تعرف الجمهورية بصفتها دولة بلا ملك يحكمها رئيس يمثل الناس لمدة مؤقتة. ولكن قصة الجمهوريات في العالم العربي سارت بصورة مختلفة عن الهدف الاساسي من قيام الجمهوريات العربية بعد الانقلابات على الانظمة الملكية في الخمسينات والستينات من القرن الماضي. ان افضل تعبير للجمهورية وافضل تبرير لها انها نظام يؤسس لحقوق الشعب ودوره وسيادته في ظل مقدرته على انتخاب رئيس وحكومة لفترة مؤقتة.
لكن جمهورياتنا العربية جاءت بنظام شبيه بالنظام الملكي رغم ثورتها الاساسية على الملكية. اذ لم يتغير النظام السياسي جذريا في ظل الانقلابات العسكرية التي وقعت في الدول العربية. ورغم تغير الاقتصاد نحو الاشتراكية سابقا ونحو الرأسمالية راهنا الا ان علاقة الشعب بالحاكم ودائرة القرار ازدادات ضيقا، والتداول على السلطة لم يقع رغم اقرار الدستور بالديمقراطية. كما و تراجعت حقوق النشر وحقوق التعبير وحق المعارضة ووقعت تعديلات على الدساتير بوسائل غير واضحة تنقصها الشفافية وتقوم على قوة الطرف الذي يمتلك السيطرة على الاجهزة. لقد جاءت الجمهوريات العربية بحاكم مدى الحياة واسرة حاكمة جديدة. هكذا ولدت من رحم الملكيات القديمة ملكيات جديدة بغطاء جمهوري. وهي في هذا لا تشبة المركزية الصينية التي صنعت مؤسسة للرئاسة ليست ديمقراطية ولكنها لا تقوم على رابطة الدم وتخوض تجربة تنموية فريدة من نوعها في عصرنا.
ان التوريث في الانظمة الجمهورية العربية في سوريا ثم امكانية ذلك في كل من مصر وليبيا هو نتاج طبيعي لغياب المؤسسات و الثقة في المجتمع وبين مكوناته وبين نخبه. فرابطة الدم، هي الرابطة الاولية التي تبقى عندما تسقط كل انواع واشكال الثقة الاخرى. ففي بلادنا العربية لازالت رابطة الانجاز والكفاءه والفعالية والمؤسسة والتقاليد المهنية ضعيفة. ففي الغرب، ونتاج للتنوير والعقلانية ونتاج للمؤسسات الراسخة والثقة بين الناس، بدأت رابطة الدم بفقدان قيمتها في السياسة وحتى في التجارة. لم تعد مسألة التوريث في الشأن العام ممكنة و لم تعد العائلة والاسرة والطائفة والقبيلة هي الطريقة لاستمرار المؤسسات ونجاحها. ولو وقع توريث كما وقع في الهند في السابق فيتم من خلال انتخابات مفتوحة وتنافس علني شريف بين قوى متساوية بالقوة والفعالية. لازال واقعنا العربي السياسي في مرحلة ما قبل التاريخ.
وليقع التوريث لا بد من اضعاف الاحزاب والتيارات الاخرى، والعمل لابقائها مشتتة هامشية ضعيفة، ولابد من اضعاف الرأي الاخر مهما كان متواضعا، ولابد من تغير القوانين والدساتير ولابد من استخدام صلاحيات الرئيس لافساح المجال للتوريث. هذا يساهم في محدودية السلطة، فأنت اما مع الشخص الذي سيورث ام ضده، وان كنت ضده خرجت من الحياة السياسية، بكل ما لذلك من اثار سلبية على البلاد والمشاركة والحوافز والكفائة والتنمية. الا يؤسس هذا لامكانية تحويل المعارضة والرأي الاخر الى التطرف؟ الا يضعف هذا افاق التنمية والمستقبل الوطني؟
ان الحكم بصفته خدمة عامة للناس، خدمة عامة للافراد يحددها الشعب بفترة محددة لم تصل بعد للعالم العربي بانظمته الجمهورية والملكية. ان الحاكم بصفته خادم الشعب امر لا نعرفه. ان الاستثناءات قليلة في قضية الخدمة العامة والسياسة العامة والسعي نحو تنمية حقة وبناء وتجديد في الدول العربية. لازال الوضع العربي بالمقلوب، فالحكم في البلاد العربية تعبير عن قائد تخدمه الجماهير وتسعى وراءه الامة بلا رؤية وبرنامج ومشاركة وانتخابات وحقوق. لازالت السياسة في بلادنا تقوم على القوة والاستقواء في دوائر مغلقة وليس امام صناديق الاقتراع. فالذي يسيطر على الحكم يبعد الاخرين نهائيا الى ان تقوم رياح التغير، فيأتي طرف اخر يستأثر ويستقوي ثم يدمر ذاكرة القديم. انها دائرة السياسة المغلقة التي تؤسس لمزيد من العنف والتطرف في البلاد العربية .
انتهى استاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت