مثلما هناك من يعتقد أن مصير القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني والقدس وغيرها من “قضايا الأمة” العربية والمسلمة هو أهم من مصير حقوق وحريات ومصالح الفرد العربي والمسلم الذي يعيش وسط بيئة ينتشر فيها الظلم السياسي والاقتصادي وانتهاك الحقوق والحريات بسبب سيطرة أنظمة مؤدلجة وحكومات مستبدة عليها، فإن هناك من يعتقد أن الحفاظ على حكومات الإسلام السياسي بأنواعها المتعددة وتجاربها المختلفة، في إيران وفلسطين والسودان وغيرها، يفوق في الأهمية ما ينضح من إنائها من انتهاكات لحقوق الإنسان. وبعبارة أخرى، تعتقد هذه الحكومات وأنصارها الإسلاميون أن “غاية” استمرارها في السلطة “تبرّر” تبني “قضايا الأمة” لا الحقوق والحريات السياسية والمدنية، وبالتالي “تبرّر” لنفسها قمع المعارضة وممارسة مختلف صور الانتهاك ضد الإنسان بما فيها اغتصاب وتعذيب وقتل المعتقلين في سجونها. أليس من حق المراقب أن يقارن بين مسؤولية الأديان في نشر الأخلاق والفضيلة، وبين الدين السياسي الذي يدوس على الأخلاق تحت مبرر المحافظة على النظام الديني المستمد شرعيته من السماء؟ ألا تدعو تلك الممارسات إلى وصف الإسلام السياسي بأنه إسلام غير أخلاقي؟
تعكس مواقف أنصار الإسلام السياسي من موضوع حقوق الإنسان، عدم احترامهم له من خلال انتمائهم إلى فكرٍ لا يعير أي اهتمام بتلك الحقوق، بمعنى عدم دفاعهم عن القضايا الأخلاقية والإنسانية. ويبرز موقفهم هذا استنادا إلى تفسير يعتقد أن وجود “الحكومة الإلهية” واستمرارها، والدفاع عن “قضايا الأمة” هما الأساس الذي يجب التشبث به قبل أي شيء آخر، فيما مصير الإنسان الفرد وحقوقه ومصالحه هي قضايا هامشية. هذا الفكر أنتج أنظمة مستبدة ومؤسسات تابعة تنفذ أجندتها الشمولية، كما أنتج ما يسمى بـ”مثقفي الأدلجة ومؤمنيها” المدافعين عن مواقف الأنظمة. لذلك تجد أن هذه النوعية من المثقفين المؤمنين تساند من دون أي وازع أخلاقي أو تأنيب للضمير ما تمارسه حكومة الإسلام السياسي في إيران من انتهاكات ضد الشعب الإيراني، وتدافع عن مواقف نظام ولاية الفقيه المطلقة تجاه القضية الفلسطينية ومعاداة دولة إسرائيل ونصرة حزب الله وحماس والجهاد، وتتجاهل سلوك النظام تجاه الإنسان الإيراني الذي يعاني قهر واستبداد السلطة الدينية. فلم نسمع – ولن نسمع – احتجاج هذه الشريحة من المثقفين المؤمنين على انتهاك حقوق الإنسان الإيراني وضربه وتعذيبه واغتصابه وقتله إثر احتجاجه على نتائج الانتخابات الرئاسية. كذلك لم نسمع احتجاجها على تدني مستوى الحريات السياسية والمدنية والحقوقية التي أدت إلى الزج بآلاف الإيرانيين في السجن. ولم نسمع احتجاجها على مصادرة الحريات الصحفية والفكرية التي تم بموجبها توقيف عشرات الصحف والمجلات والمدونات عن العمل وفق سياسة تتماشى مع ضيق الأفق الفكري وتعكس التفسير الديني الحاض على الاستبداد والمناهض للحريات. كل تلك المشكلات التي تهدد حياة الإنسان الإيراني وتضيّق عليه وتمس حقوقه وإنسانيته، يجب في نظر المثقف المؤمن التضحية بها من أجل استمرار “الحكومة الإلهية” بسياساتها المناهضة لحقوق الإنسان ما دامت تتبنى “قضايا الأمة” وتدافع عنها.
وتعتبر مواقف “مثقفي الأدلجة المؤمنين” شبيهة بمواقف أنصار صدام حسين ونظامه البعثي العروبي الفاشي الذين ضحوا بإنسانية الإنسان العربي والمسلم وحقوقه، مقابل تبني “قضايا الأمة” ونصرتها، وعلى رأسها القضية الفلسطينية. وهي قضايا لم تكن سوى وسيلة لتركيع الشعوب والسيطرة على الحكم وتنفيذ الأجندة الاستبدادية. فالتضحية بمصير الشعوب هي “عنوان عريض” يكتب على صدر الأنظمة المؤدلجة ويدافع عنه المثقفون المؤدلجون من المؤمنين وغير المؤمنين مادام ذلك يحقق لتلك الأنظمة الاستمرار في السلطة والسيطرة على كرسي الحكم وتبني “قضايا الأمة”.
