“لا قرابة ولا صداقة ولا عداوة بين الدين و العلم، إنهما من عالمين مختلفين”- نيتشه
أعادت هذه الأيام مجموعة من الفايس بوك نشر مقطع من الدردشة التي تمت بينهم و بين الدكتور محمد الأوسط العياري، و هو باحث تونسي يعمل في وكالة الفضاء الأمريكية “ناسا”. و يتعلق المقطع “بالاكتشاف المذهل” و المتمثل حسب تعبيره في: “اكتشاف أن السماء مرفوعة على أعمدة غير مرئية و لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة بل بواسطة تجهيزات علمية متطورة جدا جدا. و لقد اكتشفنا أن هذه الأعمدة تتمثل في ذبذبة الجاذبية التي تخترق الأجسام و لكن لم نفهم بعد كيف تعمل و لا كيف تتحرك بذلك الشكل العجيب و كيف تخترق الأجسام، لقد فهمنا شيئا واحدا أنها تتحول، و أنها أعمدة السماء، و يا سبحان الله، فلقد عدت إلى دراسة القرآن الكريم بحكم أن والدي هو عالم في القراءات السبعية و العشرية للقرآن و تأملت و اكتشفت أن ما اكتشف يتطابق تماما مع قوله تعالى: ” الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ” ” (1)
الخبر في حدّ ذاته ليست له أهمية تذكر فقد أصبح ما يسمى بالإعجاز العلمي ممجوجا و مدعاة للسخرية، حتى أن الإعلام لم يعد يعره أهمية و يصنع منه حدثا. فمنذ الشعوذات اللغوية لمصطفى محمود التي كانت بنت الشاطيء تطلق عليه لقب الحاوي بعد أن فضحت خواءه الفكري و اللغوي في أوائل السبعينات، فقد هذا “العلم” هيبته. و القصة أن مصطفى محمود اكتشف في تأنيث القرآن للعنكبوت إعجازا علميا في قوله:”مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا” فاعتبر:” أن العلم كشف مؤخرا أن أنثى العنكبوت هي التي تنسج البيت و ليس الذكر و هي حقيقة علمية بيولوجية لم تكن معلومة أيام نزول القرآن” و ردّت عليه بنت الشاطئ ساخرة أنه:” وقع في خطأ لا يقع فيه المبتدئون من طلاب اللغة العربية، فالقرآن في هذه الآية يجري على لغة العرب الذين أنثوا مفرد النمل و النحل و الدود… و هو تأنيث لغوي لا علاقة له بالتأنيث البيولوجي. فأي عربي وثني من أجلاف البادية كان ينطقها هكذا. فأين الإعجاز العلمي في هذا الكلام ؟” (2).
منذئذ أصبحت هذه الاكتشافات تثير الريبة حتى أن الشيخ محمود شلتوت تصد للظاهرة منذ نصف قرن و رأى أن:” تأويل القرآن تأويلا متكلفا يتنافى مع الإعجاز” و حجته أنه:”قد يصحّ اليوم في نظر العلم ما يصبح غدا من الخرافات”
كما أن العديد من المؤمنين، بمن فيهم العاملين على إرساء دولة إسلامية، لا يؤمنون بهذه البهلوانيات المبنية أساسا على لوي عنق اللغة، لكنهم يغضّون عنها الطرف لأسباب سياسية. و قد حصل أن اتصل البعض منهم بعالم فيزياء تونسي فضح كذبة إحدى الاكتشافات الإعجازية ليترجوه السكوت باعتبار أنه لا ضرر من محاولة تقوية إيمان المسلمين حتى عن طريق الوهم في هذا العصر العصيب على الإسلام.
لذلك كله فإن مصدر اهتمامي لا يتعلق بخبر الإعجاز العلمي بل بالخطاب الحامل للخبر و المكتظ بالمفارقات التي سأكتفي بذكر أربعة منها بدت لي ذات دلالة.
