في مثل هذا الشهر قبل اربعة اعوام، اي في اليوم التاسع من الشهر التاسع من عام الفين وثمانية، وفي تمام الساعة السادسة والنصف مساءا غادرت الاراضي الايرانية عبر مطار الامام الخميني الدولي على متن رحلة للخطوط الجوية الايرانية (هما) برفقة ابنتي (دانة) نهائيا باتجاه مدينة دبي في دولة الامارات العربية المتحدة تطبيقا للقرار الصادر عن وزارة الثقافة والارشاد الايرانية بعدم تجديد اقامتي وطردي من الاراضي الايرانية بناء على اشارة من وزارة الامن والاستخبارات في هذا البلد. وكنت قد تركت ورائي زوجي وابني بين براثن المجهول مجبرا لان الرأفة الاسلامية التي تعم في الجمهورية الاسلامية لم تمنحني الفرصة لاقوم على ترتيب او الخروج برفقة عائلتي مجتمعة، فكان ان تولت هي مهمة انهاء الامور.
فماذا حدث، ولماذا انتهت الامور بالاجهزة الايرانية الى قرار طردي واخراجي من هذا البلد؟
سأكتفي هنا فقط بسرد ما يتعلق او يدور حول قرار الطرد من مسببات وضغوطات جرت داخل ايران.
اذكر ان وزير الثقافة والارشاد العقيد في الحرس الثوري “محمد حسين صفار هرندي” والقادم الى الوزارة من مجلس ادارة صحيفة “كيهان” الناطقة باسم النظام ومكتب المرشد، قد وجّه دعوة الى كل الصحافيين العاملين في ايران للقاء بمناسبة الذكرى السنوية الثامنة والعشرين لانتصار الثورة الايرانية.
الاحتفال كان في المجمع الامني لمؤسسة الاذاعة والتلفزيون، وكان على الجميع المشاركة والحضور في هذا اللقاء حتى لا تُثار اسئلة حول غيابه.
المبنى ضخم لا يظهر منه فوق سطح الارض سوى بناء هندسي لا يوحي بما يوجد تحته من قاعات واقبية وممرات وانفاق.
في البهو الكبير تحت الارض، قادنا – جماعة الصحفيين- المشرفون الى نفق طويل ومتعرج تنقطع فيه كل اشارات الارسال للهواتف النقالة التي يحملها الداخلون اليه، ما يسقط عن المسؤولين عبء الطلب من الجميع وقف هواتفهم وافقالها، ومع ذلك لم ينس هؤلاء ان يطلبوا ذلك من الحضور.
بدأ الوزير الحاضر بلباس مدني من دون ان يتخلى عن هيئة وتفكير العسكر، وكأنه امام فصيل او كتيبة يتلو عليها امر اليوم، بوصف ايران بانها “فردوس الصحافة والحرية الاعلامية”، واردف بلغة تعبر عن الهدف الذي يريد الوصول اليه من وراء هذا التقديم، بالتأكيد على ان وزارته لن تسمح باي تجاوز قد يقوم به بعض الصحفيين او اي امر قد يمس بالمسلمات الايرانية التي يحددها هو بنفسه او من يقف خلفه من اجهزة امنية ومراكز قوى.
مدير للتوجيه في مؤسسة عسكرية برتبة وزير، هو الوصف الذي ينطبق على هذا الوزير وهو يتوعد رهطا من الصحفيين من كل اصقاع العالم، فهو العاطي والراعي والواهب وكل الصفات الحميدة والجميلة، وكذلك هو المهيمن والقادر والمعاقب وكل صفات القوة والجبروت.
ولم ينس هذا الوزير ان يؤكد على الصحفيين المشاركين في احتفال القوة هذا، ان عليهم التزام الصمت بعد الخروج من القاعة وعدم الحديث عما دار فيها من احاديث تحت طائلة المسؤولية.
“تحت طائلة المسؤولية” مصطلح لم يدرك ابعاده ومفاعيله اكثر من الصحافيين الايرانيين الذين كانوا طعمة لمقصلة النظام السياسية والادارية وحتى الامنية.
