أصدر البنك الدولي تقريره “المخيف” عن التعليم في الشرق الأوسط و شمال أفريقيا، ليثبت لنا ما نعرفه جميعا – ربما أفضل من البنك ذاته- بأن المنطقة لا تزال تلهث خلف قريناتها مما كان يسمى بالعالم الثالث، ناهيك عن الثاني و الأول. ولا يحتاج أصحاب القرار إلى تقرير البنك ليفهموا بأن التعليم هو الركيزة الأساسية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والبشرية والسياسية والقضاء على الفقر، هذا إن كان فيهم من يعنى بقراءة مثل هذه التقارير، أو بالقراءة أصلا.
خصصت دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خمسة بالمائة من أجمالي الناتج القومي وعشرين بالمائة من النفقات الحكومية لقطاع التعليم (كمتوسط بين الأربع عشرة دولة تمثل العينة التي يشملها التقرير) وهي نسب تزيد عن تلك التي خصصتها دول أخرها تصنف أيضا كـ “نامية” وتمكنت من تحقيق بعض الإنجازات في سد فجوة التعليم بين الجنسين ومعدلات الالتحاق بالمدارس والتعليم العالي ومؤشرات أخرى، ورغم أنها تتساوى مع دول أمريكا اللاتينية وشرق آسيا على سبيل المثال في مستويات الالتحاق بالتعليم الأساسي إلا أنها تتخلف عنها في معدلات الالتحاق بالتعليم الثانوي وبالتالي في معدل سنوات التحصيل العلمي للطالب والطالبة، بينما تتخلف عن الآخرين كثيرا في معدلات القضاء على أمية البالغين حيث تبلغ نسبة الأمية في مناطقنا ضعفي مثيلاتها في أقرانها “النامية”، كما يبرز مؤشر هام بين السطور يشير إلى أن ثلثي خريجي التعليم العالي في نصف بلدان المنطقة يتخصصون في العلوم الإنسانية والاجتماعية وليس في العلوم الأساسية والرياضيات على عكس شرق آسيا وبدرجة أقل أمريكا اللاتينية ، ولا يخفى على المرء دور التعاطي مع التكنولوجيا الحديثة وتطويعها لخدمة التنمية في نهوض المجتمعات وتطورها.
يشير التقرير إلى ناحية مهمة وهي أن ارتفاع مستويات التحصيل الدراسي عبر العقود الماضية لم يترافق مع نمو اقتصادي موازي للفرد في المنطقة ، بل ووصل المؤشر إلى منطقة “النمو السالب” في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي التي زادت فيها معدلات التحصيل التعليمي وهو تناقض غير مقبول رده التقرير إلى انخفاض المستوى النوعي للتعليم أو انخفاض نسبة التوزيع المتساوي للتعليم وهو ما يتسبب في عدم تحسن مستوى الدخل الفردي للفئات الأكثر فقرا (والأقل فرصا في الحصول على تعليم لائق) وينطبق الأمر ذاته على النمو الاقتصادي بشكله الإجمالي.
وإذ تمكنت بعض الدول من تحسين مستويات الدخول للفئات الأفقر ، ومنها الدول الغنية بالنفط، نظرا لتكرسيها مخصصات ضخمة للضمان الاجتماعي فإن المعدل العام لمستويات القضاء على الفقر لا تزال في مستويات دنيا نظرا لتخلف الاستثمارات فيما يسمى باقتصاد المعرفة الذي يقاس بالمهارات الناتجة عن مخرجات التعليم وقدرتها على النهوض بالتنمية في المجتمع. ولا نريد أن نتشعب كثيرا في تفاصيل التقرير التي تتطرق أيضا إلى أساليب التعليم وسياساته والمستوى الاقتصادي للتعليميين وسياسات التوظيف وغير ذلك ، فهو متوفر لمن يريد قراءته، ولكن لا بد من المرور على مؤشرات مهمة والمتعلقة بإنجازات الدول المعنية، وما يهمني هنا هو وطني العراق تحديدا.
تظهر المؤشرات بأن مصر ولبنان والأردن وتونس تحقق معدلات جيدة في مستويات الالتحاق بالتعليم بينما تتردى هذه المعدلات في العراق وجيبوتي واليمن والمغرب، بينما تحقق أكثر الدول مؤشرات تصل إلى خمس وتسعين بالمائة من معدلات المساواة بين الجنسين في الالتحاق بالتعليم ويستثنى من ذلك مصر والمغرب واليمن والعراق (مرة أخرى)، وتزداد المساواة بين الجنسين في مراحل التعليم الأعلى بل وسجلت بعض البلدان ارتفاع نسب الطالبات على الطلاب في التعليم العالي كما هو الحل في إيران والسعودية ولبنان والكويت والأردن وتونس. وتسجل سوريا والأردن أفضل معدلات المساواة في التعليم مقابل اليمن والعراق (مرة ثالثة) التي تسجل اعلى مستويات التباين. واذ تسجل الأراضي الفلسطينية (قطاع غزة والضفة الغربية) نسبة مائة وست بالمائة في معدلات الكفاءة في إتمام مستوى التعليم الأساسي، فإن جيبوتي لم تحقق أكثر من ست وثلاثين بالمائة. أما في مجال محو أمية البالغين التي سجلت نجاحا بدرجة الضعف بين عام 1970 ويومنا هذا، تسجل الجزائر وتونس والسعودية وإيران أكبر معدلات النجاح مقابل أقلها في العراق (أيضا) وجيبوتي وذلك خلال الخمس وثلاثين عاما الماضية. وتتنافس إيران والأردن على أفضل مستويات الدرجات في العلوم مقابل أقلها في المغرب ولبنان، بينما تتفوق الأردن ولبنان في معدلا درجات الرياضيات مقابل أقلها في المغرب والسعودية.
وفي الإجمالي العام (متوسط جميع المؤشرات التعليمية) تتقدم الأردن والكويت القائمة كونها الأفضل أداء، بينما تقبع العراق وجيبوتي واليمن ووالمغرب في أسفل القائمة، في حين تحتل تونس ولبنان وفلسطين ومصر وإيران والجزائر منتصف القائمة تليها مباشرة سوريا والسعودية . ولا يرتبط النجاح في مؤشرات التعليم بدخل الفرد، وإنما بنجاعة السياسات التعليمية، فنرى دولا ذات دخول فردية أعلى مثل السعودية والجزائر، تتراجع أمام دولة ذات معدلات أقل لدخل الفرد مثل تونس والأردن. وأنصح المهتمين جميعا بقراءة التقرير بتمعن نظرا لتنوع مؤشرات الفشل والنجاح و أسبابه.
كيف تكون دولة فاشلة
أضع هذه البيانات جانبا وأتأمل ما يجري في العراق الذي يبدو هائما في ملكوت آخر، فلم اسمع عبر شاشات التلفزيون و لم أقرأ في الصحف أو على الشبكة أي شيء يتعلق بالتنمية أو خطط خمسية أو عشرية للقضاء على الفقر أو التنمية الاقتصادية و الاجتماعية ، و جل ما أسمع و أرى نقاشات بيزنطية في السياسة ، فالجميع في الحكومة و البرلمان يتحدث عن الاجتثاث و كركوك و العلم الجديد و الدستور و الإرهاب و المصالحة و الأقاليم و البعث و القاعدة و المهدي و عودة هذا أو ذاك الى الحكومة، و لكن لا أحد يتحدث عن الصحة و التعليم و إدارة الموارد المالية و التنمية البشرية و القضاء على الفقر ، و كأنني بالعراق يمر بمرحلة دول الخليج في أوائل الثروة النفطية عندما اعتقدت بان دخل النفط هو الحل السحري لجميع المشاكل، و بأن الأموال ستنزل أمطارا و تغرق الجميع، قبل أن يكتشفوا بالتجربة و الممارسة بأن المال السائل لوحده و الناتج عن ثروة ناضبة يوما ما بدون إدارة رشيدة للإنفاق و الاستثمار في التنمية لا يبني مجتمعات ، بل و يكرس قيما اجتماعية سلبية لا تزال تلك الدول تدفع ضريبتها و حيث تكون الحلول غالبا ترقيعية و ليست جذرية. و تتمثل تلك “النزعة العراقية” في الميزانيات الفلكية و القياسية التي تعلنها الحكومة العراقية ثم تعلن بأن أغلبها لم يستخدم. أما لماذا لم تستخدم المليارات، و لماذا تعجز الحكومة و وزاراتها عن استثمارها، و لماذا أصبحت أموال الوطن مشاعا للفاسدين الجدد ، فأمر لا يحتاج إلى خبراء، فالعقلية التنموية غائبة كليا، و العقلية الوطنية غائبة حتى يتم إثبات حضورها، ناهيك عن سياسات التجهيل و سيادة عقائد الخرافة و نظريات الخلاص الإلهي و الحياة بالبركة. تدعو الحكومة الاستثمار الأجنبي للقدوم إلى العراق، متناسية أو جاهلة بان رأس المال لا يعمل في بلد تغيب فيه سيادة القانون، و تعجز الدولة فيه عن إحالة فاسد و لو كان صغيرا إلى القضاء ، و يدخل مسلحون فيه إلى المنازل لقتل من يشاءون أمام الجميع و في رابعة النهار، و يمكن لمعتوه فيه أن يجمع مئات المسلحين بمجرد الإدعاء بأنه رأى المهدي، و في بلد يعجز النظام التعليمي فيه عن إنتاج قوى عمل تمتلك مهارات عصرية مناسبة تستوعبها تلك الاستثمارات ، و في بلد يتقاضى فيه مسؤول حكومي ( و هو موظف أولا و أخيرا) أو عضو مجلس النواب ( و هو خادم للشعب كما ينبغي) عشرات إضعاف ما يتقاضاه شاب جامعي مؤهل في وظيفة عامة، و لهذا فإن دولا بكل مشاكلها مثل كوستاريكا و الأردن و تونس و فيتنام و كولومبيا و حتى السلطة الفلسطينية، ناهيك عن معظم دول القارة الأفريقية ، تسجل و ستبقى تسجل مؤشرات تنموية أفضل من العراق، و لا أتحدث هنا عن البرازيل أو تشيلي أو سنغافورة أو كوريا أو ماليزيا التي على وشك الالتحاق أو التحقت فعلا بالركب المتقدم .
تتعامل الحكومة مع مثل هذه التقارير الحرفية بتجاهل واضح، و مثال على ذلك رد فعل رئيس الوزراء عند صدور تقرير الكونجرس الأمريكي عن الفساد في العراق، حين نعته على شاشات التلفزيون بالمبالغة، في حين يسير “الفساد” في شوارع الوطن مرفوع الرأس يسرق و ينهب ذات اليمين و ذات الشمال في ظل الخلطة السحرية من الحكام المتأسلمين و المقاولين في ذات الوقت.
و يضع تقرير التعليم الأخير ، الذي تحكم بياناته مؤشرات قاسية، كلا من الحكومة والولايات المتحدة على المحك، فالعراق في مؤخرة الدول في مؤشرات التعليم ابتداء من محو الأمية و حتى المستويات الدراسية العليا، و كلما ارتفع صوت هنا و هناك يتم تدوير اسطوانة النظام السابق و الإرهاب و غير ذلك، و كأن النظام التعليمي القائم لا ينتج الإرهاب يوميا ، من تحجيب طالبات التعليم الأساسي و حتى تحويل الجامعات الى مجالس للعزاء، علما بأن الإرهاب يبدأ فكريا و ينتهي جسديا. و إذا كانت الداخلية و الأمن مشغولة بـ “الإرهاب” فما بال التعليم و التربية و التعليم العالي و الصحة و الصناعة و الكهرباء و البلديات و المياه و البيئة و غيرها بميزانياتها المليارية، و ما يمنعها من التخطيط لمستقبل التنمية غير غياب العقل و الكفاءة وحضور الفساد الذي يقتات على التجهيل و التخلف .
لا أرى أن حكومة العراق الحالية معنية كثيرا بهموم الناس، كما لم تكن سابقاتها كذلك، فالفرد لا يستحق أكثر من الموت جنديا في حرب أو جوعا على برك البترول، و هو جزء من العقيدة الشرقية التي تذيب الفردية في المجموع و تراه وسيلة لا غاية ، كما لا أرى أمريكا التي تمسك بمعظم الخيوط و تدير هذه المسرحية أكثر حرصا، على الأقل من ناحية المسؤولية الأخلاقية عن بلد احتلته و دمرته تماما، و لا أرى المقاومة التي فشلت في أن تكون هما شعبيا بأفضل من حال أعدائها إذ غرقت – حالها حال الحكومة- في شرك الطائفية و التهجير و العنف غير الموجه و انشغلت بمراكمة جثث الأبرياء في الأسواق، بل و عجزت عن الخروج حتى بخطاب وطني تنويري إذ تفرقت بين جماعات تحلم بخلافة الظواهري و أخرى تطالب بإعادة الوضع السابق، و كلاهما فشل و تردي، و كأن العراق لا يستحق أفضل من هذه الاختيارات جميعا. و جميعهم يخطب و يصرخ، و جميعهم متفوق في الإنشاء و البلاغة، و جميعهم يكذب، فهذا يحلم بمخّلص يأتي من الغيب، و ذاك يحلم بإعادة ماض فاشل، و ثالث منشغل بامتصاص الثروات، و آخر يعيش قبل عشرات القرون ، و بينهم جميعا يقبع هذا الشعب الذي يتلقي ركلات الأمريكان و الإرهاب و التخلف و التجهيل و الجوار و الفقر و الحكام السابقين و الحاليين و ربما القادمين. و ظل كل ذلك تبدو التنمية و النهوض بهذا الشعب حلما أقرب إلى المستحيل في المدى القريب على الأقل، فالمقدمات تحكم النتائج و ليس هناك في الأفق من هو قادر على حمل راية التغيير ، أو على تحمل مسؤوليته.
