في ملتي واعتقادي أن المدينة التي بناها في مصر الإسكندر الأكبر،لم تأخذ اسمها من اسم الإسكندر” الفاتح”، بل من صفته كتلميذ للمعلم الأول: أرسطو ؛ ولهذا تحديدا ً ُتوجت عاصمة ثقافية للعالم في العصر الإغريقي فالروماني، فالعصر المسيحي. فأية لوعة تعصر قلب العالم المعاصر إذ يراها اليوم وقد أصابها مرض يسميه الأطباء ” trigeminal ” وترجمته: التهاب العصب الخامس، تتبدى أعراضه وكأن ِمسمارا ً ُسخـّن على النار ثم ُوضع على مكان بين الضروس واللثة، وجئ بمطرقة تهوي عليه لتوصله إلى عظم الجمجمة، مخلفة ً ألما ً لا ُيتصور ولا ُيصور. يحدث هذا بغتة ً ودون إنذار! يلي ذلك فترة نوم ثقيل – بفعل الأدوية المسكنة – لتعود الضربة وقت تشاء مزلزلة ً محطمة ً، دافعة ً ربما إلى الانتحار!
منذ العام 2006 والإسكندرية تتلقي هذه الضربات الكهربائية الصاعقة في أحيائها وشوارعها الشعبية: محرم بك، شارع 45 بالعصافرة ثم حي كرموز أخيرا ً، تنزل المطارق الحديدية على العصب الخامس الملتهب، ليتحول الجسد السكندري ذو التاريخ الحضاري الجميل إلى بؤرة مرض بدوي ّ وهابي ّ يهتف بعض ُ أعضائه ببعض ِ أعضائه: حتموتوا حتموتوا!!
ومن هم هؤلاء الأعضاء الهاتفون؟ إنهم شريحة من المصريين يسمون أنفسهم مجاهدين في سبيل الله! بينما هم جمع من الغوغاء لا تتعدى علاقتهم بالإسلام العظيم ما عرف عن حسن علي المجيد (الكيماوي) من علاقة سيكوباتية إجرامية بالعراق بلد الحضارة التاريخية العريقة. وأما الأعضاء المراد اجتثاثهم من الجسد السكندري فهم المصريون الأقباط أصلاء ُ المدينة،والذين هم – بالطبيعة البشرية – ليسوا ملائكة بغير أخطاء، وفي نفس الوقت هم ليسوا مخطئين مقدما ً بحكم المولد والعقيدة. طبعا ً ثمة من يخطئ منهم في فعل معين، مثل أن يقتل أو يسرق. هنا قد ينطرح سؤال ساذج،لأنه لا يأخذ في الاعتبار المرض الذي انتهش المدينة: فما ذنب الأقباط الذين لم يقتلوا أو يسرقوا كي ُيؤخذوا بجريرة غيرهم؟! وسؤال آخر يدخلنا صميم موضوع اليوم: هل نسي أهلنا المسلمون الشانئون لأهلنا الأقباط الآية َ الكريمة ” ولا تزر وازرة ٌ وزرَ أخرى”؟! غير أن ما جرى برشق هذا المرض اللعين إنما يبرهن علي أن “مسلمينا ” أبطال َ كرموز لم ينسوا هذه الآية وحدها، بل والآيات جميعا ً، ويشي كذلك بأن قيم الحضارة الإنسانية قد أوشكت على أن ُتمحي من دفتر مدينة أرسطو – مؤسس علم المنطق – محوا ً وبيلا ًًً. ولهذه الدعوى تفصيل:
دعنا نتأمل حادثة كرموز الأخيرة، وخلاصتها أن ثلاثة أشقياء من “المسجلين خطرين” تصادف أنهم مسيحيون، تشاجروا مع شاب مسلم فقتلوه [لاحظ هنا أن عبارة “تصادف أنهم مسيحيون” تعني أن صفة “المسجل خطر” ليست حكرا ً على الأشقياء من المسلمين بالطبع]
وإلى هنا والحادثة محض إجرامية مآلها القضاء العادل وإنزال العقوبة القانونية بالجناة . ذلك منطق الأمور حين يكون الجسد الاجتماعي سليما ً لا شية َ فيه، لكن حالة العصب الخامس ما لبثت حتى تشنجت و ُسجـّرت في كرموز، فاندفع غوغاء ُ الشر يحطمون محال ومتاجر مواطنيهم المسيحيين الفارين المرعوبين، والغوغاء يصرخون وراءهم “حتموتوا، حتموتوا! ”
فهل اقتربت مصر – بتلك الصيحة الملعونة – من مرحلة القتل على الهوية؟!
