الآن، وبعد أن تم التوقيع على الاتفاق النووي مع «مجموعة الخمسة زائد واحد»، تستعد الغالبية العظمى من الإيرانيين للاحتفال بما يسمونه بـ”العيد النووي”، وذلك وسط توقعاتهم بأن يؤدي الاتفاق وبسرعة إلى تحسين ظروفهم المعيشية وتسهيل التجارة مع العالم الخارجي وإنهاء سنوات من المعاناة الاقتصادية والإذلال السياسي والعزلة. إلا أن العديد من الأسئلة لا تزال مطروحة حول الطريقة التي سيرد فيها قادتهم على الصفقة وتداعياتها، سواء على الصعيد المحلي أو من حيث سياسات طهران القائمة على التدخل في المنطقة. وبالفعل، في خطاب تم بثه على شاشة التلفزيون الوطني، أشاد الرئيس الإيراني حسن روحاني بالاتفاق مدعياً أن إيران حققت جميع أهدافها في المفاوضات. وليس هناك شك في أنه سيستمتع بالاحتفالات العامة التي من المتوقع أن تستقطب مئات الآلاف من الأشخاص إلى شوارع طهران وغيرها من المدن الكبيرة، معتبراً أن هذه الاحتفالات دليل على التقدير الذي يستحقه على ما أنجزه في العامين الماضيين.
لكن، من المؤكد أن يكون رد فعل المرشد الأعلى علي خامنئي على هذه التطورات مختلفاً تماماً، إذ من المرجح أن يراقب الاحتفالات المبتهجة بقلق بالغ وأن يعمد على تأخير أي تصريحات علنية مباشرة حول الصفقة. وحتى عندما يعلّق على الأمر، من غير المرجح أن يصوّر الاتفاق على أنه انتصار كبير لأي من الجانبين. فبالنسبة إلى روحاني وأولئك الذين صوتوا لصالحه في عام 2013، يشكل الاتفاق النووي وضعاً يفوز فيه الطرفان، وخلاف ذلك كانت إيران قد دخلت في مواجهة خطرة مع الغرب. لكن بالنسبة لخامنئي، إن هذا الاتفاق هو أشبه بحالة “وقف إطلاق النار”، التي يُعلق فيها النزاع لاختبار ما إذا كان “العدو” قد غيّر فعلاً من موقفه تجاه الجمهورية الإسلامية.
وفي هذا الصدد، يُرجح أن يكون رد فعل إيران مشابه لردّها على المعايير المؤقتة التي أُعلن عنها في لوزان في 2 نيسان/إبريل. ففي ذلك الوقت، امتلأت الشوارع بالمواطنين الفرحين، وظهر الرئيس روحاني بسرعة على شاشة التلفزيون وأعلن بلهجة المنتصر: “لقد خطونا الخطوة الثانية: ستتم حماية حقوقنا النووية وسيتم رفع العقوبات”. ومع ذلك، عزف خامنئي عن التعليق لمدة أسبوع، ثم قلل من أهمية الاتفاق المبدئي في الخطاب الذي ألقاه في 9 نيسان/إبريل، ووصفه بأنه “غير ملزم”، مدعياً أن أوروبا لم توافق على أحكام الولايات المتحدة، ومتهماً واشنطن بالكذب بشأن استعداد طهران للسماح بإجراء عمليات تفتيش في المنشآت العسكرية. أما رد فعل وسائل الإعلام فقد كان مختلطاً أيضاً. ففي حين أشادت الصحف الإصلاحية بفريق المفاوضين، ركزت وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الدولة مثل صحيفة “كيهان” على التفريق ما بين التفسير الأمريكي ومقابله الإيراني لـ”صحيفة الوقائع” الأمريكية مشككة في نوايا «مجموعة الخمسة زائد واحد».
وفي [يوم الإعلان عن الاتفاق النووي] في 14 تموز/يوليو، بدا أن ردود الفعل الأولية لوسائل الإعلام الرسمية على الاتفاق تسير في اتجاه مماثل. ويشير ذلك، إلى جانب علامات داخلية أخرى، إلى أن روحاني سيواجه تحدياً صعباً في الأسابيع والأشهر المقبلة، لأنه “سيقع” ما بين الشبهات المتشددة وتوقعات الجمهور المبالغ فيها.