ليس العبرة في أن يكون المرء متفائلا أو متشائما، و لا في أن يجلس في الظل لاعنا ما تقدم و ما تأخر، و لكنها في الوقوف أمام المرآة و مراجعة الذات على الأرض التي أنجبتنا جميعا، ، و نرى أين أخطأنا و أين أصبنا، و من أين نبدأ مرة أخرى، و هذا ينطبق على الجميع.
في مرحلة ما، و عندما يتلاشى خط الفقر في المجتمعات ليشمل جميع طبقاتها، سوف لن يعد هناك من يهتم بمن قتل الحسين أو إن كان عليا أم عمر أحق بالخلافة، أو بظهور المهدي أم عدمه، أو بعلم ذي نجمات أو بدونها، إذ سينقض الجميع على الجميع بحثا عن لقمة الخبز و هنا يأتي الانهيار الحقيقي و ربما لحظة الولادة الجديدة.
لا يتعلق الأمر بصدام حسين أم نوري المالكي، و لا بفيصل أو عبد الكريم قاسم أم عارف فكلهم منتج رديء لنفس الثقافة، و انما بالمجتمع الذي لم يشهد حراكا اقتصاديا و اجتماعيا ينتج التقدم و التغيير. نعم أنجب العراق مفكرين و أدباء و فنانين و علماء، و لكن الحراك الاجتماعي المتراجع تدريجيا ابتلعهم جميعا، فالدور التنويري يبقى سطحيا ما لم ينجب المجتمع نخبا اقتصادية و اجتماعية و علمية تقود مثل هذا التغيير.
أما عن الأمريكان، فليحزموا حقائبهم و يرحلوا و ليدعونا نحل مشاكلنا وحدنا. أهو مزيد من العنف؟ فليكن ذلك، أم هو اجتياح إيراني أم تركي ؟ فليكن أيضا فلن يتمكنوا من العراق على المدى البعيد و إلا لبقي قورش في بابل حتى اليوم. أنخاف الاقتتال الأهلي؟ ها هو قائم بوجودهم أو بعدمه و سيأخذ مداه و ينحسر، فها هم يؤيدون كل أنواع التخلف في العراق و لم ينصروا منذ دخولهم أي تيار حداثي أو تغييري، و لم ينتصروا للوحة أو كتاب أمام العمائم و العصي و البنادق، فلم العناء إذن؟ فالبترول كان لهم في عهد صدام و ما قبله و لا يزال لهم بعده.
نحن نتاج خائب لثقافة غرقت في الميتافيزيقيا و بقيت لقرون تحلم بمخلّص يأتي من ظلمات الغيب، و استبدلتها بنعيم الإيديولوجيات التي مازالت تحلم بمخلّص يأتي من الشرق أو من الغرب أو بصلاح الدين يأتي من العدم و يمتشق الحسام، فالخلاص دائما من الخارج لأن الداخل في سبات لذيذ فأن استيقظ فللقتال من أجل شيء ما لا يمت للواقع بصلة. نتظاهر لأجل فلسطين و ضد الدنمارك، و لكننا لا نتظاهر لأجل الخبز أو الحرية، فالغيب كفيل بهما.
نحن شعوب لا تقاتل من أجل حقوقها الإنسانية، و لكنها دائما تقاتل من أجل أفكار أو أوهام تصفها بالسامية أو المتسامية، و لم نكتشف بعد بأن لا سمو لوطن جائع، عار، لا يقرأ و لا يكتب، و لا يدير ماكنة ، و لا يحفر بئرا، و لا يزرع قمحا، و لا يحفل بحرية أو بحقوق، مجتمع يساوى المرأة بالبقرة، و لا ينتصر لطفل، فعن أية تنمية نتحدث؟
skhalis@yahoo.com
* كاتب عراقي
نشر في ايلاف