في السادس والعشرين من نوفمبر 2025، صدر بيان مشترك (أنظر أدناه) عن عشر دول ذات ثقل إقليمي ودولي، شملت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، إضافة إلى قوى إقليمية متنافسة مثل تركيا ومصر، يعيد التأكيد على دعم الوحدة والاستقرار والازدهار في ليبيا. وعلى الرغم من اللغة الإيجابية التي تضمنتها البيان، فإن تحليل حيثياته يكشف عن فجوة عميقة بين الأهداف المعلنة والمنهجية المقترحة، وهي فجوة تعزز المخاوف من أن هذا المسعى ما هو إلا تثبيت “سياسوي” للأزمة بدلًا من حلها الجذري.
• الإطار الأممي… والقيادة المفقودة.
يرحّب البيان بـ”تمديد ولاية بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا” وبـ”خطة الطريق التي وضعتها الممثلة الخاصة”، ويحث الأطراف الليبية على استخدامها لدفع عملية سياسية “بقيادة ليبية”. يكمن التناقض هنا في أن العملية تبدو مُصمَّمة ومُوَجَّهة من الخارج (البعثة الدولية والدول الموقعة)، في حين يُطلب من الليبيين فقط “القيادة”. إن تكرار الدعوة إلى “حَوكمة موحدة وإجراء انتخابات” هو تكرار لأهداف لم تتحقق منذ سنوات، ما يوحي أن البيان يعيد إنتاج الإطار الفاشل نفسه، ربما لتأمين فترة انتقالية إضافية يتم فيها إدارة الصراع بدلاً من إنهائه.
• توحيد الأدوات… وتجاهل الجرائم.
يُركِّز البيان بشكل لافت على التنسيق والاندماج الأمني والاقتصادي. فهو يرحّب بـ”الجهود الليبية الرامية إلى دمج القوات الأمنية” ويدعو إلى توحيدها وتأسيسها مؤسسياً. كما يشيد بالخطوات المتخذة لتعزيز المؤسسة الوطنية للنفط والمصرف المركزي. هذا التركيز يلامس جوهر الأزمة الليبية، وهو السيطرة على الثروة والسلطة بالقوة.
وهنا يبرز النقد الجوهري والأخلاقي: كيف يمكن للأدوات التي تسببت في الجرائم الخطيرة – من قتل، نهب، انتهاك للحقوق، واستبداد – أن تكون هي ذاتها التي يُعتمَد عليها لتحقيق الاستقرار والازدهار؟
إن الدعوة إلى “دمج القوات الأمنية” دون شرط المحاسبة والعدالة الانتقالية تعني عملياً إضفاء الشرعية على مُرتكبي الجرائم. فالاستقرار الذي ينشأ عن هذا التوحيد هو استقرار هش مبني على قوة الأمر الواقع والإفلات من العقاب. هذا الاستقرار ليس سلاماً دائماً، بل هو تجميد للصراع يمنح القوى المتورطة حصانة، ويغرس بذور صراعات مستقبلية مدفوعة بالظلم المكبوت.
• المصالح الدولية وتثبيت الواقع الاقتصادي.
يظهر البيان بوضوح اهتمام الدول الموقعة بـتأمين المصالح الاقتصادية، خاصة من خلال الإشادة بالخطوات المتخذة في المؤسسات السيادية. هذا الترحيب بالتعيينات والاتفاقيات الاقتصادية الأخيرة قد يُنظر إليه كدعم انتقائي لأطراف محددة في صراع السيطرة على الثروات النفطية الليبية.
بالنسبة للقوى الدولية، إن ليبيا القوية والمزدهرة التي يتحدث عنها البيان، هي في المقام الأول ليبيا المستقرة اقتصادياً والقادرة على ضخ الطاقة ومكافحة الهجرة غير الشرعية، حتى لو كان ثمن ذلك هو التغاضي عن العدالة للضحايا الليبيين. هذا النهج يخدم أجندة الدول الموقعة التي تريد “إدارة المخاطر” أكثر من “حل الأزمة”، ما يجعل البيان أقرب إلى وثيقة تأمين للمصالح الخارجية منه إلى خارطة طريق للسلام الوطني.
• الحاجة إلى خطة بديلة: العدالة كشرط مسبق.
إذا كان الهدف حقاً هو السلام الدائم، فإن الخطة البديلة يجب أن ترتكز على المحاسبة كشرط مسبق للاستقرار، وليس نتيجة متأخرة له. يمكن تحقيق ذلك عبر مسارين متوازيين:
> الإصلاح الأمني المشروط: يجب أن تبدأ عملية توحيد القوات الأمنية بـالتفكيك والفرز وليس الدمج الأعمى. يجب وضع قوائم واضحة للأفراد والوحدات المتورطة في انتهاكات جسيمة، واستبعادها الفوري من أي هيكل أمني جديد يموّله المجتمع الدولي. يجب أن يُربط كل دعم لوجستي أو مالي أو تدريبي بمدى التزام الهياكل الجديدة بمعايير حقوق الإنسان والقانون الدولي.