الاتفاق النووي يشكل أداة تعامل بالنسبة لخامنئي
طوال فترة المفاوضات مع «مجموعة الخمسة زائد واحد»، سعى خامنئي إلى أن يكون له كامل النصيب: فهو ينظر إلى المحادثات على أنها محدودة للغاية بالقضايا النووية، وتستثني المسائل الأخرى المتنازع عليها مع الغرب، ولكن في الوقت نفسه يتوقع من واشنطن وشركائها إنهاء كافة الضغوط الاقتصادية على إيران، حتى لأسباب غير نووية مثل رعاية الإرهاب. وتقوم مبرراته في السماح باستمرار المحادثات، على أن التوصل إلى حل وسط حول البرنامج النووي سيجبر الغرب على التوقف عن استخدام هذه القضية كـ “ذريعة” لمواصلة الضغط على إيران. ولكن التسوية النووية لا تعني أن طهران ستغيّر من سياساتها الإقليمية.
على سبيل المثال، في اجتماع جرى في 12 تموز/يوليو مع مجموعة من طلاب الجامعات، سُئل خامنئي كيف ستؤثر الصفقة النووية على صراع الجمهورية الإسلامية ضد “الغطرسة”، وهو مصطلح ابتدعه الإسلاميون للإشارة إلى قوة الغرب ونفوذه، وعادة ما يكون معادلاً لاستخدام اليساريين للـ”رأسمالية”. فردّ المرشد الأعلى قائلاً: “هل المعركة ضد الغطرسة قابلة للتعليق؟ فالقتال ضد الغطرسة، القتال ضد النظام السائد، لا يمكن تعليقه… هذا هو إحدى مبادئ الثورة. فمن دون القتال ضد الغطرسة لن نكون من أتباع القرآن الكريم… إن الولايات المتحدة تجسد هذه الغطرسة بامتياز … لقد أبلغنا المسؤولين الشرفاء الذين تفاوضوا بشأن القضية النووية… أنهم مخوّلون للتفاوض فقط حول القضية النووية، ولا يتمتعون بأي صلاحيات للتفاوض حول قضايا أخرى، وهم لا يفعلوا ذلك. ويثير الطرف الآخر أحياناً مسألة سوريا واليمن وما شابه ذلك، ولكن [المفاوضين الإيرانيين] يجيبون ‘نحن لن نتحدث معكم عن هذه الأمور’ “. وختم حديثه قائلاً للجمهور: “استعدوا لمواصلة قتالكم ضد الغطرسة”.
وضع روحاني المحفوف بالمخاطر
على الرغم من أن روحاني وحكومته لا يلعبان دوراً كبيراً في صناعة القرارات المتعلقة بسياسة إيران الإقليمية، إلا أنه سعى إلى تصوير المحادثات النووية على أنها ذات تأثير معاكس تماماً. ففي 3 نيسان/إبريل وصف اتفاق الإطار الذي تم التوصل إليه في لوزان بأنه يشكل “خطوة أولى نحو بناء علاقة جديدة مع العالم”. وفي الكلمة التي ألقاها في الرابع عشر من تموز/يوليو قال: “إن تنفيذ الاتفاق هو اختبار. وإذا تم تنفيذ هذا الاتفاق بدقة، فبإمكانه أن يزيل الحجارة – تدريجياً – من جدار عدم الثقة”. ورغم أنه من المحتمل أن إشارته إلى “التنفيذ” كانت تهدف على الأرجح إلى تخفيف التوقعات، إلا أنه واصل استخدام اللهجة الانتصارية عندما توجه إلى جيران إيران العرب وقال لهم: “لا تدعوا إسرائيل تخدعكم، فنحن نعتبر أن أمن واستقرار المنطقة هو أمننا واستقرارنا … إن علاقاتنا معكم قد بدأت اليوم بداية جديدة”.
