يمثل قرار مجلس الأمن رقم 2796،
قرار ولاية البعثة،
ليس مجرد قرار إجرائي، بل هو وثيقة اعتراف ضمني بفشل دولي بنيوي، ويُقدم دليلاً على تحول البعثة الأممية للدعم في ليبيا (UNSMIL) من “آلية حل” إلى “آلية إدامة” لوضعٍ مزمن من الفساد والقمع. إن النقد هنا لا يوجه إلى الأفراد أو حسن النوايا، بل إلى المنهج الفكري والسياسي الذي تبنته البعثة، وهو منهج أعمى عن حقائق البنية الكليبتوقراطية الحاكمة.
1. الأزمة كـ “منتج دوري”: نقد الفرضية المنهجية
الخطأ الفكري الأول للبعثة يكمن في التعامل مع الأزمة الليبية كـ “انشقاق سياسي مؤقت” يمكن علاجه عبر “حوارات سياسية” و”خرائط طريق”، بدلاً من كونه “هيكلاً بنيوياً” يتأسس وتتم حمايته للاستفادة من الفوضى المزمنة. إن الإصرار على تكرار الأجندات يثبت “الجمود الاستراتيجي” للبعثة، التي تفضل مسارًا مكررًا يمنح المافيات والنخب الفاسدة شرعية مستديمة لمواصلة استنزاف الثروات والسطو على الأموال العامة والخاصة.
إن هذا المنهج يهمش العقد الاجتماعي الممزق، حيث تتعامل البعثة مع الكلبتوقراطية كمحاورين وحيدين، متجاهلة الفصل الفكري الحاد بين السياسي (الشكلي) والمعيشي (الحقيقي) الذي أفضى إلى جر المواطنين إلى “ذل الرغيف”، وهذا المنهج الذي تتبناه وترسمه البعثة عبر تحالفها مع الكلبتوقراطية هو بحد ذاته آلية قمع ناعمة.
2. الكلبتوقراطية ولعبة القمار فوق الدولية
إن أخطر ما كشفه مسار البعثة هو تحولها إلى شريك غير مباشر في دعم “الكلبتوقراطية”، أي حكم اللصوص المنظمين.
لقد أصبحت الكلبتوقراطية وعبر مفترسات المال العام والسوق الموازي والاعتمادات المالية الوهمية، تدير لعبة قمار فوق دولية بمصير المواطن.
هذه ليست مجرد ممارسات فساد عشوائية، بل هي آليات هيكلية معقدة ضمن الإرهاب المؤسسي الذي تتبناه النخب، ويتمثل في:
▪︎ مفترسات المال العام والاعتمادات الوهمية:
يتم استغلال آليات الدولة الرسمية (الاعتمادات المصرفية) لإخراج العملة الصعبة عبر استيراد وهمي أو بأسعار مضخمة جدًا، مما يتيح للأطراف المتنفذة تحويل المليارات من أموال الشعب إلى أرصدة خارجية. هذه العملية ليست خفية، بل هي مُدرجة ومنظّمة وتستند إلى حماية من أطراف نافذة في السلطة.
▪︎ السوق الموازي:
هذه الآلية هي المرآة التي تعكس نجاح مفترسي المال العام. التلاعب بأسعار الصرف في السوق الموازي ليس نتيجة عرض وطلب طبيعي، بل هو آلية لتمويل النخب وخلق قيمة ربحية هائلة من الفارق بين السعر الرسمي والأسود، مما يدمر القوة الشرائية للمواطن العادي ويُفقره بشكل ممنهج.
▪︎ اللعبة فوق الدولية:
يتم استخدام هذه الأموال المنهوبة لتمويل الميليشيات، وشراء الولاءات السياسية، والضغط على الدوائر الدولية، ما يجعل النخب الليبية لاعباً في “لعبة قمار” معقدة تتجاوز الحدود الليبية، ورهانها الوحيد هو بيع وشراء مصالح الوطن والمواطن والمقامرة بمعيشته واستقراره.
العمى المُتعمد:
البعثة الأممية عمياء وصماء عن هذه الآليات تحديدًا. عندما تجدد ولايتها وتُطالب بالـ “شفافية” و”إدارة إعادة الإعمار” دون آلية حقيقية للمساءلة الجنائية والمالية التي تطال هذه الشبكات تحديداً، فإنها عمليًا تمنح مظلة دولية لهذا الإرهاب المؤسسي. اصبحت البعثة تفضل “الاستقرار الزائف” القائم على سيطرة هذه النخب، على “المواجهة الحقيقية” التي قد تؤدي إلى انهيار مؤقت ولكن ضروري لإعادة بناء الدولة على أسس سليمة.
3. الانهيار بلا عثرات: النتيجة الحتمية للمنهج
إن النتيجة النهائية لهذا المسار هي الانهيار الكامل للدولة عبر التحلل البطيء والمنتظم للسلطة والموارد.
إن البعثة الأممية، في سعيها لتجنب العثرات التي تعيق عملية التجديد السنوية لولايتها، تمهد الطريق أمام الانهيار. عندما تفشل المؤسسات الدولية في ربط دعمها السياسي بـ آليات رقابية دولية مباشرة وشفافة على المال العام، فإنها عمليًا تكرس مقولة: “استمروا في نهبكم وقمعكم، فنحن ملتزمون بتمديد ولايتكم حتى الانهيار النهائي”.
إن التغيير الحقيقي يتطلب من مجلس الأمن والبعثة:
▪︎ فك الارتباط المنهجي:
ربط أي تقدم سياسي بـ آليات مساءلة شفافة تهدف إلى استرداد الأموال المنهوبة ومعاقبة الفاسدين فوراً.
▪︎ إعادة تعريف الشركاء:
تجاوز النخب الحالية وتوسيع قاعدة الحوار لتشمل ممثلين حقيقيين للمجتمع المدني والضحايا.
▪︎ تغيير الأولويات:
وضع إنهاء الإرهاب المؤسسي وتأمين الحد الأدنى من الكرامة المعيشية كـ شرط قبلي لأي حوار، وليس كـ “توصية” هامشية.
ما دامت البعثة ترفض رؤية الواقع الليبي المُنقع بالذل والإذلال بوضوح، فإنها تظل مجرد إطار شكلي يُضفي الشرعية على التحلل الداخلي، ويُسرّع من وتيرة “الطريق إلى الانهيار بلا عثرات”.
