**
(1)
ينقلنا الحديث على الإبداع والديمقراطية إلى العالم الداخلي أفراداً وجماعات. فهناك إهمال شبه كامل لهذا العالم في الكتابات النظرية العربية حول قضايا المجتمع السياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها، وهو إهمال مخلّ، ذلك ان الفرد أخيراً هو الذي يعيش هذه القضايا، ولا يعيشها، كما هو مفترض، برأسه وحده، بل يعيشها أيضاً بعواطفه ومشاعره، بآلامه وأفراحه، لا يعيشها بوصفه كائناً يفكّر وحسب، فكما لا شعر دون شعراء، كذلك يمكن القول لا ديمقراطية دون ديمقراطيين. ربما، لهذا، يتيح لنا الحديث على الإبداع رؤية أكثر شمولاً، لمسألة الديمقراطية نظراً وممارسة. ويبدو لي أن أعمق ما تقوم عليه الديمقراطية من منظور الإبداع هو ما أوجزه في النقاط الآتية:
أولاً، لا حقيقة مسبقة/جاهزة. فالحقيقة اكتشاف دائم، كأنها تجئ من أمامنا دائماً، عبر العلاقة الدائمة بين الفكر والواقع. وهذا الاكتشاف يشارك فيه الجميع، وليس حقاً محصوراً ببعض دون آخر.
ثانياً، الآخر هو الوجه الثاني للذات. فالاعتراف بالآخر بوصفه مختلفاً حدّ التناقض أحياناً، ضرورة لكي تكون الذات نفسها موجودة. ودون هذا الاعتراف لا تكون الذات إلاّ توهماً أو انتفاخاً مرضياً.
ثالثاً، السلطة مهمة أو وظيفة وليست حقاً.
في ضوء هذه النقاط يمكن القول إن لا الديمقراطية في المجتمع العربي، فالحقيقة فيه، أو ما يسمى كذلك، مسبقة، جاهزة، دينية أو شبه دينية. والعلاقة بين الذات والآخر هي علاقة تنابذ وتنافٍ، لا علاقة تكامل.
والسلطة في المجتمع العربي حق لا وظيفة. وكل شيء لخدمة السلطة، بدل أن تكون السلطة في خدمة كل شيء، بدءاً من ذلك تشوِّه السلطة كل شيء، وهي تمارس هذا التشويه باسم أكثرية أو باسم شرعية مزعومة، أكثرية أو ثورية.
والأكثرية في الديمقراطية لا تمثّل امتيازاً معرفياً، أو مشروعية في امتلاك الحقيقة، وإنما الأكثرية وضعٌ شرعيٌ يتيح لأصحابها القيام بوظيفة السلطة لتسيير شؤون المجتمع في ظل رقابة كاملة مما يقابلها، الأقلية، أو منها هي نفسها.
(2)
إن المجتمع العربي لم يعرف الديمقراطية ولا أي شكل منها في تاريخه كله، وإنما عرف ما يمكن أن نسميه بالتسامح/العفو. إلاّ أن التسامح شيء، والديمقراطية شيء آخر. فالتسامح اعتراف بأن الآخر ضعيف لدى الأكثرية، وانه في حمايتها وليس اعترافاً بأنه جزء عضوي من بنية المجتمع. لكن، هذا لا يعني أن المجتمع العربي لا يمكن أن يصبح ديموقراطياً، أو أن تخلّفه – كما يقال – يحُول دون ذلك.
يمكن أن تكون الديمقراطية في المجتمعات كلها بصرف النظر عن معايير التقدم والتخلّف. وهي على كل حال معايير تجب إعادة النظر فيها. لكن مستوى ممارستها، مستوى ممارسة الديموقراطية، هو الذي يختلف من مجتمع إلى آخر.
إنما غياب الديمقراطية عن المجتمع العربي يعني أنه لم يتغلب بعد، بوصفه مجتمعاً، على ما يحول دون قيامها، كما فعلت المجتمعات التي يمكن تسميتها ديمقراطية. وهذا الذي يحول، لا نستطيع أن نتعرف عليه إلاّ في ضوء نضال تلك المجتمعات من أجل الديمقراطية، لأنها نتاج تاريخي لهذا النضال. وكانت قاعدة هذا النضال، تأسيس المجتمع المدني، أي أساساً للقول إن الإنسان هو وحده مصدر المعرفة والحقيقة، وهو سيد مصيره، ولا مرجعية لهذا كله خارج عمل الإنسان وحياته وخبرته. وهذا الذي كان يحول، هو، الدين ونظامه الفكري – المعرفي.