ومع ذلك، قد يكون روحاني أفضل حالاً إذا ركز على الآثار الاقتصادية طويلة المدى المحتملة للصفقة، وذلك لأن الواقع يبقى أن نفوذه محدود على «الحرس الثوري الإسلامي» وغيره من المنظمات التي تنطوي تحت لواء المرشد الأعلى والتي تشارك في تحديد نشاطات طهران في الخارج. فإذا ركّز على السياسة الإقليمية ولكنه فشل في إثبات أن الاتفاق تحوّلي حقاً عندما يتعلق الأمر باتخاذ إيران قرارات متسرعة تجرها إلى المغامرة، فقد تثبت القوى الغربية أنها غير مستعدة لرفع العديد من العقوبات غير النووية عن طهران. وفي هذا الصدد، من المرجح أن يعتقد خامنئي أن بإمكانه الضغط على روحاني دون إلحاق الضرر بمكانته الخاصة. وبما أن المرشد الأعلى تجنب بعناية تحمل المسؤولية المباشرة عن الاتفاق النووي، فإن أي رد فعل غربي معادي لسياسات إيران في الشرق الأوسط من شأنه أن “يثبت” فقط الشكوك التي عبّر عنها مراراً وتكراراً وهي: أن هدف الغرب في النهاية هو الجمهورية الإسلامية وليس البرنامج النووي، وأنه من غير المنطقي المساومة على القضية النووية مع الاستمرار في تحمل الضغط في القضايا الأخرى. إن مثل هذه النتيجة ستؤدي بالتأكيد إلى وضع المستقبل السياسي للرئيس روحاني في خطر.
وفي الواقع انتقد المتشددون بالفعل حكومة روحاني لتصويرها الاتفاق على أنه انتصار ولتحريضها الأشخاص للاحتفال به. ففي 13 تموز/يوليو، اعتبر موقع “راجان” الأخباري، التابع لـ”جبهة استقرار الثورة الاسلامية” وهي مجموعة متشددة مقربة من المفاوض النووي السابق سعيد جليلي ورجل الدين البارز آية الله محمد تقي مصباح اليزدي، أنه “بناءً على أخبار غير رسمية عن مضمون المفاوضات، فإن الاتفاق المرتقب سيعلّق عملياً الصناعة النووية… ويحوّلها إلى صناعة تزيينية ويغلق بعض أجزائها الهامة”. وادعى المقال بأن عبارة “العيد النووي” كان من المفترض أصلاً أن تصف التقدم الذي أُحرز بمشقة نحو استكمال دورة الوقود النووي، وأن حكومة روحاني تسيء حالياً استخدام هذه الكلمات لتعني أمراً مختلفاً تماماً.
وأتت طبعة صحيفة “كيهان” الصادرة في 14 تموز/يوليو مشككة بشكل مماثل بالاتفاق. ففي مقالها الرئيسي اعتبرت أن الاتفاق الوشيك “سيدوم حوالي عقد من الزمن، ونظراً إلى السجل السابق للأمريكيين وعاداتهم في الالتزام بالاتفاقات، فإنه سيشكل تحدياً كبيراً. ومن هذا المنظور، سيكون من التفاؤل الزائد وحتى السذاجة الاعتقاد بأن الصفقة هي نهاية التحدي النووي”. وفي افتتاحيتها بعنوان “اتفاقيات شُهدتها أمتنا من قبل”، أصر المقال على أن الاحتفال بهذا الاتفاق سيكون خطأً، مثله مثل الاحتفال بمعايير لوزان المؤقتة. وإلى جانب التأكيد على الغدر الأمريكي طويل الأمد، أوضح المقال سبب عدم [قدرة] الاتفاق على تغيير الوضع الاقتصادي الإيراني بصورة جذرية، بقوله: “من المؤكد أن تؤدي الصفقة إلى خفض سعر النفط، وللأسف تشكل صادرات النفط في الوقت الحالي الركيزة الأساسية لاقتصادنا… كما ومن شأن تخفيف العقوبات بصورة تدريجية خلال العام المقبل أن يشمل 13 في المائة على الأكثر من جميع العقوبات… [و] قد يتوجب على المستثمرين الأجانب الانتظار ستة أشهر لمعرفة ما إذا كان سيتم تمديد تعليق العقوبات أم لا… أما البعد الثالث فهو متضمن في ضغط الولايات المتحدة على بعض الشركات لمنعها من الاستثمار في ايران. ويكمن البعد الرابع في مشكلة المعاملات المصرفية … فمن غير المرجح أن يوافق الكونغرس الأمريكي على الصفقة، لذلك سيدخل الاتفاق بأكمله في الغموض لدرجة يصبح فيها غير ملزم بالنسبة للولايات المتحدة، حتى ويمكن للرئيس القادم ألا يلتزم به”. وبناءً على ذلك، طلبت الافتتاحية من الحكومة السيطرة على “الإثارة” الكاذبة وانتقدت أولئك الذين قد يغيّرون وجهات نظرهم حول الولايات المتحدة بعد التوصل إلى اتفاق: “شعبنا من أتباع الإمام [خامنئي] الذي قال ‘كن حذراً من العدو حتى بعد الاتفاق والسلام لأن العدو يقترب فقط لكي يشن هجوم مفاجئ’ “.
