تهكّم هنري كيسنجر رئيس الديبلوماسية الأميركية في السبعينيات من القرن الماضي، وطرح سؤاله الشهير: “ما هو رقم هاتف أوروبا؟”، وكان في ذلك يشير إلى عدم وجود مرجعية أو سياسة خارجية مشتركة في بروكسيل مقر المفوضية الأوروبية. لكن منذ أواخر العام 2009، بات للاتحاد الأوروبي رئيس مفوضية ورئيس مجلس وممثلة عليا ورئاسة تتداول عليها البلدان كل ستة أشهر.
ومع أن الرئيس هيرمان فان رومبوي وممثلة السياسة الخارجية كاترين اشتون هما المعنيان بإعلاء شأن الـ27 … بيد أنّ كل الجهد المؤسساتي والتنظيمي وكل التاريخ المشترك منذ انطلاقة تجربة العمل الأوروبي المشترك عام 1957، لم يفرزا واقعاً مختلفاً يُتيح رد التحدّي لكيسنجر ولو بعد أربعة عقود.
وأبرز دليل على المراوحة في المكان، عدم توصل الاتحاد الأوروبي إلى حدٍّ أدنى من توافق على المسائل الأساسية في نهجه الدولي، ومنها التناقضات في الحرب ضد ليبيا وصولاً إلى الانقسام الواضح الأسبوع الماضي حيال التصويت على الطلب الفلسطيني أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة لاكتساب صفة الدولة غير العضو أو المراقب في المنظمة الدولية.
يمكن للبعض أن يقارب التشتّت الأوروبي إزاء المسألة الفلسطينية بوزن التاريخ المثقل (مثل عقدة اضطهاد اليهود بالنسبة إلى ألمانيا) أو باستمرار انحياز دول عدة، أبرزها بريطانيا، إلى الخيارات الأميركية في الشرق الأوسط.
إلا أنّ عدم بلورة سياسة خارجية مشتركة يسري على مسارح إقليمية ودولية عدة، وهذا ما يجعل من هذا النقص كعب أخيل الاتحاد ضمن مسار إعادة تشكيل النظام الدولي في ضوء تراجع القوة العظمى الأميركية وصعود مجموعة البريكس (الصين، روسيا، الهند، البرازيل وجنوب أفريقيا).
في أكثر من ملف حساس، تعود الغلبة إلى مصالح الدول الأساسية في تحديد المواقف وعدم التوصل إلى توحيد الموقف الأوروبي، تماما كما جرى عند رفض ألمانيا مجاراة فرنسا وبريطانيا في اندفاعاتهما الليبية.
والأدهى من ذلك عدم قدرة الاتحاد الأوروبي على قيادة العملية العسكرية وترك المهمة لحلف شمال الأطلسي. وتشير هذه الواقعة إلى أن حاجة أوروبا إلى المظلة العسكرية الأطلسية والأميركية تحدّ عملياً من استقلالية الاتحاد ومن قدرته على صياغة سياسة خارجية نشطة في معزل عن التحالف مع واشنطن.
إنّ عدم النجاح الكبير على صعيد السياسة الخارجية أو الدفاع المشترك، يُعزّز من قناعة الكثيرين بأنّ أوروبا الموحدة هي قبل كل شيء سوق اقتصادية مشتركة وعامل استقرار، لأنه مع البيت الأوروبي المشترك أصبحت أوروبا عنواناً للسلام بعد قرون من الحروب.
لكن الاتحاد الأوروبي الذي وصل إلى أوج عزه مع توسعه إلى 27 دولة في العام 2004، بعد اعتماد اليورو كأول عملة مشتركة في العصر الحديث شاعت حوله مقولة صحيحة إلى حد كبير: “أوروبا عملاق اقتصادي وقزم سياسي”، إذ إنّ الاتحاد بسكانه الـ500 مليون نسمة ما زال أكبر قطب تجاري في العالم، ولا يمكن إنكار الدور الريادي لأوروبا كقطب دولي وسيط وقادر في أكثر من أزمة ونزاع.
