كل واحد يتصدى لما حدث في تلك الأيام من ٢٥ يناير حتى ١١ فبراير، وكيف سارت وإلى أين انتهت، لا بد أن يقرر أمرين، الأول: أن هذه ثورة انبثقت من صميم الشعب وقادها مجموعة من أخلص أبنائه ووصلت من الحجم أنْ كتلت الجماهير من أقصى البلاد إلى أقصاها، والأمر الثاني: أن هذه الثورة الشعبية عبرت عن هدفها العام في أول يوم قامت، ثم عبرت عن مطالبها في فترة لاحقة قدمتها إلى «المجلس الأعلى للقوات المسلحة» التي أوكل إليها الرئيس المطرود.
وهذه المطالب تتجاوب تمامًا مع- أو أنها بالفعل هي- مطالب الشعب.
أمامنا إذن حقيقتان، الأولى: أن هذه ثورة لا يمكن الطعن في أصالتها كثورة، وأنها شعبية خالصة.
والأمر الثاني: أن مطالبها هي مطالب الشعب تمامًا، وتقوم هذه المطالب باختصار على رفض كل ما قام عليه العهد البغيض من دستور ومجالس نيابية وحزب، لأنها كلها قامت على أساس تزييف إرادة الشعب وتمكين المنتفعين من نهب البلاد. وينبني على هاتين الحقيقتين أن العهد الذي ثار عليه الشعب بأجمعه ودون تردد قد فقد «شرعيته»، وأن الشرعية العليا هي شرعية الشعب، لأن الأمة هي مصدر السلطات، وهو نص يوجد في كل الدساتير حتى أسوئها، لأنها لا تستطيع أن تتجاهل ذلك، ومن باب أولى لا يمكن إظهار ما يخالفه، ولكن الدساتير السيئة «تلف» على هذا النص بمواد أخرى تقضي على فعاليته.
إن مبارك عندما قاوم ثورة الشعب فقد شرعيته كرئيس شرعى لشعب مصر، ولم يعد لكل ما يصدره من قرارات قيمة شرعية.
الجيش جزء من الشعب، وهو جيش الوطن وله دور مقدس في حماية الشعب، ولكن ليحميه ممن؟ ليحميه من أي عدوان خارجى ينتقص من حدوده وينتهك استقلاله.
لم يقل أحد إن جيش الشعب يحمي الشعب من الشعب نفسه، فهذا لا يستقيم، ولكن هذا هو ما أراده حسني مبارك.
الجيش على كل حال جزء عزيز من الشعب، ولديه الفطنة والذكاء ليفهم الأمور، ولم يتورط بحكم وضعه في المفاسد التي ارتكبها مبارك فلا يحاسب عليها، وفي الفترة التي عهد إليه فيها بحماية الثورة عندما اتضح أن «حاميها حراميها»، وأن الشرطة حاولت مقاومة الثورة، فعهـد إلى الجيش بحماية الجماهير الغفيرة حتى لا تحدث مذبحة، وقام الجيش بهـذا بأمانة وحيـاد وتعاطف كان أقـوى من صفته العسكرية.
هذا صحيح، وصحيح أيضاً أن الثورة لم تكن قد قامت بدورها الإيجابي لإدارة الشؤون، ففي الفترة التي فقد فيها الوضع القديم شرعيته، ولم يقم العهد الجديد بوضع النظام والآليات…إلخ، حدث فراغ لابد من ملئه، وكان الجيش هو القوة الشعبية الوطنية الوحيدة، فكان طبيعيًا أن يعهد بالسلطة إليه.
ونحن حاليًا لا نضيق بهذا الوضع، بل نعبر عن تقديرنا أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة أعلن عندما تقلد زمام السلطة أنه ليس بديلاً عن الشرعية التي يرتضيها الشعب، وأعلن أنه يريد دولة مدنية ديمقراطية، أي لا تكون دينية أو عسكرية.
نقول لكم.. نحن شاكرون ومقدرون، وفي الوقت نفسه نعلم أن الطبيعة العسكرية جعلت قراراتكم بطيئة، وفي بعض الحالات ملتبسة.. اسمحوا لي أن أذكركم بأن ثورة ٢٥ يناير التي انبثقت من ميدان التحرير، والتي مثلت شعب مصر كله مسلمين وأقباطاً، إخواناً مسلمين وشيوعيين، سكان عشوائيات وخبراء كمبيوتر- لم تعد ثورة مصر، فقد أصبحت ثورة العرب التي تلهم بقية الشعوب، بل حملت الدول على احترام مصر وتقديرها، وهل يمكن أن يصل التقدير لها إلى ما وصلت إليه كلمات أوباما رئيس أقوى دولة في العالم، وفي الوقت نفسه كانت نصيرة مبارك.
أرجو أيها السادة أن تقدروا هذا، وأن هذه الثورة لم تقم لتنتهي وإنما لتبقى حتى الوصول إلى الحكم الديمقراطي، وهذا من حق الذين فجّروا الثورة تعبيرًا عن إرادة الشعب، فلا يمكن لأي قوة أن تحرمهم هذا الحق، وميدان التحرير هو مركز انطلاقها ومكان عملها، ومن حق الثورة أن تتمسك بوجودها فيه، وعلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة أن يقدر هذا وأن يتفق مع قادة الثورة على الطريقة التي لا تشل الميدان مع وجودها فيه.