“جنّة” هذا النظام مع الاعلام كنت شاهدا عليها في بدايات عملي الاعلامي في ايران، بحكم تعاوني مع احدى الصحف الايرانية المحسوبة على التيار الاصلاحي. وبينما كنت متجها الى مكاتب الصحفية في الساعات الاولى للصباح، لأواجه انتشارا امنيا كثيفا في المنطقة التي تقع فيها مكاتب هذه الصحيفة وصحف اخرى، وكان يبدو عليهم التوتر والعصبية المفرطة، واصوات دراجاتهم النارية تخرق جدار الهدوء والصمت في تلك المحلة.
بداية مُنِعت من دخول المبنى الذي تقع فيه الصحيفة، فاعتزلت جانبا ارقب ما يحدث امامي. وبعد ساعات كان فيها افراد من القوة المحاصرة تدخل وتخرج من المبنى، عرفت لاحقا انها كانت تجري مفاوضات مع مدير التحرير لاقفال الصحيفة بناء على حكم قضائي تحت التهديد والتلويح باعتقاله.
اقفل المبنى، بعدها خرج رئيس التحرير، فاقلّني معه واخبرني ان قرارا صدر عن محكمة الصحافة التابعة للنظام باقفال نحو مئة صحيفة ومجلة اسبوعية وشهرية ودورية في هذا اليوم، من دون اي اعتبار لمسألة مستقبل العاملين فيها.
بالعودة الى ما يتعلق بي ، فان القرار اخراجي من ايران كان قد بدأ التمهيد له باستهدافي في وسائل الاعلام الايرانية انطلاقا من عملي في قناة “العربية”. وقد بدأ الهجوم الاعلامي اثناء الانتخابات البرلمانية التي شهدتها ايران في الشهر الثالث من تلك السنة، اذ عمدت وسائل اعلام النظام ، خاصة المرئية والمسموعة بنقل كل الاحاديث التي اجريتها مع نشرات الاخبار والتقارير التي اعدت من مكتب القناة في ايران او من داخل غرفة الاخبار في المركز الرئيس.
عماد مغنية خط أحمر!
وقد وصفت وسائل الاعلام هذه التقارير والاحاديث المباشرة والهاتفية بانها مغرضة ولا تعكس حقيقة ما يجري على الارض. في الشهر نفسه، وبعد مرور عدة اسابيع على عملية اغتيال القائد العسكري لحزب الله اللبناني على الاراضي السورية، زارني احد المرتبطين بجهاز سكرتير المجلس الاعلى للامن القومي (سعيد جليلي) وابلغني غضب الادارة الايرانية من تعاطي القناة مع خبر الاغتيال ووصفها للرجل بانه احد اهم الارهابيين المطلوبين دوليا بعمليات اغتيال واختطاف وخطف طائرات، واكد لي وبلهجة تحمل الكثير من التهديد بان (“عماد مغنية خط احمر”).
بعد هذا الحادث والحديث، بدا واضحا ان قرارا بمحاصرة مكتب “العربية” قد اتخذ على اعلى المستويات في اروقة الادارة الايرانية. وقد بدأت تباشير هذا الامر من خلال قرار منع مراسلي وفريق تصوير “العربية” من المشاركة في اي نشاط تقوم به الرئاسة الايرانية، بعض النظر كان هذا النشاط مؤتمرا صحفيا للرئيس او مهرجانا او احتفالا يقوم به او تحت رعايته. وقد وصل الامر الى ان “دائرة التراث والسياحة” الايرانية وجهت دعوة لمكتب القناة للمشاركة في احتفال تقيمه برعاية رئيس الجمهورية، ولم تمض عدة ساعات على تلقي الدعوة حتى ورد اتصال من المكتب الاعلامي لرئاسة الجمهورية يطلب عدم ارسال مكتب “العربية” لاي فريق اعلامي للمشاركة في هذا النشاط. لم يقتصر الامر على رئاسة الجمهورية، بل وصل الامر الى وزارة الخارجية التي قلصت الى الحد الادنى من مشاركة فريق “العربية” في الانشطة التي تحدث في هذه الوزارة، اضافة الى صد الابواب في “مجلس الامن القومي” امام عمل “العربية”. وعلى الرغم من كل المراجعات الادارية حول اسباب هذا الحصار، الا ان وزارة الثقافة والارشاد المولجة الاشراف على عمل الصحافة الداخلية والخارجية، لم تقدم اي جواب شاف او مساعدة للخروج من هذا الحصار.
فكان التحدي يكمن في الاستمرار بمتابعة الحدث الايراني بكل تفاصيله وصوره من دون اي خلل. وقد استطعت ان ألتفّ على قرار المحاصرة هذا والحصول على كل ما يتعلق برئاسة الجمهورية ووزارة الخارجية عبر شبكة علاقات مع اعلاميين ايرانيين وغير ايرانيين وقفوا الى جانبي في هذه المحنة.
“قنوات تجارية” لمسؤولين في “مكتب الرئيس نجاد”!
وفي احد الايام، وخلال محاولات معالجة هذه الازمة، اندفع احد المقربين من مكتب رئيس الجمهورية لفتح قناة اتصال معي بما امثله كمكتب للعربية ، وحاول تمرير رسالة واضحة من بعض اقطاب مكتب الرئاسة بان قرار الحصار يمكن ان يرفع عن المكتب في حال نجحت في فتح قنوات “تجارية” فقط لبعض مسؤولي مكتب الرئيس مع اطراف خليجية من دون التطرق الى اي ازمة او مسألة سياسية.
ازدادت وتيرة الهجوم الايراني الرسمي والاعلامي على قناة العربية ومكتبها في ايران بعد ان بثت القناة فيلما مصورا عن عملية الاعدام التي قامت بها جماعة “جند الله” الايراني في محافظة “سيستان وبلوشستان” باعدام عنصرين من “الحرس الثوري” كانت قد اعتلقتهما في وقت سابق. ومن دون سابق انذار، تلقيت اتصالا هاتفيا في الصباح الباكر من مدير عام الصحافة الاجنبية في وزارة الثقافة والارشاد “محسن مقدس زاده” يطلب مني الحضور الى مكتبه على وجه السرعة. وفي بداية اللقاء بيني وبينه وقبل الجلوس وجه كلامه مخاطبا بحدة “هل سيكون من الواجب علي ان اجمع كل موظفي مكتب “العربية” في طهران واوقفهم الى الحائط واهدد بقتلهم او اطلق النار عليهم حتى تمتنع “العربية” عن بث مثل هذه الصور؟ وهل المطلوب هو الرد بالمثل؟”.
وبعد ان هدّأت من روعه اكدت له ان “العربية” لم تقم سوى بعملها الاعلامي وان بث الشريط المصور لا يعني ان القناة هي التي قامت بعملية الخطف او الاعدام”. بعدها، أراني طلبا موقعا من القائد الاعلى لقوات الشرطة والامن الداخلي والعام في ايران فيه خلاصة ما وصل اليه اجتماع امني في وزارة الداخلية، ويطلب فيه اصدار قرار بافقال مكتب “العربية” واحالة مدير المكتب على المحاكمة. الرسالة التي رأيتها كنت تحمل شعار جهاز الشرطة والامن العام واسم وزارة الداخلية ومختومة بخاتم قائد هذه القوات. ثم اردف بالقول ان جهودا مضنية بذلها من اجل اقناع الجهة المعنية بضرورة التروي في تطبيق هذا القرار. وبعد نقاش شاق ومتشعب، انتهى الى انه سيقوم بالرد على هذه المراسلة ويطلب فيها التريث في هذا الطلب وعدم تطبيقه.
في مطلع ايار من العام نفسه ، وخلال مشاركتي في احتفالية اسبوع “المدى” الثقافي في العاصمة العراقية بغداد، بدأ هجوم من نوع اخر على مكتب قناة “العربية” في طهران والقناة نفسها، من خلال رسالة وجهها رئيس تحرير وكالة “مهر” للانباء شبه الرسمية، “حسن هاني زاده”، اعترض فيها على وصف وكالته بانها مقربة من مؤسسة حرس الثورة الاسلامية العسكرية. وحمل المكتب مسؤولية هذا الامر. وبعد استيعاب هذا الهجوم، والتأكيد له ما كان يعرفه مسبقا من ان اطلاق هذه الصفة على الوكالة لا يتعلق بقناة “العربية”، لان كل وكالات الانباء الدولية تعتمد هذا التوصيف وان الهجوم على القناة غير مسوغ.
في هذه الاثناء، شهدت الساحة اللبنانية تطورا خطيراً تمثل بالاجتياح الذي قام به حزب الله والقوى المتحالفة معه على مدينة بيروت واحتلالها في السابع من ايار. فلم تجد وسائل الاعلام والادارة الرسمية الايرانية امامها سوى الهجوم على “العربية” واعتبارها مسؤولة عن تشويه صورة المقاومة وايران وحلفائها. ووصلت الامور الى أنه تم بحث الموضوع في اجتماعات قيادة اركان القوات المسلحة الايرانية، وكان الاتجاه داخل هذه القيادة باتخاذ قرار باقفال مكتب “العربية” كرد على الخط الاعلامي الذي اعتمدته في متابعة التطورات اللبنانية.
ومن خلال احد الاصدقاء، جرى لقاء مع نائب قائد الاركان، اللواء “غلام علي رشيد”، واستطعت تخفيف حدة الموقف السلبي من مكتب “العربية” في طهران. وبقي طلب اقفال المكتب عالقا بين قيادة الاركان ودائرة الصحافة الاجنبية في وزارة الثقافة والارشاد. في هذه الاثناء بدأت حملات من نوع اخر ضد القناة ومكتبها في طهران، خاصة بعد ان قامت القناة ببث فيلم وثائقي من اعداد مؤسسة “البي بي سي” البريطانية عن الثورة الاسلامية والامام الخميني. واعتبر المهاجمون ان قناة “العربية” تتحمل مسؤولية تشويه صورة الامام الخميني في منحى عدائي مع الجمهورية الايرانية وثورتها الاسلامية.
المعترضون على الفيلم الوثائقي لم يسمعوا او ارادوا ان لا يسمعوا ان الفيلم من انتاج “البي بي سي”، واستغلوا المناسبة للهجوم على قناة “العربية “ووضعوا الامر في اطار اعلان حرب اعلامية ضد ايران وثورتها.
في هذه الاثناء وصلتني رسالة من الادارة في مركز القناة ، فيها صور لمسجد لـ”اهل السنّة” تم تدميره في “محافظة سيستان وبلوشستان” يسألني المرسل فيه عن الموضوع ومدى مصداقيته . فقلت في الرد ان الامر ابعد من ذلك وان ما يجري يتجاوز هذا الامر. لكن موجة الهجوم على قناة “العربية” كبيرة وواسعة ويعمل على تسويقها بانها حرب تستهدف “ايران الشيعية”، واننا في مكتب طهران نتعرض لهجوم قاس في وسائل الاعلام. فان رأت “العربية” بث التقرير فلا اشكال، لكن عليهم اخذ ما ذكرته بعين الاعتبار. الرد من المركز كان متفهما ومسؤولا ولم يتم عرض الصور او التعامل مع الموضوع.
موقع “فيلكا إسرائيل” التابع لحزب الله
وخلال اجازة ادارية سافرت فيها الى بيروت لاسباب عائلية اذ كانت زوجي في المستشفى، تلقيت اتصالا هاتفيا من احد الاعلاميين الايرانيين المقربين من دوائر الامن والاستخبارات يقول فيه ان موقعا باسم “فليكا” نشر اتهامات لي بانني اعمل لصالح المخابرات السعودية ضد ايران. فقلت له ان صاحب الموقع معروف ومسجل باسم احد اللبنانيين التابعين لحزب الله في كندا، وهذه اتهامات لا قيمة لها.
في هذه الاثناء ارتفعت وتيرة الهجمة الاعلامية والسياسية على قناة “العربية” ومكتبها في ايران وبالتحديد عليّ شخصيا. ودخل على خط الحملات السياسية برلمانيون وسياسيون في الحكومة الايرانية، فطالب رئيس لجنة الامن القومي والسياسية الخارجية في البرلمان “علاء الدين بروجوردي” باقفال مكتب العربية وطرد مراسلها من ايران، ولحق به عضو اخر في اللجنة، “حاجي بابائي”، بلهجة اكثر حدة متهما “العربية” والمكتب بالتأمر على ايران وثورتها لخدمة اهداف امريكية واسرائيلية.
بالتزامن مع هذه الهجمة، اصدر احد عشر تشكلا طلابيا تابعا للتيار المحافظ بيانا طالبوا فيه وزارة الارشاد باتخاذ خطوات عملية تنتهي باقفال مكتب “العربية” ومحاكمة مدير مكتبها وطرده من ايران، ودعوا الى التظاهر امام المكتب في طهران.
امام هذا الامر، وفي خطوة احترازية قمت بدعوة موظفي المكتب الى اجتماع طلبت فيه امرا واحدا خلاصته ان عليهم توخي الحيطة والحذر اثناء تواجدهم في المكتب وان لا يعمدوا الى الرد على أي استفزاز، وفي حال شاهدوا تجمعا امام المكتب فما عليهم سوى القيام باقفال ابواب المكتب والخروج منه اذا استطاعوا ذلك او اللجوء الى سطح المبنى وعدم اعتراض أي شخص قد يقوم بمهاجمة المكتب.
بالتزامن مع هذه الهجمة، كنت في تلك الفترة ايضا اتابع مع وزارة التعليم العالي وجامعة العلامة الطباطبائي للعلوم الانسانية موضوع تسجيلي في مرحلة الدكتوراه في الادب الفارسي. وكنت قد حصلت على موافقة الجامعة على البدء بدراسة الفصل الاول من السنة الجامعة، وكان علي ان احصل على موافقة وزارة التعليم النهائية للمباشرة في الالتحاق. في الوزارة، اصطدمت بعقبة ان الموافقة النهائية تواجه اشكالية ولا بد من الحصول على موافقة دائرة الامن في هذه الوزارة لحلها وان الموافقة المبدئية التي حصلت عليها سابقا والتي مهدت للحصول على موافقة الجامعة لا تكفي لمباشرة الدراسة.
اللبناني الشيعي هل هو عميل إيراني بالفطرة؟
بعدها طلب مني التواصل مع المسؤول القنصلي في الوزارة والمسؤول عن تسهيل اقامات الطلاب الاجانب في الوزارة، وهو شخص تعينه الاجهزة الامنية ومرجعيته وزارة الامن مباشرة. وفي الجلسة دخل معي في مساومة مكشوفة تتعلق بالتعامل مع الاجهزة الامنية من منطلق عملي في الوسط الاعلامي انطلاقا من كوني شيعيا ولبنانيا، او الاختيار بين العمل في المجال الاعلامي او المتابعة في الدراسة، وانني في حال قبولي بمبدأ التعاون فانه سيضمن لي مستوى عالياً من التعاون من قبل الاجهزة والادارات الايرانية، وانني سأكون قادرا على الوصول الى مراكز القرار بكل سهولة على غرار ما يتمتع به بعض الاعلاميين غير الايرانيين.
كان ردي عليه واضحا وغير موارب: “كوني لبنانيا وشيعيا فهذا لا يعني ان اكون عميلا ايرانيا بالفطرة او بالتكوين، وكوني انتمي الى هذين المكونين فهذا لا يعني انني تابع او منتمٍ لحزب الله! واذا ما كان ثمن متابعة دراستي ان اتعامل مع الاستخبارات الايرانية، فانني وبكل صراحة وبساطة لا افضل شيئا على استقلاليتي وارفض ان اكون عميلا او مخبرا ليس فقط لدى ايران بل حتى لدى اقرب الناس لي”. انتهى اللقاء بان تم تصديق قرار حرماني من متابعة الدراسة كعقوبة لي على عدم تعاوني مع هذه الاجهزة.
لا انكر هنا انني كنت “صحفيا مشاغبا” في ايران، لكن تحت سقف القانون، ومدركا للخطوط الحمر التي تحفظ لي خط الرجعة ولا اتجاوزها. وكما كنت طالبا مشاغبا ايضا، فكتبت عن الحركة الطلابية وازماتها ومحاولات النظام على تفتيتها وشرذمتها واخراجها من دائرة التيار الاصلاحي، وقد نجح في ذلك الى حد كبير.
وقد كنت مشاغبا ايضا لانني الصحفي والطالب اللبناني الوحيد الذي دخل الى مجال العمل الاعلامي والدراسة الجامعية في ايران من خارج دائرة حزب الله اللبناني، الذي كان يعتبر نفسه المعبر الحصري لدخول أي لبناني الى الساحة الايرانية، خاصة وانني كنت معروفا بمواقفي المخالفة لحزب الله قبل مغادرتي لبنان.
جريدة “كيهان”: ناطقة بلسان “المرشد” والأمن
التصعيد السياسي رافقه تصعيد اعلامي، هذه المرة طالني شخصيا. وبناء على ما نشر في موقع “فيلكا”، قامت صحيفة “كيهان” الخاضعة لاشراف المرشد الاعلى للنظام الايراني وبادارة واحد من مفاتيح الاجهزة الامنية الايراني “حسين شريعتمداري”، بنشر مقالة على الصفحة الثانية منها يتحدث عن علاقتي بجهاز مخابرات خليجي، وانني اعتبر ضابط ارتباط بين الاصلاحيين وسفير احدى الدول الخليجية في طهران، وانني تلقيت تدريبا لمدة شهرين في احدى مدن هذه الدولة على اساليب كتابة التقارير والعمل الاستخباراتي، وانني كنت ارسل التقارير الاستخباراتية التي اكتبها إلى أحد قيادات هذه الدولة الذي يقوم بدوره بنقلها الى المخابرات الامريكية والاسرائيلية.
هذه الصحيفة لم تكتف بهذه الاتهامات، بل اتهمتني بالعلاقة بمجموعة “السيد مهدي هاشمي“، وانني متورط في فضيحة “ايران غيت” في النصف الثاني من عقد الثمانينيات من القرن الماضي وقد توليت مهمة النشر الاعلامي لتفاصيل زيارة “ماكفرلين” الى ايران. وطالبت “كيهان” بطرد هذا “الجاسوس” واقفال “وكر الاستخبارات” المفتوح في ايران باسم “العربية”.
ما نشرته صحيفة “كيهان” تحول الى مادة اعلامية تلقفتها كل الصحافة التابعة للتيار المحافظ او صحافة النظام. وتحوّل من كان بالامس يدعي الصداقة من الاعلاميين الايرانيين الى مدافعين عن النظام مطالبين بطرد “العميل الخليجي” عن الاراضي “المقدسة” للجمهورية الاسلامية الايرانية.
في المقابل، بدأت معركة اعلامية من نوع اخر بين صحافة النظام وصحافة التيار الاصلاحي التي وجدت مادة سجالية مع المحافظين ودفاعا عن حرية الاعلام، فتبنت هذه الصحافة مهمة الدفاع عني وعن قناة “العربية” الى الحد الذي حوّل الامر الى معركة يومية بين رد ورد مقابل على صفحات الصحف الاصلاحية والمحافظة.
قبيل هذه المعركة الاعلامية والاتهامات المتبادلة، وفي الاسبوع الاخير من شهر اب/ اغسطس، كنت قد تقدمت من دائرة الصحافة الاجنبية بجواز سفري لتجديد اذن الخروج والعودة من ايران، على امل ان استلم وثيقة السفر بعد يومين لاسافر الى مدينة “دبي” واستلم هنا مخصصات موظفي مكتب “العربية” بعد ان تعذرت عملية تحويل هذه الرواتب بسبب العقوبات الاقتصادية المفروضة على ايران . وبعد مراجعات عدة مستفسرا عن اسباب التأخير في اصدار اذن السفر، كان الرد بان هناك اشكالية ادارية لا بد انها ستحل في الايام المقبلة.
في اليوم الاول من شهر ايلول / سبتمبر 2008، ذهبت الى مبنى دائرة الصحافة الاجنبية على امل استلام وثيقة سفري. ابلغتني مساعدة المدير العام للدائرة ان الدائرة الامنية في وزارة الارشاد لا تريد اصدار اذن بالسفر وان المدير العام يريدني غدا ان التقيه في مكتبه.
في اليوم التالي، وبناء على الموعد المحدد مسبقا في الساعة التاسعة صباحا، كنت على باب مكتب المدير العام. دخلت اليه، وكان يأمل ان يسمع كلاما معسولا فيه الكثير من التوسل. الا انه وبعد ابلاغي بقرار عدم منحي اذنا بالسفر وان القرار لا يقتصر على هذا الحد، بل يتعداه الى عدم تجديد اقامتي على الاراضي الايرانية التي بقي على انتهائها اقل من شهرين، سمع كلاما مختلفا عن التهديدات التي تعرضت لها، وعن كل محاولات التجنيد التي كنت عرضة لها، والابتزازات والتلميحات التي سمعتها، “الا انكم في الادارة الايرانية لا تعرفون التعامل مع احرار وما تعرفونه لا يتعدى العملاء والمتملقين والمنتفعين”!
في ختام الجلسة، ابلغني بانهاء اجازة عملي على الاراضي الايرانية، وان وزارة الامن ستحتفظ بوثيقة سفري الى حين ابلاغ ادارته بموعد سفري ومغادرتي ايران، وانني ساكون قادرا على استعادة هذه الوثيقة قبل ثمانية واربعين ساعة من موعد رحلة الطيران.
اتصلت بادارة قناة “العربية” وابلغتهم بالقرار الايراني وانني ساغادر ايران على اول رحلة احصل فيها على مقعد. فكان اول واقرب موعد حصلت عليه في التاسع من الشهر التاسع من عام 2008.
