أصدر «الاخوان المسلمون» المصريون برنامجا لحزب ينوون تأسيسه. وفيه نقاط نافرة. اولاها، رؤيتهم لـ «السياسات والاستراتيجيات»، حيث يبلون بلاء حسنا عندما يقدمون تصورهم لأعلى سلطة في البلاد: نصّبوا لها «هيئة من كبار علماء الدين»، تُنتخب «إنتخاباً حراً مباشراً من علماء الدين». تكون مستقلة «إستقلالا تاما وحقيقياً» عن السلطة التنفيذية في كل شؤونها. تُلزم الهيئة التشريعية (أي البرلمان) باستشارتها واخذ رأيها في كل ما يتعلق بالشريعة الاسلامية المطبّقة تطبيقا كاملا بطبيعة الحال. اما في ما عداها من «نصوص قطعية الثبوت والدلالة»، فللهيئة التشريعية، نفسها قبل قرارها النهائي، ان تراجع «هيئة كبار العلماء»، لكي تبدي هذه الاخيرة «وجهة نظرها فيما تراه أقرب الى تحقيق المصلحة العامة». والأمر نفسه يسري على السلطة الرئاسية: على رئيس الجمهورية ان يأخذ موافقة العلماء ايضا «عند إصداره قرارات بقوة القانون».
فرأي هذه الهيئة، بحسب الحزب المنْوي تأسيسه، يمثل «الرأي الراجح المتّفق مع المصلحة العامة». اذن مجلس أعلى من العلماء على غرار «هيئة تشخيص مصلحة النظام» التي يتربّع عليها الملالي الايرانيون: سلطة مطلقة، فوق كل السلطات؛ لا من يشرف عليها ولا من يحاسبها إلا أعضاؤها المنتخبون من بعضهم.
النقطة الثانية تخصّ الاقباط. الحزب العتيد يسمّيهم «غير المسلمين»؛ ويعيدهم الى وضعية «الذمية» الآفل… لكن من دون تسميتها. فباستثناء مسائل العقيدة والشعائر الدينية والاحوال الشخصية، فالشريعة الاسلامية تطبّق على «غير المسلمين» هؤلاء؛ وخاصة في»النظام العام والآداب عامة». (حجاب المسيحيات مثلا؟ بعدما صار حجاب المسلمات من البديهيات؟). وبعد ذلك، فان «غير المسلم» لا يحق له لا رئاسة الدولة ولا رئاسة الوزراء. طالما ان وظيفة الدولة المنشودة هي «وظيفة دينية». هذا اذا شئتَ في ما يتعلق بمراكز القرار الفوقي. اما مراكز القرار التحتي، فتصنع طبعا في المسجد والكنسية. وهنا يكيل «الاخوان» بمكيالين صريحين. قارن بين وظائف الاول، المسجد، ووظائف الثانية، الكنسية: المسجد له دور ثقافي اجتماعي تنموي بيئي. دور قضاء مصالح الناس ومحو الامية ولجان التصالح والتحاكم الودي. وفيه قسم للمناسبات والافراح؛ وآخر للخدمات الفنية والتعليمية والعلاجية. وقسم اخير للندوات والمحاضرات. اما الكنيسة، فبعدما يمنّنها «الاخوان» بالـ»فتح الاسلامي (…) الذي ساعدَ الكنيسة القبطية المصرية على القيام بدورها الروحي»؛ بعد هذا التسجيل للجميل، يهٍب «الاخوان» للكنسية وظائف تقتصر على الوعظ والخير: «دعم القيم والثقافة». «تدعيم قيم المشاركة والايجابية»: «التصدّي للأزمة الاخلاقية والقيمية»؛ و»دعم الفئات المعوزة كالأيتام والمعاقين والمسنّين». بل يضيفون الى هذا الدور المتواضع رقابة عليه من «مختلف مؤسسات الدولة والمجتمع المدني». وذلك «لتصويب الانحرافات القائمة» ( التي يمكن ان تتعرّض لها الكنيسة دون المسجد… ايضا وايضا). هذا التوجّس الطائفي من «الاخوان» تجاه ابناء طوائف اخرى من وطنهم يفسّره البرنامج بنفسه. فالاقليات (هنا صاروا «اقليات») والمرأة، تجدهم تحت عنوان «»التحدّيات الخارجية». فبعد «التحدّي الاسرائيلي»، هناك تحدي «المشروعات والخطط الاميركية المتتالية للشرق الاوسط باستغلال (…) ورقة حقوق الانسان، وخصوصا ورقة الاقليات والمرأة».
