يهدد الإسلاميون في مصر بثورة ثانية في حال استبعاد مرشحيهم من الانتخابات الرئاسية. والسؤال: هل صنعوا الأولى ليهددوا بصناعة الثانية؟
لم تكن الموجة الأولى التي عصفت بالشارع المصري، وخلقت دينامية شعبية واسعة من صنع الإسلاميين. الصحيح أن الإخوان انخرطوا في المظاهرات بعد اندلاعها بأيام، وأن السلفيين كانوا ضد العمل السياسي، وكانوا مع مبارك إلى ما قبل سقوطه بقليل. والصحيح أن شعارات الثورة، التي رفعها الشبّان والشابات في القاهرة وبقية المدن المصرية، لا تمت إلى شعارات وأيديولوجيا الإسلاميين بصلة.
والصحيح، أيضاً وأيضاً، أن الإسلاميين كانوا أوّل من حصد نتائج الثورة، وأوّل من نجح في الاستيلاء عليها. التذكير بأشياء كهذه ضروري، طالما أن الحرب تدور على الذاكرة، ضمن أمور أخرى، من بينها أن يتصرّف ممثل للسلفيين وكأنه من صنّاع الثورة المصرية.
بيد أن التذكير لا ينفي حقائق من نوع أن حظوظ الإسلاميين في الفوز بالسلطة أوفر من غيرهم. وهذا الاعتراف ينبغي أن يكون مقروناً ومشروطاً باعتراف آخر مفاده أن اللعبة الديمقراطية تفرض على كافة اللاعبين ضرورة الاحتكام إلى القانون، وعدم ممارسة التهديد، واستنفاد كافة الإجراءات القانونية.
وهذا، للأسف، لم يحدث. وطالما أن هذا لم يحدث فإن التشكيك في فهم الإسلاميين لشروط وقواعد اللعبة الديمقراطية مشروع في أفضل الأحوال، أما في أسوأ الأحوال فإن المكتوب يُقرأ من عنوانه.
هذه، على أية حال، أشياء لا تدخل في صلب الموضوع. وصلب الموضوع: طالما أن حظوظ الإسلاميين أوفر من غيرهم، بصرف النظر عن مدى التزامهم بقواعد اللعبة الديمقراطية، أو حتى المكتوب الذي يُقرأ من عنوانه، فهل نقبل السير حتى نهاية الشوط، والقبول بنتائج الانتخابات في حال فوزهم؟
الجواب: نعم. فالخيار الديمقراطي صحيح سواء خدم مصالحنا أم جاء ضدها، والإيمان بصلاحيته، بصرف النظر عن النتائج، شرط من شروط الديمقراطية كثقافة، وطريقة في التفكير، وفي الممارسة السياسية. وإذا كان هذا صعباً بالنسبة للسياسيين فإن مسؤولية العاملين في الحقل الثقافي مُضاعفة، إذ لا يجوز أن يتصرفوا كسياسيين إذا طاب لهم الأمر، وأن يعودوا إلى “الثوابت” بطريقة انتقائية.
وأود، هنا، الاستعانة بالنموذج الجزائري في مطلع التسعينيات من القرن الماضي كوسيلة إيضاح. في ذلك الوقت فاز الإسلاميون الجزائريون في الانتخابات البرلمانية، لكن النخبة الحاكمة رفضت القبول بنتائج الانتخابات، وهذا بدوره أشعل فتيل حرب أهلية استمرت عقدين من الزمن. وفرضيتي الأساسية في هذا الصدد أن الانقلاب على نتائج الانتخابات لم يشعل فتيل الحرب الأهلية وحسب، بل وأعاق التحوّل الديمقراطي في الجزائر والعالم العربي، أيضاً. لماذا؟
لأن صعود الإسلاميين إلى سدة الحكم يعني وضع شعاراتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية موضع التطبيق على الأرض، ويعني انكشاف أمر هذه الشعارات، وافتضاح مدى عجزها وفشلها. ولو لم يحدث الانقلاب في الجزائر، لكانت لدى الناخبين العرب تجربة فاشلة ملموسة يمكنهم الحكم عليها، والاستفادة من دروسها.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بمصر فإن أداء الإسلاميين تحت قبة البرلمان خلال الأشهر القليلة الماضية، الذي امتاز بقدر كبير من السذاجة، والخروج عن الموضوع، وطموحات الهيمنة، أثار قدراً لا يُستهان به من الاستياء في أوساط قطاعات مختلفة من المصريين، ومن بينهم أشخاص صوّتوا للإسلاميين. وهذا أمر لم يكن من السهل تحقيقه دون وضع هؤلاء تحت قبة البرلمان، وعلى الهواء في جلسات متلفزة.
ولكن هل يقبل عاقل تسليم مصير البلاد والعباد لجماعة من الناس تحكمها أيديولوجيا خلاصية يمكن التنبؤ مسبقاً بنتائجها الكارثية؟ الواقع أن الناخبين هم الذين يقررون هذا الأمر، إذا قبلنا شروط اللعبة الديمقراطية، وطالما توفرت لدينا إرادة تحرير البلاد والعباد من سطوة الإسلام السياسي بطريقة سلمية وديمقراطية تماماً.
ولكن ألا ينطوي موقف كهذا على شبهة القدرية، وعلى احتمال أن يرفض الإسلاميون بعد السيطرة على مقاليد الحكم الاحتكام إلى صندوق الاقتراع، في سياق رفضهم “للقيم الغربية” بما فيها الديمقراطية، والانتخابات، وحرية التعبير، وتشكيل الأحزاب، واستقلال القضاء، والفصل بين السلطات؟
وألا ينطوي موقف كهذا على احتمال تدمير مجتمعات وتفكيك دول قائمة في محاولة لإعادة تشكيلها بطريقة جديدة؟ ألا يعني هذا تبديد سنوات وثروات وحيوات في مغامرات للهندسة الاجتماعية محكوم عليها بالفشل؟
الجواب، أيضاً، نعم. فالتاريخ لا يُشفق على أحد، ولا يشتغل عند أحد. لكن أحداً لا يستطيع مصادرة حق الناس في الحرية والعدالة الاجتماعية، والثورة، حتى وإن وضع على وجهه قناع الخلاص، ورفع شعارات الإسلاميين.
يبدو أن الطريق إلى الديمقراطية في العالم العربي تمر عبر هذا المضيق. مضيق إجباري وباهظ التكاليف. وقد يحتاج الأمر إلى بضعة عقود من الزمن، ربما حتى أواسط هذا القرن، قبل اتضاح فشل الإسلاميين في حل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وهذا كل ما يمكن أن يُقال، اليوم، عنهم وعن الانتخابات واحتمالات الفوز.
khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني- برلين