ليستبعد المتفائلون هذا الاحتمال المخيف، إنما دعنا نحصر أنفسنا اليوم في السؤال الحال: هل كانت صيحة “حتموتوا حتموتوا” لتطال أهل الحي المسلمين لو كان الجناة ُ مكتوبا ً في بطاقات هويتهم “الشكلية” أن الديانة: مسلم؟!
سؤال لا يحتاج إلى جواب، لكنه ينقل القضية برمتها من حالة الغضب للجريمة في حد ذاتها، إلى حالة يكون فيها الغضب موجها ً إلى ديانة الجناة. وديانة الجناة هنا (إذا كان لأمثالهم دين) هي المسيحية التي يعترف بها الإسلام، و التي يوصي نبيه الكريم بأهلها إلى درجة قوله إن من آذى أحدا ً منهم فقد آذى لنبي نفسه. ويترتب على هذا ضرورة أن ُيسأل المطالبون بإبادة مواطنيهم الأبرياء عن المسوغ الشرعي أو العقلي لمطلبهم. “الأقباط فاحشو الثراء يا أخ” تسأله: فأين الأقباط العمال وصغار الموظفين وصغار الفلاحين وجلهم فقراء؟ وأين أصحاب الملايين والمليارات المسلمون من هذه الحجة الإجرامية؟ وما دخل الثروة بالتلمظ على قتل أصحابها، خاصة ً حين يكون أصحابها علي دين غير دين المتلمظين للقتل؟ وأليست هذه الحجة هي ما استخدمتها النازية لتحريض شعب ألمانيا على إبادة مواطنيهم اليهود؟ و النتيجة؟ خراب ودمار ألمانيا كلها. ترى هل تدبر سفهاؤنا المطالبون بموت مواطنيهم الأقباط َ النتيجة المحتومة لمطلبهم الشاذ المروع؟ خراب مصر واحتلال أراضيها وقتل وتشريد الملايين من أهلها الأبرياء. لقد سمعت بأذني من يقول باستخفاف شيطاني: وماذا لو تخلصنا من بضعة ملايين لا يؤمنون بالإسلام؟ ألا تخلص بهذا بلادنا لدين واحد فتتمكن من تطبيق الشريعة الإسلامية دون معارضة؟ ذلك بالضبط ما قاله حسن الكيماوي،تبريرا ً لما فعله بشعبه في حلايب العراق “تعداد العراق خمسة وعشرين مليون، خله يرجع خمسة ملايين إيش صار؟ ترجع الأمة تنتصر و ترجع مثل زمن الرسالة، حيا الله الموت”. انتهى كلامه، كما انتهى هو على حبل المشنقة، وفي مزبلة التاريخ بجوار كل من جعلتهم ثقافتهم المنحطة يعادون ويقتلون من لا يسايرهم الحافر علي الحافر.
المسألة إذا ً ثقافية لا غش فيها، لا تصلح معها الحلول ُ الأمنية، أو التجاهل “الحكيم”!، وكما أن العصب الخامس علاجه الناجع الجراحة، فعلاج هذه الثقافة الوافدة من الصحراء هو الاستئصال الثقافي، حتى يعود إلى العقل المصري وعيه بوضعه التاريخي الذي عبر عنه أستاذ النقد المفكر د. عبد المنعم تليمة بقوله:
إن ما نسميها بالثقافة العربية الإسلامية، لم تبدأ بالدعوة الإسلامية، وإنما بدأت بعمق تاريخي يرجع إلى الازدهار العظيم في تاريخ البشرية في وادي النيل ووادي الرافدين، فهي ليست ثقافة دينية فحسب وإنما هي وريثة لكل الحضارات العريقة. واذكر هنا قول معلمي طه حسين ” إن المصريين في عصر الموسوعات جعلوا هذه الثقافة وعاء حافظا لكل موروث بشري “. وأنا أقول إن الثقافة الحديثة ابتداء من النهضة الأوربية في القرن ال15 تأسست على هذه الموروثات.ومن هنا فالعرب المحدثون ليسوا العرب العاربة أو المستعربة ولا البائدة ولا الذين خرجوا من شبه الجزيرة العربية يحملون الإسلام فقط، وإنما هم شعوب أسست مع غيرها حضارات إنسانية مرموقة .