ومع ذلك؛ اي مع ان المرأة قضية من قضايا «تحدّي خارجي»، فان «الاخوان» يضعونها في خانة»قضايا ومشكلات». فبعد الفقر والبطالة والجريمة والامية والطفولة المشرّدة، تأتي «الاسرة والمرأة»: من هذا الباب الضيق، (حيث الاب هو الغائب الأكبر)، ينكبّ «الاخوان» على تحقيق «التوازن المطلوب» من المرأة في «أدوارها». فما العمل؟ طلب مراجعة واحدة من مكتسباتها الاخيرة البارزة، أي بلوغها منصب القضاء؛ فيقول بأن هذه المسألة يجب ان «تكون حالة من الحوار الاجتماعي والشرعي، للتوصل الى توافق مجتمعي» (غموض بنّاء؟). ثم بعد ذلك، يرى من «الواجبات» التي يجب ان تعفى منها المرأة هي مناصب «رئاسة الدولة والولاية وقيادة الجيش». لأن هذه الوظائف بالذات تتعارض مع «التوازن المطلوب…».
في البرنامج نقاط أقل نفوراً. لا مكان لمعالجتها هنا. مثل وجوب تقيّد السيّاح بـ»مبادىء وقيم واحكام الاسلام»… اثناء قيامهم بأنشطتهم الترفيهية. مثل العنف ضد النساء، الذي لايرْثيه إلا لأنه يوصل الى الموت! مثل لازمات «التوعية الدينية» الناقصة لدى الشعب المصري، والمتسببة بغالبية مشكلاته…
لم يكن من الصعب إلتقاط هذه النقاط. فقد سطّرها «الاخوان» دون غيرها من الفقرات؛ كما يسطّر الحزبيون القدماء… فكانت هي النقاط العقيدية اذا شئتَ، المدلّلة على هويتهم الاسلامية. لكن نفور هذه النقاط أبرزَ الشق الثاني من البرنامج: الشق «الزمني»… الباهت، المكرّر، الجاهز؛ والذي تجده في اي من البرامج الحزبية. حتى لدى الحزب الوطني الحاكم. لازمات في الاصلاح السياسي والديموقراطية والشورى وحقوق الانسان والتنمية والقومية والفصل بين السلطات… استهلكت الجزء الاغلب المتبقي من الصفحات (128 ص). وجاءت كأنها موازية للنقاط العقيدية النافرة؛ ولكن من دون ان تلتقي بها. بدا هذا الشق كأنه من شغل (copy paste)، أي «قصّ والصق». ولم يثر لدى ناقليها اي حرَج، أي ورَع. ففي نفس الوقت الذي يدعو فيه البرنامج الى الفصل بين السلطات، يبتدعون هيئة عليا إضافية تفوق هذه السلطات جميعاً. وفيما ينادون بـ»عدم التمييز بين المواطنين في الحقوق والواجبات على اساس الدين والجنس واللون» يضيّقون على الاقباط بمزيد من الانتقاص من حقوقهم. والأمر نفسه عن المرأة: حيث يدعون الى «تمكين المرأة من كافة حقوقها» ينتزعون منها حقوقا مكتسبة.
نفس لغة الاحزاب الحاكمة، والمعارِضة؛ نفس تناقضاتها مع نفسها ومع سياقها. نفس الممارسات ايضا. مع الفرق الوحيد ان الهيئة التي يفرضها «الاخوان» على المواطن أقل تعرّضا للمحاسبة من أية هيئة يتبناها أي حزب، موالياً كان أم معارضاً.
«الاخوان المسلمون» ينوون تأسيس حزب منذ فترة. لكن نيتهم اخذت بالتبلور الآن بعدما وُضعت بنود على التعديلات الدستورية، لا تجيز لغير الاحزاب تقديم مرشحين الى رئاسة الجمهورية. لكن تأسيس حزب لدى «الاخوان» يشكل معضلة. معضلة امنية اولا. ومعضلة فكرية ايضا، وربما اكثر. صحيح ان البند الثاني من الدستور («دين الدولة الاسلام والشريعة مصدر التشريعات») يعطيهم الحجّة. لكنه لا يفعل اكثر من ذلك. اذ المطلوب ايضا بحسب التعديلات نفسها، ان لا يكون الحزب المنوي انشاؤه ذا صفة دينية. فماذا يفعل «الاخوان المسلمون»؟ أيضحّون باسلاميتهم، ام بزَمَنيتهم المزعومة؟ لا هذه ولا تلك من الخيارات هي الأضمن لبلوغ السلطة المبتغاة. لذلك فقد نالوا من الاثنين اثناء سعيهم؛ فكان برنامجهم «الاختباري» الاول هذا خير تجسيد لميوعتهم الايديولوجية وتصلّبهم العقيدي.
dalal.elbizri@gmail.com
الحياة