قبل سفري بيوم، أي في اليوم الثامن من شهر سبتمبر، اتصلت بأحد كبار المسؤولين في دائرة القرار الايراني لاودعه قبل رحلة العودة. ابدى تعجبه من القرار الذي سمعه عبر وسائل الاعلام الرسمية، وطلب مني ان التقيه في مكتبه في محاولة لحل الاشكالية التي حصلت. وامام الحاحه وتأكيده عدم حدوث أي خلل في سفري، خاصة وانني وفي محاولة اعتقد انها كانت ساذجة لتضليل موعد سفري، قمت بالحجز على رحلة على طيران الامارات في الصباح الباكر من يوم الثلاثاء وحجزت مقعدا على رحلة للطيران الايراني في اليوم نفسه، وافقت على اللقاء به في صباح يوم التاسع من سبتمبر الساعة التاسعة صباحا.
في صباح ذلك اليوم دخلت الى مبنى البرلمان الايراني لاجد ان اجراءات قد اتخذت لاستقبالي اعرف انها خاصة بالمسؤولين وكبار المسؤولين . ارشدني المرافق الذي استقبلني عند المدخل الرئيس للمجمع البرلماني وقادني الى مبنى رئاسة البرلمان. وهنا استقبلني هذا الرجل لاجد في صحبته رئيس لجنة الامن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان “علاء الدين بروجوردي”، الذي تم استدعاؤه من داخل جلسة كان يعقدها البرلمان ذلك الصباح. وكان السؤال الاول الذي واجهني به هذا الرجل عن اسباب هذا القرار، فحدثته عن تصريحات الرجل الجالس الى جانبه دون ان اسمه، في اشارة الى “بروجوردي”، الذي انتفض معترضا على اسلوب الكلام معه! فاكلمت حديثي متحدثا بصراحة ووضوح عن الابتزاز المالي والاستخباراتي الذي تعرضت له من قبل الادارات الرسمية، بدءاً من مكتب رئيس الجمهورية وصولا الى دائرة الصحافة الاجنبية في وزارة الارشاد.
قلت له ان قرار اخراجي وطردي من ايران قرار ذكي! فالجهة التي اتخذته تعلم انني المراسل الوحيد في المكتب الى جانب مهمتي كمدير له، وانها بقرارها هذا يمكنها ان تقول انها لم تقفل مكتب “العربية” لكنها اخرجت مراسلها من ايران، فتكون بذلك اصابت هدفين: اقفلت المكتب بشكل غير مباشر وتخلصت من صحفي غير مطيع. لكن القرار في النهاية لن يكون في صالح ايران اعلاميا، لانها تخسر فرصة ايصالها رأيها في مقابل الاراء المعارضة لها من الخارج، وان “العربية” تعتبر احد اهم المنابر الاعلامية العربية وقطع التواصل معها يعتبر خطأ سياسيا واعلاميا كبيرا.
انتهت الجلسة بان يقوم هو ببذل جهوده لالغاء القرار واعادة فتح مكتب “العربية” من خلال المتابعة مع الدائرة المختصة في وزارة الامن. وانا اكثر اصرارا على الخروج من هذه البؤرة التي اكتشفت ان اقامتي فيها طالت اكثر من اللازم.
خرجت من مكتبه غير اسف على نظام لا يعرف التعامل سوى مع العملاء والتابعين كما قلت له، لاصل مساء ذلك اليوم الى “دبي” في رحلة يمكن وصفها انها كانت رحلة فيها الكثير من الاحباط والقليل من الفرح المقترن فقط بتعزيز هامش الحرية في الحديث عن ايران وطموحاتها واطماعها من دون خوف او مواربة او تلميح يفرضه وجودي داخل هذا البلد.
fahs.hassan@gmail.com
إعلامي لبناني – دبي
الاحداث التي سبقت ورافقت قرار طردي من ايران
انت تعرف ان ايران لا تريد ولا تتبنى الا خونة اوطانهم كحزب اللات ومن والاه ومن يدور في فلكها بحجج واهية وخادعة تتملق بها للشعوب المحرومة والمظلومة وتستثمرها لصالحها وتتفاهم بها مع الغرب لقبولها كدولة محورية غير ان مشروعها قرووسطي لا يتناسب مع حرية الانسان من العقائد المفجرة للنوازع الهوجاء والغوغاء.