قال تشيرشل: “ان الديمقراطية هى أسوأ نظم الحكم، فيما عدا جميع النظم التى جربها الانسان من قبل”
ونظام الانتخابات الامريكية لمنصب الرئيس، الذى هو فى الواقع امبراطور العالم ، هو اكثر النظم الانتخابية تعقيدا وطولا وتكلفة واجهادا.. فهو ماراثون سياسى واعلامى واجتماعى وجسدى ونفسى معا -بل هو حلبة ملاكمة مفتوحة وقائمة وعلنية يتابعها العالم كله على مدى حوالى عامين اى نصف مدة الاربع سنوات التى يقضيها الرئيس الامريكى فى كل دورة. وهى نموذج للديمقراطية العلنية الشفافة فى اوج عنفوانها ونصاعتها وتشوهاتها معا. وتدخل فى صراعها قطاعات عديدة من القوى السياسية والثقافية والدينية والاعلامية فى المجتمع الامريكى الهائل الهادر. وتتحدد على اثرها موازين ومراكز القوى لهذه القطاعات واجندتها للعمل طوال الدورة التالية. كما تتحدد بها موازين القوى العالمية والصراعات الاقتصادية الجبارة وكذلك مصير بلاد وشعوب قد تدمر او تزول او تجوع فى دوامة الحروب والقلاقل والتحولات التى تنشأ إثر قرار من الجالس على عرش العالم فى المكتب البيضاوى بالبيت الابيض.
ولعل حظنا السعيد – او التعس – اننا نعيش فى هذه الايام اشد هذه الانتخابات خطورة وتأثيرا على مستقبل امريكا والعالم لسنوات عديدة قادمة.
فأمريكا والنظام الرأسمالى الذى تتزعمه يمر بأزمة هيكلية هى الأخطر منذ الكساد العالمى الشهير عام 29 من القرن الماضى . ونشاهد المؤسسات المالية والمصرفية الأمريكية العريقة تتهاوى فجأة وتصبح لاتساوى شيئا فى خلال ساعات قليلة وتتبخر معها ادخارات العمر لملايين من الامريكيين الذين وضعوا مدخراتهم فى اسهم هذه المؤسسات العملاقة.
يحدث هذا الصدع الخطير للرأسمالية الامريكية الجبارة، بينما ما تزال القوة العسكرية الامريكية بترسانتها الهائلة موحولة فى العراق وافغانستان، فى مطاردة عبثية لقوى شبحية مجهولة من الرجال الحفاة المقييمين فى كهوف فعلية ورمزية – زمانية ومكانية – معا. ومع ذلك فقد عجزت الماكينة العسكرية الاعظم فى العالم حتى اليوم عن وضع نهاية لتلك القوى. وبعد نزيف هائل ومستمر فى الدم والمال والمكانة العالمية لانجد نهاية فى الافق.
اما الخطر الحقيقى فهو فى الصعود الصاروخى للتنينن الصينى الذى اصبح على وشك مضاهاة القوة الاقتصادية الامريكية ومن المتوقع له ان يتفوق عليها فى اقل من عشرين عاما اخرى. وقد كان هذا التنين ينمو وزنا وحجما وهو يبتلع كافة الصناعات العالمية ليصبح هو الماكينة الصناعية الاوحد للعالم كله ، فى غفلة من ادارة امريكية كانت وماتزال مشغولة كلية بمطاردة بضع مئات من الرجال الحفاة فى كهوف جبلية نائية!
هذه هى الحالة البالغة الخطورة التى تجرى فيها انتخابات عام 2008 والتى افرزت مرشحين للحزبين الديمقراطى والجمهورى صار قطاع كبير من الامريكيين يستغرب كيف لم يستطع نظام الانتخاب الطبيعى الامريكى الا يفرز الا هؤلاء!!
فالمرشح الديمقراطى للرئاسة ، باراك اوباما، الذى صعد بسرعة صاروخية على المسرح السياسى لايملك خبرة تذكر فى ادارة اى شئ ولم يكن محافظا او حاكما لمدينة او لولاية وبعد اشهر قليلة من انتخابه سيناتور عن ولاية الينوى وبها مدينة شيكاغو العملاقة –وهو انجازه الاكبر- قرر ترشيح نفسه للرئاسة الامريكية مرة واحدة ونجح فى ذلك العمل الذى يدل على جرأة وثقة نادرة بالنفس ولكن يدل ايضا على خلل اساسى هيكلى فى نظام الانتخاب داخل كل حزب، ساشرحه بعد قليل. وقد اضطر لكى يعادل ضعفه فى الخبرة ان يختار معه السيناتور المخضرم جو بايدن الذى يحظى باحترام كبير من معظم المعتدلين فى الحزبين.