هكذا لم يعد الدين في هذه المجتمعات الديمقراطية نظاماً أو مؤسسة ملزمة على الصعيد المدني، صعيد العلاقات والقيم، وإنما أصبح مجرد إيمان شخصي.
إن الديمقراطية في المجتمع العربي مرهونة بقصْر الدين على أن يكون فردياً، بل إن هذا وحده لا يكفي. فالديمقراطية أفق وصيرورة، ونظام يتكامل باستمرار وليس وصفة جاهزة.
الديمقراطية حركة نضال متواصل، لأنها مقترنة بقدرات الإنسان على التفتّح الكامل داخلياً، وعلى تأسيس الخارج وتنظيمه بحيث يصبح طيِّعاً، مفتوحاً أمام الإنسان، دون أي عائق. ولهذا لا نرى ديمقراطية كاملة في أي نظام يسمي نفسه ديمقراطياً اليوم.
(3)
يتميز “الإبداع” بما هو إنتاج أفكار جديدة خارجة عن المألوف، بإمكانية الوجود/الحضور/الظهور في مختلف أنواع الأنظمة، وفي هذا بعض أسراره الكبرى. وهو يمكن أن يكون في مجتمع متخلّف أكثر عمقاً وغنىً وإنسانية منه في مجتمع متقدّم. وفي هذا بعض أسراره أيضاً.
غير أن الإبداع يكون أكثر اتساعاً/عمقاً، عندما لا تواجه معوقات في العالم الخارجي. ومعوقات الإبداع في المجتمع العربي كثيرة، تجئ بشكل خاص من الدين ونظامه الفكري، أي من سلطة “النص” الذي ينقلب إلى نصٍ للسلطة.
هذه المعوقات تحدّ من فسحة الإبداع في المجتمع العربي، بحيث أنها تشكل نسبة ضئيلة من الفسحة الإبداعية التي يتيحها بعض المجتمعات الديمقراطية في أوروبا والغرب عموماً.
وعلى هذا، فإن الإبداع في المجتمع العربي، في مختلف تجلياته، الفنية والفكرية، لا يزال مقصراً؛ مقصراً مثلا في الدخول إلى عالم المكبوت أو المقموع أو اللامألوف أو المسكوت عنه، والكشف عن هذا العالم، وبخاصة ما اتصل من هذا كله في الجسد وفي علاقة الإنسان بما وراء الطبيعة. كما أنه لا يزال مقصراً في إرساء البُعد النقدي الذي يتيح إعادات النظر الدائمة والتجاوز الدائم.
ولا يزال مقصراً أيضاً في إرساء الحركية داخل مسار الإبداع، بحيث يظل المبدع يشعر أن المهمة بالنسبة إليه وإلى الإبداع لا تكمن فيما أنجزه بقدر ما تكمن فيما يطمح انجازه. ولا يزال مقصراً في التأسيس لعالم فني يزول فيه المسبق، وغيره، بحيث يكون الإبداع نفسه قانون نفسه.
(4)
إن طرح قضية الإبداع والديمقراطية في المجتمع العربي، لابد أن يكون طرحاً خاصاً/مختلفاً، باعتباره يلمس واقعه وآفاقه كمجتمع، فالحديث عن الإبداع والديمقراطية يتعدى بُعديه الصريحين، ليطرح القضية في كل الأبعاد الأخرى المتصلة بها.
ولا شك أنها ستكون قضية قلقة ومقلقة لثقافتنا العربية، لأنها قضية قابلة للتصريف في واجهات عدة، وقابلة للتلوين، ومتداخلة الوجود والجوانب، والتعمّق فيها يقود إلى طرح بنية العقل والمجتمع العربي برمته للسؤال.
وتتضمن أهمية هذا السؤال تعدداً في المداخل والصياغات، وهو شيء ينعكس سلباً على كل محاولة تروم الاقتراب منه، حيث يشعر الباحث ببعض الارتباك والإحجام الناجمين عن الإحساس بجدة السؤال، بل وابتعاده عن دائرة الانشغالات الفكرية المألوفة.