بيد أنه في في مواجهة الإعصار المالي العالمي عقب انهيار وول ستريت في أيلول 2008، وبعد عبور العاصفة المالية المحيط الأطلسي بشكل متصاعد منذ خريف 2009، تخوّف الحريصون على البناء الأوروبي من أجوبة مستقلة ترمز للأنانية الوطنية. حصل ذلك بالفعل، وسقطت منطقة اليورو في امتحان إنقاذ اليونان مما كان له فعل الدومينو نحو بلدان جنوب المتوسط (البرتغال وإيطاليا وأسبانيا).
ويزيد الطين بلة الخلاف الحالي على اعتماد ميزانية الاتحاد الأوروبي نظراً إلى مطالبة المملكة المتحدة باستمرار معاملتها بشكل مميز… وهذه العثرة الاقتصادية تقلل من جاذبية أوروبا لدى شعوبها وعند الآخرين، وتُعمّق أزمة تموضعها بعد صعود مؤثر للدور الأوروبي في تركيز أسُس نظام عالمي متعدد الأقطاب سياسياً واقتصادياً.
إزاء ذلك، نؤكد مع جون مونيه، أحد أباء الوحدة الأوروبية: “لا شيء ممكن من دون الإنسان، لا شيء دائم من دون المؤسسات”، وبالفعل هذا ما كان يتوجب أن يثبته الاتحاد الأوروبي حتى لا يكون خارج صناعة التاريخ المعاصر كلاعب أساسي.
يرد البعض الحجة ويعتبر أنّ تراكم أفعال الأمم الأوروبية الكبرى، وأبرزها ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا وأسبانيا، وحديثاً بولندا، تصبّ في صالح الإسهام الأوروبي في مواجهة الأزمات والتحديات من البلقان في منتصف التسعينات إلى الملف الإيراني وأزمات أفريقيا حالياً.
من الحوار العربي ـ الأوروبي المنطلق بعد حرب تشرين الأول عام 1973 (بسبب أثر الحظر النفطي) إلى الشراكة الأوروبية ـ المتوسطية منذ منتصف التسعينات، كان الصراع العربي ـ الإسرائيلي نقطة الخلاف التي تمنع قيام سياسة أوروبية متوازنة وفعالة.
وها هي فرنسا التي نجحت في دفع المجموعة الأوروبية (كما كان الاسم قبل الاتحاد الأوروبي) منذ نهاية السبعينات للاعتراف بالحق الفلسطيني، لم تفلح الأسبوع الماضي في بلورة موقف أوروبي واحد من التصويت نظراً إلى الوزن الإسرائيلي والأميركي داخل دوائر القرار الأوروبي، أو نظراً إلى الاعتبارات الخاصة البريطانية أو الألمانية أو التشيكية أو البولندية.
غداة تباين باريس ولندن، أكد لوران فابيوس ووليام هيغ التزامهما حق الفلسطينيين في الحصول على دولة، واعتبرا أنّ الأمر الأساسي هو العودة السريعة إلى المفاوضات التي هي الطريق الوحيد الممكن للتوصل إلى اتفاق سلام عادل ودائم تولد بموجبه دولة فلسطين السيدة والقابلة للحياة.
لكن هذا الكلام الإنشائي يحتاج إلى خطة أوروبية مشتركة ورسالة قوية من أجل دفع الرئيس باراك أوباما إلى تبنّي دور قيادي للخروج من المأزق حتى لا تكون ولايته الثانية تكريساً للنزاع غير القابل للحل.
إنّ ضرورة دعم الاعتدال الفلسطيني والتناغم مع موجة ما يسمى الربيع العربي دفعا بباريس للخروج عن تحفظها وإنقاذ وجه أوروبا عند أنصار الحق الفلسطيني. وهذا الدور الريادي الفرنسي مطلوب في اكثر من مجال حتى لا تخرج أوروبا فعلاً من المشاركة في صناعة الوقائع السياسية الراهنة، وخصوصاً في المشرق المتوسطي (وقلبه لبنان وسوريا) ليبقى مرآة للضمير الأوروبي.
khattarwahid@yahoo.fr
جامعي وإعلامي لبناني
جريدة الجمهورية