اما المرشح الجمهورى –جون ماكين- فلم يكن اصلا هو المرشح المفضل لدى حزبه الجمهورى نفسه الذى رأى فيه شخصا ليبراليا الى حد ما ولايتفق مع الاتجاه المحافظ التقليدى للحزب ولم تكن القاعدة الجمهورية متحمسة له رغم انه من اجل ارضائها راح يتخذ مواقف اكثر تشددا مما اتخذه فى تاريخه . ولم يكن له كثير من المتحمسين بين المستقلين ايضا فقد رأوا فيه سياسيا مخضرما كبير السن يتفق مع الرئيس بوش فى موقفه من حرب العراق بل راح يزايد عليه بقوله انه مستعد للبقاء بالعراق لمدة مائة عام اذا لم تحدث خسائر فى ارواح الجنود الامريكيين!! وهو ايضا ليست له خبرة فى ادارة اية مؤسسة او مدينة او ولاية امريكية.
وكان منافسه اوباما متفوقا عنه بنقاط كثيرة فى استطلاعات الرأى بما يمثله ويدعو له من “تغيير” تجاوب معه الكثير من الامريكيين خاصة الشباب. وقد استطاع ماكين ان يقلب المعادلة باختياره لسيدة متوسطة العمر هى سارة بالين حاكمة ولاية الاسكا لتكون هى المرشحة لمنصب نائب الرئيس. وقد منحه هذا دفعة مبدئية جعلته يتفوق على اوباما لاسبوعين او ثلاثة فى استطلاعات الرأى حتى بدأت سارة بالين تظهر فى بعض المقابلات التلفزيونية المحدودة وبدأ تاريخها يتضح اكثر ليكتشف الناس ان معلوماتها السياسية شديدة الضحالة ومواقفها شديدة المحافظة اكثر محافظة من ماكين نفسه كما بدا من اسلوب حديثها وتفكيرها انها تتمتع بعقلية قد تكون اقل من عقلية جورج بوش الابن نفسه وهو امر مخيف حقا.
وهكذا يعود التساؤل فى اذهان الكثيرين من الامريكيين المعتدلين ومن قطاعات لايستهان بها داخل الحزبين ايضا: كيف افرزت العملية الانتخابية هذه الشخصيات متواضعة الخبرة – اوباما – او الذكاء – بالين – لتكون هى الوحيدة التى علينا ان نختار من بينها رئيس ونائب رئيس اقوى دولة على الارض؟ ان امريكا تستحق افضل بكثير من هذا ولديها بلا شك شخصيات عظيمة القيمة والذكاء والخبرة والقيادة كان المفروض ان تكون هى التى نختار بينها. فما الذى اوصلنا الى هذا المأزق الردئ الذى نضطر فيه الى اختيار اقل الشرين او اقل الخطرين؟
يدفعنا هذا الى اعادة التأمل فى نظام الانتخاب الامريكى الذى قد اثبت تاريخيا انه الانجح بين ديمقراطيات الغرب – وبالطبع لاوجه للمقارنة مع الانظمة الاخرى- فالولايات المتحدة هى اقدم جمهورية متواصلة الحكم على الارض منذ ان وضع خطوطها الاباء المؤسسون بحكمة ودقة بالغة بعد مناقشات وحوارات فكرية عميقة بين مجموعة من العقول السياسية النادر ان تجتمع فى التاريخ ومنها فرانكلن وجيفرسون وهاملتون وآدمز ويكفى ان بنجامين فرانكلن وحده كان سياسيا ومفكرا واديبا وعالما ومخترعا فى نفس الوقت.
ولكن هذا لايعنى ان نظام الانتخاب الامريكى بلا عيوب فبه عيبان اساسيان الاول هو تأثير المال على العملية الانتخابية اذ يتطلب الامر مبالغ طائلة للإعلانات ولجيش العاملين فى الحركة الانتخابية لكل مرشح.
