قبل عقود شكلت التجربة الثقافية والفنية والاجتماعية، وحتى السياسية، في الكويت، مصدر إعجاب للكثير من المواطنين في الخليج العربي، إذ كانت منارة للتنوير وبث الأفكار الحيوية والمدنية، من خلال المسرح والمسلسلات والإصدارات الورقية كمجلات: “العربي”، “عالم الفكر”، وأيضاً سلسلة “عالم المعرفة”، فضلاً عن الترجمات المنتخبة من الأدب العالمي، والنقاشات التي كانت تدور في الديوانيات والصالونات المتنوعة.
حتى الحريات الاجتماعية والفردية المتعلقة بالمرأة والصحافة والرأي، كانت فيها الكويت مصدر غبطة من عدد من الجيران، رغم تشابه المجتمعات الخليجية في كثير من طبائعها الاجتماعية وتفكيرها الذي يميل إلى السلم والمحافظة من دون تشدد أو تزمت، وهو تشدد يمكن القول إنه طارئ، عمل على تثوير التدين، وتحويله إلى حركة أصولية، أحياناً سياسية – حزبية التوجه كما في “الإخوان المسلمين” و“السرورية” و“حزب الله“، وأحايين أخرى راديكالية منغقلة كما في “السلفية التكفيرية“.
هذا الزخم التنويري الكويتي في السنوات الأخيرة تراجع، بل تحول من نموذج جاذب إلى مثال طارد، مع تزايد الاشتباكات السياسية في مجلس الأمة ووصول شخصيات ذات توجهات يمكن وصفها بـ“الماضوية“، سواء من “الإخوان” أم من “السلف” أم من المتحالفين معهم من “القبائل“.
هذه القوة الصاعدة في البرلمان، لها تأثيرها على قطاع من الشارع العام، الذي تؤثر فيها بعمق خطابات التدين الشعبي المنغلق والعصبويات القبلية، ما جعل هناك تلاقي مصالح بين المجموعتين، عزز من ذلك تحالفهم مع بعض القوى التي لديها مصالحها السياسية أو الاقتصادية، والساعية لتكريسها وزيادة نفوذها.
من يتابع اليوم ما يجري في الكويت، يتعجب من الأفكار التي يطرحها عدد من النواب، وسعيهم إلى تضييق الحريات العامة، والحد من حضور النساء في المجال العام، والسعي لسن قوانين لا تتواكب والتفكير المدني، بحجة أنها مستمدة من “الشريعة“، فيما هي مجرد قراءة بشرية محدودة للدين، غير واعية لمقاصده العامة الكبرى التي جاء من أجلها، وفي مقدمتها صون الإنسان ورفعته وحريته وكرامته.
الخطاب المتعاظم من الإسلامويين في الكويت، يأتي على النقيض من التغيرات الإصلاحية التي تشهدها دول الجوار العربي، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، حيث تجري عملية تغيير مفاهيمي واسعة، مدفوعة برغبة في ترسيخ قيم: المواطنة، التعددية، سيادة القانون، مدنية الدولة، تجاور الثقافات، الحريات الاجتماعية… وهي قيم رافعتها “التنوير” ونابعة من إرادة سياسية تستشعر حاجات المواطنين، وتدرك أهمية مواكبة التطورات العلمية والتقنية والثقافية التي تجري في العالم، لأن هذه المجتمعات هي جزء من الكيان البشري الأوسع، والذي تريد أن تكون في مقدمته، وليس في مؤخرة ركبه!
هذه التغيرات الإيجابية، وتحديداً “رؤية المملكة 2030″،أثرتفيقطاعاتواسعةمنالجمهورالذييراقبها،وحتىفي
مواطنين من دول ليست ناطقة بالعربية كالجمهورية الإسلامية الإيرانية.
أكثر من مرة تجمعني نقاشات مع مواطنين إيرانيين أقابلهم صدفة في إمارة دبي، أو في الحلقات المغلقة مع عدد من الصحافيين، جميعهم يبدون إعجابهم بما يجري في السعودية، وعدد منهم زار المملكة لمشاهدة ما يجري مباشرة.
أبعد من ذلك، صادفت مواطنين أميركيين في مناسبات عامة، وجدتهم يسألونني بشغف عن “الرؤية” وكيف يتفاعل معها المجتمع السعودي.
النموذج الإماراتي في تجاور الثقافات، واحترام التعددية، وتعزيز السلم الأهلي، هو الآخر محل اهتمام ومتابعة، لأنه قائم على التجربة العملية وليس مجرد التنظير الفكري.
إذاً، أمام هذا الاهتمام الكبير بـ“التنوير” في الرياض وأبو ظبي، والتقدم بخطى ثابتة، مدروسة، وعملانية… أمام كل هذا، أمر مثير للاهتمام أن لا يؤثر كل ذلك في تفكير الإسلامويين الكويتيين أو المتحالفين معهم، ويدفعهم نحو مراجعة خطابهم، واجتراح منهجية قائمة على الاعتدال والاهتمام بتنمية الدولة ورفاهية المواطنين، عوض الانشغال بحجب الحريات العامة!
المعضلة أن هذه الخطابات الماضوية لن يكون تأثيرها محصوراً في حدود الكويت، بل تأتي لتكون مناوئة لكل ما هو تنويري في الخليج العربي، ساعية لمعارضته وتشويهه والتصويب عليه!
في مناسبات سابقة، كانت هناك مواقف متشددة من مغردين وقيادات دينية ونواب كويتيين ضد الانفتاح في الرياض، أو نشاطات هيئة الترفيه، أو ضد “بيت العائلة الإبراهيمية” في أبوظبي؛ ما يعني أن هؤلاء الناشطين المؤدلجين هم بمثابة المنصة الخلفية التي تساند أقرانهم في الدول المجاورة، وتقول ما يعاضد مشروعها “الحزبي” العابر للأوطان، ضمن ماكينة عمل تتوزع فيها الأدوار وتتكامل، ولذا يجب مراقبة أدائها وتقييم مدى تأثيره السلبي على المجتمعات الخليجية.
المُبشر بالخير، أن دولاً كالسعودية والإمارات، ماضية في عملية تطوير الدولة، مدعومة بإرادة سياسية عُليا، وحماسة كبيرة لدى الجيل الجديد من الفتيات والفتيان، لتيقنهما بأن النهضة الصناعية والقانونية والعلمية والبنيوية التي شهدتها أوروبا، كان التنويررافعتها، والأفكار الخلاقة التي جاء بها كبار الفلاسفة والعلماء والمخترعين على مدى عقود… لذا، المسيرة مستمرة، وبقوة!
خربوا الدنيا هؤلاء