المفارقة الأولى تتعلق باقتصار المشاركين في الدردشة على التهليل و التكبير و التسبيح، كتعبير عن انتشائهم بخبر الاكتشاف العظيم، و كأنهم تأكدوا للتو فقط من أن الله هو فعلا خالق الكون. و الحال أنهم لم يكونوا ليهلّلوا لمهندس معماري يكشف لهم أسرار بناء معقّد أنجزه، و يطوف بهم مغمض العينين في متاهاته. هذه المفارقة، إن لم تدل على ضعف إيمانهم، فهي تؤكد صحة رؤية مخترعي الإعجاز العلمي الذين كانوا واعين بخطر تباعد معلومات القرآن، ليس فقط بفعل تباعد الزمن، بل بفعل الطفرة العلمية غير المسبوقة التي أنتجها بشر القرن العشرين، و التي أعطت “لخير امة أخرجت للناس” إحساسا بالعجز أمام فنون الغرب الكافر صاحب الكتب المحرّفة. هكذا ابتدع الإعجاز العلمي للقرآن ليكون بلسما لعقدة الدونية العقائدية. لذلك كان التهليل و التكبير تعبيرا عن فرحتهم بإسداء ضربة إضافية لهذه العقدة المؤلمة، و لوضع حجر إضافي، و إن كان هشّا و مؤقتا، لتجسير الهوة بينهم و بين علماء بلاد الكفر، و كأني بهم يقولون إن الله أغناهم عن محنة التفكير في الكون و سخّر لهم الكافرين للقيام بهذا العمل المضني.
المفارقة الثانية تتمثل في غياب سؤال المهللين عن رد فعل جمهور الكافرين العاملين في “الناسا” عن اكتشاف محمد الأوسط العياري الذي جعل من اكتشاف علماء وكالة الفضاء الأمريكية شيئا غير جدير بالذكر بما أنه مجرد نسخ و لصق من القرآن. و ربما يكون مثل هذا السؤال من نوع غير المفكر فيه بالنسبة للمكبرين المهلّلين، على أساس أنه لا يفتى في “الناسا” و محمد الأوسط فيها.
المفارقة الثالثة تتعلّق بالخلفية العلمية للمهلّلين. فهم أبناء هذا العصر و من المفروض أنهم يعرفون أنه لا يوجد فوق و لا تحت و لا شمال أو يمين خارج فيزياء الأرض، و أن ما تراه العين المجرّدة سماء مرفوعة هو وهم صرف، و القول به خطأ علمي. فكيف يواصلون التفكير بعقل بدائي يستمد علمه من عين خادعة لأنها قليلة الحيلة فيقبلون القول بأن السماء مرفوعة؟
المفارقة الرابعة تخص الباحث، محمد الأوسط العياري الذي يعتمد، هو الآخر، مصطلحات لغة الوهم الناتج عن حدود النظر البشري. و الأدهى هو أنه يعلن بأنه بعد اكتشاف ما يسميّه بالأعمدة غير المرئيّة التي ترفع عليها السماوات وما يفسره بكونه ذبذبات و جاذبية، وعوض مواصلة التفكير فيما قال أنه غير مفهوم بعد، هرع إلى “علم والده العالم في القراءات السبعية و العشرية للقرآن وتأمل و اكتشف أن ما اكتشف يتطابق تماما مع علم القرآن”. هكذا اطمأن الباحث المسلم على صحة عقيدته قبل الاطمئنان إلى نتائج بحث مجموعته.
لا نتصور طبعا أن علماء “الناسا” اعتمدوا على المعتقد الديني لزميلهم العياري، أي على القرآن، لوضع حتى مجرد فرضيات للبحث في هذه الظاهرة الفيزيائية. فالعلم ينطلق من الملاحظة و التجربة وبحوث سابقة لوضع فرضيات جديدة و ليس من الكتب المقدسة.
أما الباحث العياري فيبدو كغيره من المروجين للإعجاز العلمي. فهو يفضل الموقف الانتهازي الذي يمكن أن نعبر عنه بـ”لننتظر لنرى” كما يقول الانجليز، أي لنتركهم يعملون ثم ننقض على الاكتشاف ونؤسلمه، و هو مؤشر على ضعف إيمانه بهذا الإعجاز.
كيف يمكن تفسير هذه السهولة في التلفيق وهذا الإصرار على استخلاص قواعد علمية معقدة وحديثة من القرآن؟
أما سهولة التلفيق فمردها، كما هو معلوم، إلى أن الاعتماد على القرآن وحده وبمنطق القرآن وحده، يمكن أن نثبت به الأمر و نقيضه وبنفس الدرجة من الاتساق المنطقي و البرهنة.
و يبدو أن المسلمين قد اختصّوا بهذا التلفيق من دون الخلق، لأنه ليس من الصعب على أصحاب الديانات غير الإسلامية ادعاء السبق العلمي.