ولكن السؤال الملح في هذا المجال؛ متى يزدهر الإبداع في مجتمعاتنا العربية، ومتى تصبح ثقافتنا الراهنة ثقافة ديمقراطية؟
إن قضية الإبداع والديمقراطية تنطوي على تساؤلات عدة لها صلة بالحق في الاختلاف، وبالتعدد والتسامح – كمفهوم فلسفي- وله كذلك صلة بحرية الرأي والتعبير، ومفهوم المواطنية والمجتمع المدني، وتقبل الآخر المختلف.
ويعنى هذا أن للتساؤلات الآنفة بُعدين، بُعد فلسفي- ثقافي، وآخر سياسي- مؤسسي، وهما بُعدان مقترنان ومتداخلان، فقد دلَّت التجربة التاريخية على أن الإبداع، بكل أنواعه/أجناسه/أشكاله، لا يزدهر قط في المجتمعات التسلطية/القهرية، فالإبداع لا يعيش إلاّ في مناخ ديمقراطي، مثلما لا تحيا الديمقراطية إلاّ في مناخ يسمح بالإبداع المختلف/اللامألوف.
إذن، ليس من الغريب وجود الصلة الوثيقة بين الإبداع والديمقراطية. فهما يعارضان الاستبداد، بحيث يعارض الإبداع سيادة الرأي/النموذج/الفكرة/الشكل الواحد، وتعارض الديمقراطية سيادة الإرادة/الرأي/الموقف/التوجه الواحد، ويتمسك الإبداع بضرورة مراعاة التعدّد على المستويات كافة للاستفادة من مختلف التجارب، والانفتاح على كل الآفاق، وتؤمن الديمقراطية بأن مكامن القوة في المجتمع متعددة ومختلفة، وأن كل تمركز للسلطة يكون على حساب إقصاء/قتل ذلك التعدد والاختلاف، وليست المسألة بطبيعة الحال مسألة أخلاقية فحسب، بل هي مسألة سياسية أيضاً، فحرمان مكونات المجتمع من طاقاتها المبدعة، معناه حرمانه من مقوماته الخلاّقة.
(5)
يمكن القول إن الإبداع والديمقراطية يتقاطعان في نقاط عدة؛ أولاً، يلتقى الإبداع والديمقراطية عند نقطة الإيمان بالتغير والتطور والتقدم. فبقبولهما لإمكانية أن يتجدد “السؤال” من ناحية، و”الجواب” من ناحية أخرى أو معاً، بحيث يتقبل كل من الإبداع والديمقراطية كل جديد إن لم نقل أنهما يخلقانه.
ثانياً، يلتحم الإبداع والديمقراطية في تقديرهما الكبير للحياة عموماً، وللإنسان على وجه الخصوص، وقد ارتبط الإبداع منذ نشأته بالاهتمام في الحياة وتقديرها، كما ركّز على المقومات التي يملكها الفكر الإنساني، وعلى ضرورة توظيفها من أجل تقدير الحياة، وعليه لا يستطيع المبدع – في مجالات الإبداع كافة – في نهاية المطاف من عدم اقتراح الديمقراطية على مستوى الفعل السياسي/الثقافي/الاجتماعي؛ لأنها هي وحدها التي ستسمح بخلق محيط مناسب لتقدير الإنسان والحياة.
ثالثاً، يمثل الإبداع ديمقراطية في حد ذاته، من حيث كونه ينبذ/يرفض مفهوم “الحقيقة” المطلقة، أي الحقيقة الواحدة، مضفياً على كل حقيقة طابع النسبية والتعدد، بالكيفية نفسها التي ترفض بها الديمقراطية هيمنة الرأي/التيار/التوجه/الحزب الواحد، مكرّسة فكر التعدد والاختلاف، ففي أصلهما معاً – أي الإبداع والديمقراطية – ثمة تضافر من أجل بناء الحقيقة، التي تظل وقتية وعابرة.
ayemh@yahoo.com
* باحث وكاتب كويتي
الإبداع والديمقراطية في المجتمع العربي
من الصعب إيجاد مكانة تحت الشمس للديمقراطية و الإبداع في المحيط العربي المتخلف, متى ما ظهر الإبداع فأن الديمقراطية سبقته وعبدت له الطريق, وبكون الديمقراطية معدومة في الوطن العربي, أيضا الإبداع معدوم, وروح الإبداع مهزوم .هل يفيدنا احد في هدى الموضوع .