أصبحت لدى الإخوان شرعية يريدون عودتها، وسلطة يريدون استعادتها، وثورة يدعون تمثيلها، وذاكرة يحرسونها، وعلامة يرفعونها، وحكاية يكتبونها.
وهذه الأشياء جديدة، وبوابة لتحوّلات لم يعرفوها من قبل، تأتي في ظل صعود غير مسبوق، لا يجاريه من حيث الحجم والتأثير سوى سقوط غير مسبوق. وكلاهما مفاجأة تاريخية، وماكرة، من عيار ثقيل.
الشرعية، في نظرهم، ما نجم عن الفوز في انتخابات الرئاسة، والسلطة هي العودة إلى القصر الجمهوري، والثورة ما وقع في الخامس والعشرين من يناير، والذاكرة هي العام الذي أنفقوه في القصر الرئاسي، وما رافقه، وتلاه، من حروب الشرعية والشريعة، أما العلامة فأربع أصابع في كف مبسوطة، والحكاية (السردية) كل ما تقدّم معطوفاً على “رابعة”.
لم يسبق لهم منذ العام 1928 أن امتلكوا رأس المال الرمزي هذا، وهذه المفردات، والدلالات، واللغة الجديدة. وهذا، ضمن أمور أخرى، يربكهم، ويجعلهم أكثر خطورة، وأكثر قابلية للكسر.
من نافلة القول التذكير بحقائق من نوع: أولاً، أن الفوز في الانتخابات لا يعني تفويضاً إلى الأبد. فمَنْ أعطى التفويض في الصندوق، سحبه، بالملايين، في الشارع.
ثانياً، أن العام الذي أنفقوه في القصر الجمهوري كان حافلاً بالأخطاء والخطايا، والفقر السياسي، والارتجال، وغياب الإنجاز، علاوة على نوايا دكتاتورية سافرة (الإعلان الدستوري، الذي حصّن قرارات الرئيس)، وسباق مع الزمن لاختراق أجهزة ومفاصل الدولة، ناهيك عن محاولة لإعادة صياغة الدولة والهوية من خلال الدستور الجديد.
ثالثاً، أنهم لم يصنعوا ثورة الخامس والعشرين من يناير، بل التحقوا بها متأخرين. وأهم من هذا وذاك أن شعاراتها الرئيسة (الخبز، والحرية، والعدالة الاجتماعية) لم تكن شعاراتهم، وتجاهلوها بعد الوصول إلى هرم السلطة، مقابل استرضاء الطبقة الوسطى بالأفعال، وشراء ولاء الطبقات الشعبية بالأقوال.
رابعاً، ذاقوا حلاوة السلطة، وكانوا قاب قوسين أو أدنى من حكم مصر لمدة “خمسمائة عام”. وهل يحق لمن جاء إلى السلطة في انتخابات ديمقراطية، حتى أن يحلم بأمر كهذا؟
خامساً، بدلاً من علامة النصر، التي ابتكرها تشرشل في الحرب العالمية الثانية، ابتكر لهم أردوغان علامة جديدة، وبديلة مستمدة من رابعة، تتمثل في أربع أصابع في كف مبسوطة، أصبحت جزءاً من بضاعتهم الرمزية، إضافة إلى صور مرسي، والمعتصمين في رابعة، ورسائل قادة الجماعة، وخطبهم النارية على منصتها.
سادساً، تتألف الحكاية من عناصر بسيطة وتبسيطية مفادها: تآمر علينا العلمانيون والليبراليون لأنهم يكرهون الإسلام، فالديمقراطية مفيدة إذا خدمتهم، ومرفوضة إذا عارضتهم. وهنا، تبرز “رابعة” باعتبارها مزاراً للذاكرة الديمقراطية، وترجمة للإرادة “الشعبية”، ودليلاً على بطش العلمانيين والليبراليين من ناحية، وثبات الجماعة على الحق الديمقراطي من ناحية ثانية.