وأعتقد أنه كان على المجلس الأعلى للقوات المسلحة مد يده، وأن يتفق على طريقة المشاركة في طريقة إدارة الأمور، كما أن وجود القوات المسلحة بالصفة التي نريدها أسلم للثورة التلقائية التي قام بها شباب ٢٥ يناير سنة ٢٠١١م الذين إذا تُركوا وحدهم دون شريك- أو ضابط من نوع ما- فقد تتحول الثورة إلى ما تحولت إليه الثورة الفرنسية التي اخترعت الجيلوتين لتقطع الرقاب في أسرع وقت، وظهر فيها حفنة يطلق عليها «عهد الإرهاب» عندما وليها روبسيير، وأخيرًا انتهت الثورة بإظهار نابليون.
اقرأوا التاريخ أيها السادة واستفيدوا منه.
ليست هذه هى المرة الأولى التي يتولى الجيش فيها زمام السلطة، وسأضع تحت أنظاركم مثالين لذلك حدثا في مصر بالفعل.
المثال الأول: هو وقفة عرابي أمام الحاكم ووراءه الشعب ملتحمًا به في سبتمبر سنة ١٨٨١م، وطلب عرابي من الخديو الذي نزل من قصر عابدين إسقاط الوزارة القائمة وزيادة عدد الجيش ووضع دستور جديد، واضطر الخديو- رغم أنفه- على الموافقة، فقد كان أمامه الجيش، ولم يكن ليستطيع أن يستعدي عليه الشعب، لأن الشعب ملتحم به، كما لم يعد بإمكانه التأثير على الشعب لأن الجيش يحميه.
هذا الازدواج ما بين الجيش والشعب هو الذي أخضع الحاكم فأسقط الوزارة وزاد عدد الجيش ووضع شريف باشا- أبو الدستور- دستورًا يحقق إرادة الشعب وكان يمكن أن يبدأ العهد الجديد لولا أن بريطانيا ما كان يمكن أن تسمح لهذه التجربة بالنجاح، فقامت باحتلال البلاد وأجهضت هذه المحاولة الفريدة.
في مقابلة هذه التجربة قامت بمصر تجربة أخرى انفرد فيها الجيش بالعمل، فقد استطاع جمال عبدالناصر وهو ضابط برتبة بكباشي أن يكسب تأييد قرابة مائة ضابط واستطاع تحت جنح ظلام ليل ٢٣ يوليو سنة ١٩٥٢م أن يسيطر على السلطة، بينما كان الملك في الإسكندرية والأحزاب تتصارع على الحكم.
لا يتسع المجال لحكم مفصل وحتى لا يكون خلاف فنحن نعترف بأنهم حققوا الكثير، ولكن بجانب هذا فإنهم هم الذين أبدعوا تلفيق الدساتير وتزوير الانتخابات بحيث تصل إلى ٩٩.٩%، وهم الذين فتحوا المعتقلات التي دخلها كل أنماط الشعب (الإخوان.. ضباط سلاح الفرسان.. الشيوعيون.. الصحفيون)، وهم الذين وضعوا مبدأ احتكار السلطة وحكم الحزب الواحد.. وهم الذين استتبعوا النقابات.. وحلوا الأحزاب.. وأشاعوا الرهبة والخوف وكانت نتيجة ذلك قهر إرادة الإنسان المصري، وهي أكبر جريمة يمكن أن يرتكبها أعدى أعداء البلاد ثم ختمت هذا كله بهزيمة ١٩٦٧م، حيث خسر الجيش كل شىء وهزم (وإن لم يكن قد حارب) بحيث مكَّن إسرائيل من أن تحتل سيناء وتصل إلى شاطئ قناة السويس وتحتل القدس.
أشنع هزيمة يمكن لجيش أن يقع فيها.. هزيمة أخّرتنا مائة سنة إلى الوراء.
لقد أوضح هذا المثال أن من المستحيل على الجيش أن يحكم- وحده- الشعب، والمجلس الأعلى للقوات المسلحة يعي هذا، واقرأ مانشيت «المصرى اليوم» (١٤/٢/٢٠١١م- ص ٥)، «خبير عسكرى: قرارات المجلس الأعلى للقوات المسلحة تؤكد أنه لا يطمع في السلطة ويضمن انتقالاً لسلطة مدنية».
واقرأ في «اليوم السابع» (١٥/٢/٢٠١١م- الصفحة الأولى) «محمد حسنين هيكل: على الشعب أن يمنح الجيش فرصة لتحقيق الديمقراطية»، ولماذا لم يقل «على الجيش أن يسمح بمشاركة الثورة، وأن يقدر ظروفها»، هل يريد السيد هيكل أن يعود إلى أيام «بصراحة».
ليسمح ليّ المجلس الأعلى للقوات المسلحة بأن أتقدم باقتراح، أن عليه أن يتصل بقادة الثورة وأن يتوصل الشريكان- الثورة والجيش- إلى تكوين مجلس يمثلهما، ويمكن أن يُضم إليه عدد من الشخصيات الوطنية مثل الدكتور البرادعي والدكتور أحمد زويل ومثل حسب الله الكفراوى ومنصور حسن وأحمد كمال أبوالمجد والقضاة الذين أيدوا الثورة، ويمكن أن يصل أعضاؤه إلى ٢١ أو ٢٩ ليدرس القضايا ويصدر القرارات وأن يتم هذا بسرعة وحسم، فليس فيه مكان للبيروقراطيين أو الأكاديميين، وليكن أول قراراته إلغاء قانون الطوارئ، فهو عار والعار لا يمكن أن يفيد ويجب التطهر منه، وبهذه الطريقة يمكن وضع الدستور الجديد في أسبوعين وليس فى شهرين.
كيف؟ هذا ما سنعالجه في المقال التالى.