يحق مثلا لأتباع “كريشنا” الاعتماد على مبدأ ازدواجية العالم، الموجود منذ أكثر من ألفين سنة في البجافادجيتا
Bhagavad-Gîtâ
واعتباره معادلا لمبدأ القطبية المؤسس على توازن الإيجابي و السلبي في مستوى ما تحت الذّرة. كما يحق لليهود التبجح بأن نظرية الحبال القوية التي توحي بأن العالم يتكون من عشرة أبعاد وليس ثلاثة فقط، مأخوذة من الكتاب الأساسي للمتصوفة العبريين الذين يشيرون إلى الكون بعشر دوائر مترابطة.
كما تحدثت الكتابات الشامانية، مائة ألف عام قبل أينشتين، عن التأثير عن بُعد، لتفسير الطب المؤسس على المداواة بالموجات الذهنية.
هذا في ما يخص سهولة التلفيق.
و أما إصرار المسلمين على استخلاص قواعد علمية حديثة ومعقدة من القرآن، فمردّه الاعتقاد بأن العلم لله وحده، لذلك فإما يكون العلم مطابقا لمعتقدهم أو لا يكون، خاصة فيما يتعلق بما يعتقد أنه خوارق. والعلم المتقدم يبدو في بعض جوانبه أقرب إلى السحر و الخوارق منه إلى المعرفة الإنسانية. و نتذكر كيف اعتبر بعض المسلمين الذهاب إلى القمر هرطقة وتجاوزا يؤدي إلى الخروج عن الملة. و اعتمدوا في ذلك على قصة “النمرود بن كنعان” ملك بابل حسب المفسرين، الذي انطلق من قمة برج بابل الأسطوري في صندوق تحمله أربعة نسور أشداء بغية الوصول إلى السماء، فهدّ الله برجه على رأسه من قواعده وتبلبلت الألسن و انهارت المملكة و انتهى أمر النمروذ بأن قتلته بعوضة. و هكذا فشلت أول محاولة للطيران لأنها كانت من اختراع الكفار المتجبّرين الذين عذبوا النبي إبراهيم. و رغم أن القصة من أصلها رواية اختلقها المفسرون، إلا أنها أحدثت رهبة في نفوس المسلمين من كل من يحاول الوصول إلى السماء، وهو ما يفسّر الرعب الذي تملك عددا كبيرا من المسلمين يوم وضع أول إنسان قدميه على سطح القمر. لكن حين حصل الأمر و لم يعد فيه شكّ أسقط في أيديهم فتداول الناس رواية اعتناق رائد الفضاء الأمريكي نيل آرمسترونغ للإسلام لأنه سمع الآذان على سطح القمر فبات الصعود إلى الفضاء إنجازا للمسلمين، ثم صار بعد ثلاثة عقود “ممكنا بسلطان”، والتعبير مأخوذ من القرآن، لأن اسم رائد الفضاء العربي الأول اسمه سلطان. و اليوم عادوا مجدّدا لتكذيب الواقعة اعتمادا على شريط فيديو يثبت حسب رأيهم أن الأمريكان لم يصلوا إلى القمر. الريبة جاءت من فضح قصة الصور التي اضطر الأمريكان إلى تركيبها في استديو بعد استحالة التقاطها من على سطح القمر، غير أن لا أحد قال بأن العملية برمتها كاذبة.
و حدهم أحفاد مفسري قصّة النمروذ الذين ورثوا رهاب التجول في الفضاء، فرحوا و استبشروا بالخبر لتأكيد ما اطمأنت إليه قلوبهم، وهو أن الله يخيّب مسعى كل كافر متجبّر خصوصا إذا كان هذا المسعى أقرب منه إلى المعجزات من القدرة الإنسانية.
لذا نقترح على محمد الأوسط العياري الاعتماد على “اكتشافه المذهل” ومكانته في وكالة الفضاء الأمريكية، ليعجّل في حل الكربة العلمية للمسلمين، فيقترح على الوكالة أن تختصر جهودها وتقلب منهجها البحثي بحيث تبدأ باستخراج الاستنتاجات العلمية الكامنة في القرآن ثم تبحث عما يؤكدها في الكون. و لمَ لا يبدأ مثلا باقتراح البحث في الألغاز التي حار في تفسيرها قدامى المسلمين مثل مكان العين العجيبة التي تغرب فيها الشمس، و موطن يأجوج و مأجوج، أو ما يدل تاريخيا على وجود ملك اسمه سليمان و آخر يدعى “النمرود بن كنعان ” وثالث يدعى “ذو القرنين” و كلّهم عجز علم التاريخ الحديث عن إثبات وجودهم.