كل هذا جديد على فكر، ومخيال، وعقل الإخوان، ويحتاج إلى وقت قبل إعادة دمجه، وتفسيره، وتبريره، وتأويله، وتحويله، في سردية جديدة ستكون الأكثر تلفيقاً في كل تاريخ الجماعة، بعد سردية الحبل والولادة بلا دنس بين الحربين الأولى والثانية، وسردية درب الآلام في مصر الناصرية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي.
لن يتجلى الجانب الفكري لهذا كله في وقت قريب، بينما يتجلى الجانب العملي، الانفعالي، في أعمال إرهابية، ومظاهرات تفتقر إلى التأييد الشعبي، ومحاولات لشل الحياة العامة، وزعزعة الاستقرار. وهذه الأشياء قصيرة العمر، وتعزز التفكير في ازدياد قابليتهم للكسر.
ولكن ماذا عن ازدياد الخطورة؟
هذا يتمثل في مستويين: الأوّل هو الرد الانفعالي، الإرهابي، والمظاهرات البائسة، واليائسة. وهذا قصير الأمد، على الرغم من حقيقة أن هذا سيكلّف مصر الكثير، وأنهم يخوضون صراع البقاء لا كجماعة سياسية محلية، بل كجماعة ذات امتدادات دولية، وتحظى بدعم دول في الإقليم والعالم. وقد وصل الرد الانفعالي، والإرهابي، في حالات بعينها، وما يزال، إلى حد الانتحار: التهديد بالسيناريو السوري في مصر، والتحريض على انشقاق الجيش.
والثاني: امتصاص الصدمة، وإعادة التموضع بالمعنى التنظيمي والأيديولوجي والسياسي، والتفكير في خطة بعيدة الأمد للاستيلاء على السلطة (لن يفكر الإخوان على مدار عقود قادمة في شيء سوى الاستيلاء على السلطة). وسيكون هذا مترافقاً، على الأرجح، مع إنشاء “السردية الجديدة”، التي تجعل من الاستيلاء على السلطة استعادة “لحق” مسلوب.
لم ينشأ، من قبل، في كل تاريخ الإخوان ما يعزز فكرة الحق المسلوب. وقد استخدموا في الماضي فكرة التأهيل المتدرّج للمجتمع قبل التمكين.
يمثل المستويان الأوّل والثاني تحدياً فكرياً وعملياً للإسلام السياسي، الذي لم يكن انتشاره، ونفوذه، نتيجة ضغط من أسفل إلى أعلى، بل كان نتيجة موضوعية للعبة الأمم على مستوى الإقليم والعالم، ولعبة السلطة في الدول العربية. ولا أعتقد أن “السردية البطولية” الجديدة ستتسع للنقد الذاتي، أو حتى للاعتراف بحقيقة أن صعود الجماعة كان جزءاً من لعبة الأنظمة والأمم. ربما يحدث هذا من جانب منشقين، لكن النواة الصلبة للإخوان لن تفعل هذا.
أخيراً، لن يعتمد مستقبل الإخوان، صعوداً وهبوطاً، على مهاراتهم في امتصاص الصدمة، وإعادة التموضع، وإنشاء السردية الجديدة، بل على نجاح أنظمة “ما بعد الإخوان” في تحقيق العدالة الانتقالية، وفي ترجمة شعارات الثورة “الخبز، والحرية، والعدالة الاجتماعية”، بطريقة ملموسة، تعزز التوزيع العادل للثروة، والمساواة، والمشاركة السياسية، وتداول السلطة، واحترام حقوق الإنسان.
وفي هذا كله، إذا ما تحقق، ما يحكم على سردية الإخوان الجديدة بالتقاعد، حتى قبل نـزولها إلى الخدمة.
khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني
الإخوان، سردية جديدة..!!
صح ألأخوان اليوم سردية جديدة ، لكن مقالك يا عزيزي خضر هو نفسه سردية قديمة ، فقدت مصداقيتها. ومع التحيات .