”
بهذه الكلمات القليلة – لكنْ الدالة دلالة القانون المجتمعي الناجز– يرصد عبد المنعم تليمة للمصريين ميراثهم المثاقف مع الأمم عبر العصور، فكيف يعقل أن يهدر مصريو الحاضر هذا الميراث فجأة ً، ليقتربوا في بضعة عقود من منحدر الفاشية؟ الفاشية التي جرفت العراق إلى الهاوية بحبل أفكار “القفة” حسن علي الكيماوي، تابع علي جناح الصدامي؟! وهل يعقل ألا تفزع الدولة والأحزاب السياسية والمجتمع المدني والمثقفون مسرعين للتعاطي مع هذا الخطر الداهم؟!
في هذا السياق يغدو مطلوبا ً وبشدة أن يدعو المجلس الأعلى الثقافة إلي مؤتمر عام يشارك فيه إلي جانب المثقفين أساتذة ُ الجامعات والأزهرُ الشريف والكنيسة ُ الوطنية المصرية،ووزارات الداخلية والأوقاف والتربية والتعليم ومسئولو الإعلام المرئي و المكتوب، واتحاد الكتاب لوضع ميثاق عمل ثقافي قومي مهمته تفعيل نص المادة الأولى من الدستور، ذلك النص الفارق الذي يقر مبدأ المواطنة كأساس لانتماء الجماعة المصرية لدولتهم ولوطنهم، وهو النص الذي يتجاوز تعبير الراعي والرعايا، وتعبير عنصري الأمة مسلمين وأقباطا ً، صاعدا ً بالجماعة المصرية جميعا ً إلى علياء الدولة المدنية الحديثة في ممارساتها السياسية الديمقراطية المتألقة صحة ً وعافية.
ساعتها لن يعكر على الإسكندرية أو غيرها من مدن المحروسة أية ُ أوجاع مصدرها التهاب العصب الخامس بعدواه القادمة من البيداء.
tahadyat_thakafya@yahoo.com
* الإسكندرية
الإسكندرية والتهاب العصب الخامس
أتفق مع الكاتب الكبير الأستاذ مهدي بندق في تحليله لأسباب الأزمة وفي توصيفه لمخاطرها الكارثية ، ولو أنني غير متفائلة أن يتقبل المجلس الأعلى للثقافة أو غيره من لأجهزة الدولة المصرية إقتراحه بعقد هكذا مؤتمر لتفعيل المادة الأولى من الدستور ، فهذه الأجهزة لا تعمل إلا بتوجيهات فوقية . النفق مظلم جدا ولا يوجد بصيص من الضوء فيه . ماالحل ؟ لا أدري
الإسكندرية والتهاب العصب الخامسالعزيز الأستاذ مهدي: موضوع مهم وحيوي بقلم مثقف أنيق، ويستحق أن يتصدر واجهة الأهرام ، مع شكوكي بجدوى الكتابة إن لم تتحوّل إلى برنامج تعليمي لتهيئة النشأ .. مع الأسف أصبح الإسلام السياسي البترودولاري التي أدخله السادات (فعليا) وبالا على المحروسة .. يضاف إليه التعصب القبطي المضاد وإنشطار المجتمع عموديا.. كان بودي أن استمر بمسلسل الأستاذ طارق حجي “لو كنت” وأكتب حلقة بعنوان: لو كنت مصريا ؟؟ وأهم عمل سأفعله لو احتكمت للمسؤولية.. أن ألعب لعبة خبيثة مع ” سلطة التراث الديناصوري” وهي دعم فكرة الزواج المدني بين المسيحيين والمسلمين ، وتشجيعها ( كإهداء الشقة والعفش) فعندما… قراءة المزيد ..