saloua.charfi75@gmail.com
* تونس
(1) انظر يومية الشروق التونسية التي نشرت الحوار كاملا بتارخ 26 ماي 2010 ص
(2) انظر و هم الإعجاز العلمي الدكتور خالد منتصر دار العين للنشر القاهرة الطبعة الأولى 2005
الإعجاز العلمي في خدمة وكالة الفضاء الأمريكية سمير خليل سمير — SAMIRKSJ@HOTMAIL.COM الإعجاز العلمي في خدمة وكالة الفضاء الأمريكية هَوَس الإعجاز العلمي ! دخلت في Google وأدخلت العبارة التالية: “الاعجاز العلمي” و كان الجواب Environ 2 600 000 résultats (0,27 secondes) نعم ! مليونان وستمائة ألف صفحة تهتم بموضوع الإعجاز العلمي. لو كان القرآن قد تنبأ بهذه الاكتشافات العلمية، لماذا ننتظر أن يكتشفها الكفار وبتقولون بها، ثم نأتي ونقول لهم: إنما كانت موجودة في كتاب الله؟ فلنسبقهم ونُنر الناس بتلك الاكتشافات! ولخالد منتصر مقال في “الحوار المتمدن”: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=25070# ومن شاء ان يقرأ كتابه “وهم الاعجاز العلمي”، عليه بهذا الرابط http://www.4shared.com/file/23301788/df529ee1/___online.html?dirPwdVerified=c4e874fb… قراءة المزيد ..
الإعجاز العلمي في خدمة وكالة الفضاء الأمريكية(( قال فمن ربكما يا موسى , قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى , قال فما بال القرون الأولى , قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى )) مقال جيد واستنتاج متسرع , فاذا ادى ذلك “التسرع” الى صدمة وحركة فهو (ايجابي) , وان ادى الى فرز و”ادلجة” فهو (بالتأكيد) سلبي .. ف (اقتصار المشاركين في الدردشة على التهليل و التكبير و التسبيح) يجده المتابع ل (العولمة العربية : المعكوسة) على هامش كل مادة منشورة : طفل يضحك , طفل يتكلم .. وطفل لقن ليقول (لن نعترف… قراءة المزيد ..
الإعجاز العلمي في خدمة وكالة الفضاء الأمريكية
سلوى الشرفي — saloua.charfi75@gmail.com
شكرا للتعليقات التي أضافت الكثير للمقال وأثرته
الإعجاز العلمي في خدمة وكالة الفضاء الأمريكية فاروق عيتاني — farouk_itani@live.com الاعجاز العلمي للقران موضة قديمة متجددة.وهي عالة على العلم وعلى الاسلام نفسه.مفهوم الاعجاز في الاصل موجه الى عرب الجاهلية و سمته لغوية وعليه جرى التحدى، وبه اقروا .وباقرارهم وهم اهل الصنعة الزم من بعدهم.في الفكر السلفي لا ترى اهتماما بموضوع الاعجاز. الاهتمام كان في الفكر الاشعري ثم في الخلطة الفكرية فيما بعد و بقي الفكر السلفي بيعدا عن الموضوع.منذ سنوات قدمت بحثا لاحدى الجامعات في سورة مريم و تناول البحث موضوع الاعجاز :عنوان البحث كان( الاساليب البيانية في سورة مريم- كلية الامام الاوززاعي للدراسات الاسلامية-بيروت ).استغرق البحث شهورا في… قراءة المزيد ..
الإعجاز العلمي في خدمة وكالة الفضاء الأمريكية
رمزي — ramzis1976@yahoo.fr
تعليق ممتاز للمفكر السوري
الإعجاز العلمي في خدمة وكالة الفضاء الأمريكية
مقال رائع لكاتبة عاقلة ومتنورة اجادت صياغة التحليل بكلمات واضحة.
الف شكر لها..
الإعجاز العلمي في خدمة وكالة الفضاء الأمريكيةموضة الإعجاز العلمي في القرآن ؟ خالص جلبي راجت هذه الموضة حتى بارت. ومن حمل رايتها لم يتقدم كثيرا. وعلى الرغم من النشاط المحموم للجان الإعجاز العلمي في اللقاءات والمؤتمرات فلم تصل إلى فتح علمي يتيم، إلا من همهمة وموافقة اللجنة، على اكتشاف علمي قام به كافر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر؟ هذه الموضة، وهذا الاتجاه برمته، خطأ وخطر من ثلاث مداخل؛ شهادتنا ممن لا شهادة له من الكفار والملحدين ـ حسب وجهة نظرنا ـ وإعلان غير مباشر لإفلاس علمي في مؤسساتنا بعدم إفادتنا بالخبر اليقين عن تحقيق أي فتح علمي… قراءة المزيد ..