آلية العدالة الانتقالية الفعالة: يجب دعم إنشاء قضاءٍ وطني فعال مدعوم برقابة دولية للتحقيق في جرائم الحرب والانتهاكات الجسيمة. يجب أن يُلزم البيان الدولي الأطراف الليبية المتعاونة بـتسليم المطلوبين دوليًا ووطنيًا، ما يرسل رسالة واضحة بأن السلطة لن تكون غطاءً للإفلات من العقاب. هذا المسار، وإن كان أصعب، يضمن بناء مؤسسات موحدة ونظيفة تحظى بثقة الشعب، وبالتالي تكون قادرة على الحفاظ على الاستقرار بشكل مستدام.
• ثمن السلام الزائف.
البيان المشترك هو مثال صارخ على التعامل “السياسوي” مع صراعات معقدة. إنه يسعى إلى بناء استقرار شكلي، دون معالجة العلة الجوهرية المتمثلة في غياب العدالة والإفلات من العقاب. إن هذا النهج يكرس السلطة لأدوات الجريمة، ويعكس ضوءاً خافتاً على استعداد الدول الكبرى للتضحية بمبدأ العدالة الليبية مقابل تأمين مصالحها الخاصة في الطاقة والأمن الإقليمي. إن السلام الدائم لا يُشترى بالتنازل عن دماء الضحايا، بل يُبنى على سيادة القانون والمحاسبة. وطالما ظلت المبادرات الدولية تمنح الأولوية للاستقرار الأمني والاقتصادي على حساب حتمية العدالة، فستبقى الأزمة الليبية تتمدد أو تتخذ أشكالاً جديدة من الاستبداد المقنّع، مما يؤكد أن أي استقرار يتم شراؤه بثمن العدالة هو استقرار زائف ومحكوم عليه بالفشل.
**
ماذا جاء في البيان المشترك عن الوضع في ليبيا؟
سفارة الولايات المتحدة في ليبيا
صدر النص التالي عن حكومات الولايات المتحدة ومصر وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وقطر والسعودية وتركيا والإمارات والمملكة المتحدة.
نحن مصر وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وقطر والسعودية وتركيا والإمارات العربية المتحدة والمملكة المتحدة والولايات المتحدة نجدد التزامَنا بدعم سعي الشعب الليبي نحو الوحدة والاستقرار والازدهار، وتطلعاته إلى تحقيق سلام دائم.
ونرحِّب بقرار مجلس الأمن تمديد ولاية بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا وبخطة الطريق التي وضعتها الممثلة الخاصة للأمين العام، هانا تيته، ونحثّ جميعَ الأطراف الليبية على استخدام هذه الخطة والتيسير الذي تقدمه البعثة لدفع عملية سياسية بقيادة ليبية نحو حوكمة موحدة وإجراء انتخابات.
كما نؤكّد التزامنا بدعم تعزيز التنسيق العسكري والاقتصادي بين الأطراف الليبية في الغرب والشرق. ونرحّب بالجهود الليبية الرامية إلى دمج القوات الأمنية، وندعو القادة الليبيين إلى اتخاذ خطوات إضافية لتوسيع التنسيق العسكري بين الشرق والغرب وإضفاء الطابع المؤسسي عليه وتوحيده.
كما نحث على اتخاذ خطوات لتعزيز المؤسسات الاقتصادية الليبية، لا سيما المؤسسة الوطنية للنفط، ومصرف ليبيا المركزي، وديوان المحاسبة. وفي هذا الصدد، نشيد بتعيين رئيس رسمي للمؤسسة الوطنية للنفط بموجب قرار صدر في 29 سبتمبر، وباتفاق البرنامج التنموي الموحد الذي وُقّع في 18 نوفمبر من قبل مندوبي مجلس النواب الليبي والمجلس الأعلى للدولة. هذه الخطوات من شأنها أن تُسهِم في وضع ليبيا على مسار سياسات اقتصادية أكثر استدامة ونحو ازدهار أكبر، إذ تمهد الأرضية لتنفيذ برنامج المؤسسة الوطنية للنفط لزيادة إنتاج الطاقة والنمو الاقتصادي، وتعزيز استقرار مصرف ليبيا المركزي واستقرار ليبيا المالي، وتوفير مشروعات تنموية في جميع أنحاء البلاد بإطار رقابي متفق عليه.
إن تعزيز الاندماج الاقتصادي والأمني يُعدّ أمراً أساسياً لضمان سيادة ليبيا وأمنها وازدهارها على المدى الطويل، وسيكمل ويعزز العملية السياسية. فليبيا قوية ومزدهرة تتمتع بمؤسسات اقتصادية وعسكرية وسياسية موحدة هي في مصلحة جميع الأطراف.