والوصول إلى السلطة عند المؤدلجين من أنصار الإسلام السياسي، يعتبر فرضا دينيا مقدسا، من أجل تنفيذ “شرع الله” في الداخل وتبني “قضايا الأمة” على الصعيد الخارجي. وتبيّن أن ذلك لا يتم إلا من خلال خنق الأصوات المعترضة وسحق حقوقها الإنسانية وتعذيبها وقتلها. فهل ذلك إلا شاهدا من شواهد الإسلام غير الأخلاقي؟
إن الأنظمة المؤدلجة، وبالذات الدينية، لا تستطيع إلا أن تحقق حدًّا أدنى من احترام حقوق الإنسان وجزءا يسيرا من المصالح المدنية للمواطن، لأن فكرها وسياساتها وأوامرها الفقهية تستند في الدرجة الأولى إلى الوصاية على آراء الناس وشؤونهم، وبالتالي لا مجال أمام الناس إلا الرضوخ للأنظمة وإلا اعتبروا “كفارا ومرتدين وأعداء الله” ولابد من الشدة معهم كضربهم واعتقالهم وتعذيبهم والاعتداء عليهم جنسيا وقتلهم وغيرها من التصرفات غير القانونية وغير الإنسانية. وترتبط تلك الممارسات العنيفة وغير الإنسانية وغير المشروعة بأصل الإسلام السياسي، مما يعكس صورته غير الأخلاقية لعدم تبني خطابه مشروع احترام حقوق الإنسان. فكيف له أن يهتم بالإنسان في حين إنه ينطلق من منطلقات تاريخية ويرتبط بثقافة ماضوية لم تعرف مبادئ احترام حقوق الإنسان. وحتى لو اهتم بها فذلك مردّه الضغوط التي تمارسها عليه المنظمات الدولية. لكن، لا يمكن لعنوان حقوق الإنسان أن يتصدر مشروعه في إدارة الحكم، لأنه ليس عنوانا دينيا تاريخيا، بل دنيويا غربيا وحديثا لا علاقة له بتاريخ الدين. ومن الخطورة بمكان بالنسبة لحكومات الإسلام السياسي الاهتمام بقضايا حقوق الإنسان، لأن ذلك سيفتح الباب على مصراعيه للمواطن للمطالبة بمختلف أشكال الحقوق والحريات السياسية والمدنية. ولن ترضى حكومات الإسلام السياسي بذلك لأنه – حسب رؤيتها الفقهية السياسية التاريخية – يتعارض مع فهمها للحياة ونظرتها للإنسان، الأمر الذي يهدّد استمرار وجود النظام الديني على رأس السلطة. ومن شأن تلك النتيجة أن تعرقل تنفيذ المشروع الإلهي برمته، وقد تضع حدا لتحقيق شريعة الإسلام السياسي. فالعنوان الرئيسي لحملة القمع الشديدة والانتهاكات الفظيعة وغير الأخلاقية ضد المحتجين على نتائج الانتخابات الرئاسية في إيران هو اتهامهم بأنهم يهدفون إلى تغيير مشروع الإسلام السياسي أو نظام ولاية الفقيه، في حين أن المحتجين، وعلى لسان أبرز القادة الإصلاحيين، لا يسعون سوى إلى حصول الشعب الإيراني على حقوقه الدستورية وحرياته الأساسية ومواجهة المساعي الهادفة إلى أسر البشر في السجن الديني لحكومة الإسلام السياسي غير الأخلاقي.
إن موقفي النظام الإسلامي في إيران والنظام البعثي الفاشي للمقبور صدام حسين في العراق، متشابهان في المبدأ وفي بعض النتائج، لكنهما مختلفان في تفاصيل القضايا المتبناة من قبل كل طرف. فالإثنان، بمثقفيهما وأنصارهما، يتبنيان “قضايا الأمة” ويتجاهلان مصير الإنسان وحقوقه ومصالحه. ومخطئ من يظن أن اهتمام الأنطمة المؤدلجة بالقضية الفلسطينية يعكس اهتماما بالإنسان الفلسطيني، إذ لوكان ذلك صحيحا لكان أولى بها الاهتمام بالإنسان في إيران أو في العراق.
ولا يعني المثال الإيراني والعراقي أن بقية مجتمعات دول منطقة الشرق الأوسط تعيش في إطار سياسي غير مؤدلج وغير مستبد، أو إنها لا تعاني من استغلال المؤدلجين لأنظمة الحكم لتحقيق مآرب سلطوية، فكثير من تلك الأنظمة تعبّر عن سلوك استبدادي، ساهم من جهة في انتهاك حقوق الإنسان، وأدى من جهة أخرى إلى إبراز الاهتمام بـ”قضايا الأمة”، حيث أصبحت تلك القضايا الشماعة التي علق عليها المؤدلجون والمستبدون تمسكهم بكرسي الحكم. إن الفكر المؤدلج، الديني والعروبي، يعكس أزمة أخلاقية. بمعنى أن ثقافة الأنظمة السياسية المؤدلجة ومواقف أنصارها لا تعير أي اهتمام بحقوق الإنسان ومصالحه، التي أصبحت العنوان الرئيسي لموضوع الأخلاق في العصر الحديث، بل تهتم بمصيرها وبقائها في السلطة ولو أدى ذلك إلى سحق الإنسان ومحاصرته بالحديد والنار والسيطرة عليه بمختلف صنوف الاستبداد والظلم وممارسة أبشع صور الانتهاكات الجنسية وغير الأخلاقية ضده. لكن، لماذا لم يهتم المؤدلجون بحقوق الإنسان؟ إن ذلك يعود إلى أسباب عديدة، لعل أهمها هو عدم وجود ثقافة في منظومتها الأخلاقية تعير اهتماما بحقوق الإنسان، بل همها هو “الأمة وقضاياها” بالتزامن مع سحق الحقوق والحريات العامة.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com
ِ