اما العيب الاخر فهو فى طبيعة عملية الترشيح والانتخاب داخل كل من الحزبين الجمهورى والديمقراطى ( هناك احزاب اخرى كثيرة وصغيرة لكن لايكاد ان يكون لها وجود شعبى ).
فالذى يحدث ان المتشددين والمتطرفين داخل كل حزب هم الذين يشكلون مايسمى بالقاعدة اى تلك المجموعة من التحمسين والمتطوعين والنشطاء العاملين والمنتخبين الذين يملكون الوقت والهمة والحماس والنشاط والعقيدة الحزبية الملتزمة الملتهبة التى تمكنهم من التواجد الاكبر والاكثر والاعلى صوتا داخل الجهاز الحزبى واروقته ودهاليزه وابوابه.
فتكون النتيجه الطبيعية هى ان هؤلاء هم من يدفعون بالسفينة الحزبية الضخمة فى الاتجاه الذى يريدونه وهو بالطبيعة الاتجاه الاكثر تشددا او تطرفا من اتجاهات الملايين الاعضاء فى الحزب التى لاتملك الوقت ولا الجهد ولا الحماس الكافى لمنافسة الاقلية المتششدة.
وهكذا يضطر كل مرشح الى ان يغالى فى مواقفه ويقترب بها من درجة التشدد حتى يحظى بأصوات الفاعلين داخل حزبه لكى يكون هو مرشحهم فى النهاية.
هكذا بينما يكون حوالى ثلث الناخبين الامريكيين من المستقلين غير المنتمين الى اى من الحزبين الرئيسيين يكون هؤلاء خارج اللعبة فى تلك المرحلة الاولية وبذلك لاتؤثر اصواتهم الوسطية المعتدلة فى العملية الانتخابية فى مرحلتها الاولى. بينما ينتخب الثلث الجمهورى مرشحا يكون عادة متشددا و محافظا وينتخب الثلث الديمقراطى مرشحا يكون عادة متحررا و متشددا. وفى المرحلة الثانية تقع المنافسة بين مرشحى الحزبين فيكتشف المعتدلون والمستقلون ان عليهم الاختيار بين اقصى اليسار واقصى اليمين.
هذا هو العيب الهيكلى الاساسى فى نظام الاستقطاب الحالى بين الحزبين الرئيسيين وهذا يدفعنا الى تأمل طبيعة وتاريخ ومواقف كل من هذه الحزبين الرئيسيين رغم اخطار التعميم:
الحزب الديمقراطى
بشكل عام يقدم الحزب الديمقراطى نفسه- ويشفع له تاريخه ومواقف قياداته ونوابه ومن جاء منهم من رؤساء لامريكا واهمهم فى التاريخ المعاصر روزفلت و ترومان و كنيدى وجونسون وكارتر وكلينتون – انه حزب الفقراء والعاملين والطبقة الوسطى وأولوياته عادة هى العدالة الاجتماعية والتكافل والتضامن الاجتماعى والترحيب بالمهاجرين الجدد والمطالبة بحقوق الاقليات والمظلومين والضعفاء واهم انجازاته هى المشروعات العامة الى اقامها روزفلت فخلق بها ملايين فرص العمل للفقراء ثم قرارا ت الحقوق المدنية للسود والمرأة التى بدأها جون كنيدى واكملها ووسعها خليفته جونسون، فمنحت السود والمرأة حقوقا واسعة لاول مرة فى التاريخ الامريكي ,
وعادة ما يعمل الحزب على فرض ضرائب على الاغنياء لمصلحة مشروعات اجتماعية ضخمة تفيد متوسطى الدخل والفقراء ولهذا كله فكان من الطبيعى ان يقدم الحزب الديمقراطى اول مرشحة امرأة لمنصب نائب الرئيس وهى جيرالدين فيرارو مع مانديل الذى لم ينجح وكان ايضا هو الحزب الذى حاول الترشيح له عدد من المرشحين السود من قبل ولم ينجحوا حتى نجح هذا العام لاول مرة باراك اوباما.
وعادة مايقوم النواب والمرشحون الديمقراطيون بمهاجمة خصومهم عن الحزب الجمهورى متهمين ذلك الحزب بأنه حزب الاغنياء المعادى للفقراء ومتوسطى الدخل والمهاجرين والمناصر للشركات الامريكية الكبرى التى يعمل بها او يمثلها الكثير من قادته كما يتهمونه بانه حزب المتشددين من المحافظين الذين يريدون اقحام الدين فى السياسة ويعادون العلم ويريدون تطبيق وتدريس القصص الدينية عن خلق العالم وآدم وحواء بدل نظرية النشوء والارتقاء وهو مايتهمون به ساره بولين حاليا.
