام” (الذي يعني انهيار الحركة القومية، ومحاولة الاستيلاء عليها من جانب جماعات تنتمي إلى الإسلام السياسي) تعبيراً ثقافياً عن تصدّع المُعطى وهويته، فماذا يكون؟ نزلة برد وطنية مؤقتة؟
المشكلة، هنا، هي ما يتجلى من انهيارات متلاحقة للجماعة المُتخيّلة، وفقدان الكلام في الثقافة وعنها لكل جدارة محتملة، ما لم يجابه أسئلة من نوع: لماذا وكيف انهار قرن ونصف القرن من محاولات التحديث، وبناء الدولة، في العالم العربي؟ ومن أين جاء هؤلاء الذين يحاولون الاستيلاء على المدن، ويدمرون المتاحف، ويسبون النساء، وسرعان ما يصيبهم الملل كلما جربوا طريقة جديدة في القتل فيبتكرون غيرها؟ ومنظروهم، بالمناسبة، هم الأكثر عضوية بين كل ما عرف العالم العربي من مثقفين عضويين.
لم يحضر هذا كله في سؤال “الثقافة الفلسطينية إلى أين”، بل ناب عنه كلام في هوية ودور المثقف الذي كان في وقت ما رسولياً، وينبغي أن يكون الآن نقدياً. وهذا كله على خلفية الجاهز من حواضر البيت “سردية الضحية”، و”بلاغة مكافحة الكولونيالية”. القصد أن “المثقف” ما يزال مفتوناً بصورته، ومسكوناً بدوره، وكلاهما وهمي ومتوّهم، ومن صنعه، وفي كليهما ما ينفي شبهة الهامشية. ولعل في هذا ما يُفسّر لماذا يكون الكلام في الثقافة الفلسطينية وعنها مشروطاً بغياب الكلام عمّا أصاب حواضنها العربية التقليدية، ويكون مشروطاً بإخراج تصدع الواقع الفلسطيني نفسه من جماليات خطاب الضحية. ولنا عودة.
khaderhas1@hotmail.com