وبينما يبدو أن وسائل الإعلام الحكومية الخاضعة لسيطرة خامنئي ومختلف وسائل الإعلام الأخرى الواقعة تحت سيطرة المتشددين تستعد لتفسير هذه الصفقة على أنها تشكل خسارة لإيران، إلا أنه ليس هناك عدد كبير من الوسائل متاحاً أمام روحاني للتواصل مع أبناء الشعب وتوجيه الأخبار لتصب في صالحه. فحتى زملائه الإصلاحيين انتقدوا بشدة فريقه الإعلامي كونه الأضعف، مقارنة مع الرؤساء السابقين. وبما أن روحاني أثار بالفعل توقعات الجمهور حول الأثر الاقتصادي المباشر للصفقة، فقد يستخدم المتشددون الوتيرة الفعلية للتحسينات الاقتصادية – البطيئة والمتفاوتة في أحسن الأحوال – لإقناع الأشخاص من خارج نطاق جمهورهم بأن الاتفاق لم يكن حاسماً كما قيل بالنسبة للاقتصاد الإيراني، وأن ما اكتسبته البلاد من المحادثات لم يكن يستحق ما تخلت عنه في البرنامج النووي. ربما يكون فريق روحاني الآن، بعدما استشعر هذه المشكلة المحتملة، بصدد محاولة التخفيف من التوقعات المبالغ بها. على سبيل المثال، حذّر مؤخراً مستشاره الاقتصادي مسعود نيلي من أن “تخفيف العقوبات سيوفر لنا القدرات ولكنه لن يحقق معجزة… وإذا لم نعالج الفجوة القائمة [بين توقعات الجمهور والواقع]، قد نواجه وضعاً أسوأ مما كنا عليه في ظل العقوبات”.
الخاتمة
إن المتشددين مستعدون جيداً للسيطرة على الرأي العام في أعقاب الاتفاق النووي. ومن المرجح أنهم سيمتنعون عن تهنئة روحاني والوفد المفاوض على توقيع الاتفاقية، ويركزوا بدلاً من ذلك على “عدم جدوى” الاتفاق لتحسين الاقتصاد، حتى إن حملَ ذلك خطر تفاقم خيبة أمل الجمهور إذا لم يرَ الناس تغييراً ملموساً في ظروفهم المعيشية.
وينبغي أيضاً النظر في الأثر المحلي للاتفاق عبر عدسة عمليتَي الانتخابات الإيرانية المقبلتين اللتين يسيطر عليهما المتشددون، أي: انتخابات مجلس النواب وانتخابات “مجلس خبراء القيادة”، اللتان من المقرر إجراؤهما في شباط/ فبراير المقبل. وفي 24 حزيران/ يونيو، تم اختيار الأمين العام لـ”مجلس صيانة الدستور” والمتشدد البارز أحمد جنتي رئيساً للّجنة التي ستشرف على تلك العمليتين. وفي 19 أيار/مايو، حذر جنتي من عزم كبار المسؤولين (أي أولئك المقربين من روحاني) على خوض الانتخابات على الرغم من أنهم لا يؤمنون بـ “ولاية الفقيه”. لكنه خلص إلى القول: “لكن حتى الآن، أنعم الله علينا ومنعهم من تحقيق هدفهم”، في إشارة على الأرجح إلى أن “مجلس صيانة الدستور” سينحّي وعلى نطاق واسع أولئك المرشحين من ذوي الانتماءات السياسية المشابهة للرئيس.
ويُعتبر الاتفاق النووي إنجازاً كبيراً لروحاني، ولكن سيتم الآن تحويل الانتباه في البلاد نحو مواجهة التحديات الاقتصادية المختلفة والخلافات السياسية الداخلية. وبدلاً من تمكين الرئيس خلال السنتين المتبقيتين له في منصبه، فإن التعامل مع هذه القضايا قد يستنفد من فريق روحاني إلى حد الشلل.
مهدي خلجي هو زميل “ليبيتزكي فاميلي” في معهد واشنطن.