الحزب الجمهورى
بشكل عام يقدم الحزب الجمهورى نفسه- ويشفع له تاريخه ومواقف قياداته ونوابه ومن جاء منهم من رؤساء واهمهم مؤخرا آيزنهاور ونيكسون وريجان وبوش الاب والابن -على انه الحزب المدافع عن الرأسمالية ونظام السوق الحر والمناصر للأعمال الحرة وللقيم العائلية والدينية والمدافع عن الجنين غير المولود ضد الاجهاض والمحافظ على التقاليد الامريكية وعلى امريكا كقوة عالمية عظمى والمهتم بتعظيم قوتها العسكرية والمحافظ على امنها وسلامتها وأولوياته هى الحرية الفردية وحرية المال والاعمال وتقليص الجهاز الحكومى وتخفيض الضرائب بشكل متساوى على الجميع وزيادة الانفاق العسكرى ومعاداة القوى غير الرأسمالية وغير الديمقراطية فى العالم.
وهناك خيط قوى فى نسيج هذا الحزب له تاريخ عنصرى معاد للسود والاسبان والمهاجرين والاقليات وكل من ليس ابيض السحنة واشقر الشعر وكان الحزب معارضا لقوانين الحقوق المدنية للسود ولتحرير المرأة ناظرا الى هذه على انها تقويض لاسلوب الحياة الامريكية التقليدى والى اليوم تصدر من بعض اقطاب ونواب الحزب تصريحات او ذلات لسان او مواقف تنم عن عنصرية ضد السود وضد غير المسيحيين.
كما ان لهذا الحزب علاقات عضوية بكبرى الشركات الامريكية وخاصة شركات البترول وشركات الصناعات الحربية التى تقوم بتسليح الجيش الامريكى.
كما يتعاطف الحزب مع حق المواطنين فى حمل السلاح دون تشديد فى الرقابة على ذلك ويقوم اقطابه بامتلاك السلاح وهواية الصيد ومنهم ديك تشينى وساره بولين فهناك تعاطف مع شخصية الكاوبوى باعتباره النموذج الامريكى الاصيل المغامر والقوى وكان ريجان مثالا لذلك وايضا بوش الابن والان ساره بولين.
وعادة مايهاجم الجمهوريون خصومهم فى الحزب الديمقراطى متهمين ذلك الحزب بأنه ليس قويا بما يكفى فى مواجهة اعداء امريكا وليس قادرا على حماية البلاد عسكريا لضعف رؤيته العسكرية للعالم ويتهمونه ايضا بتساهله مع المهاجرين غير الشرعيين وبان افكاره ليبرالية حتى نجحوا فى تحويل هذه الكلمة الى تهمة وكثيرا مايقرنونها بكلمة “يسارى” كما يتهمون الديمقراطيين احيانا بضعف الوطنية.
اليسار الشمولى واليمين الاصولى
فى النهاية بين طرفى النقيض من هذين الحزبين وبين دفع المتشددين فى كل منهما مرشحينهم لاتخاذ مواقف متطرفة لنيل اصواتهم لتمثيل الحزب نجد ان حوالى نصف الناخبين الامريكيين الذين يمثلون الوسط المعتدل لايرون امامهم سوى احد خيارين افضلهما مر – اما مرشح اليسار الشمولى الذى يريد حكومة ضخمة ويرفع شعارات العدالة الاجتماعية دون اهتمام كبير بالحرية الفردية – واما مرشح اليمين الاصولى الذى يريد جيشا ضخما يدفعه الى حروب عبثية ويرفع شعارات الحرية والسوق الحر دون اهتمام كبير بالعدالة الاجتماعية والطبقات الكادحة.
وهكذا وصل بنا الحال الى باراك اوباما ومعه بايدن امام جون ماكين ومعه بالين. فندهش و يعود التساؤل : مامستقبل أمريكا؟
fbasili@gmail.com
كاتب من مصر يقيم في نيويورك
الإنتخابات الأمريكية وأثقال الديمقراطية: أوباما أم ماكين؟
That was really fair, great and simple analyses to any one do not know the basis of the US political system, well done