شبّتْ أجيال بكاملها على كراهية الرئيس المصري أنور السادات. على تخوينه وتسخيفه وتقزيمه… لماذا؟ لأنه قرر في ليلة ليْلاء، منفرداً، مثل سلفه ونقيضه عبد الناصر (والزعيم العربي مطلق الحرية في استنباط رؤاه وصياغة تصوراته…)، قرر أن ينقلب على ماضيه القريب، ويسعى ليكون «بطل سلام»، بعدما حظي بلقب «بطل العبور». فكان ما كان من زيارته التاريخية لإسرائيل عام 1977 والتي تُوّجت بمعاهدة سلام مع اسرائيل برعاية اميركية عام 1979 ثم انسحاب اسرائيل من شبه جزيرة سيناء عام 1982 (6 في المئة من اراضي مصر).
ثلاثون سنة مرّت على هذه الاتفاقية. وما زالت الكراهية نفسها، والتسخيف نفسه قائمَين. تضخهما آلة الأنظمة والأحزاب «الممانِعة»: في مصر، وعلى امتداد العالم العربية، فضلا عن بلاد المهجر. القيادة الاسلامية الايديولوجية لهذه الآلة لا تلغي المشاركة القومية فيها انطلاقاً من أسطورة عبد الناصر-صلاح الدين التي تقابلها أسطورة «مهدر الحقوق»، «الخائن»… انور السادات: إذاً، الخير والشر الابديان. والقيادة الاسلامية لا تلغي ايضا المشاركة اليسارية التقليدية، وإن منْكمشة؛ وهي طبعا منضوية تحت جناحها، وذلك على أساس ثابتة أخرى: أولوية «العداء لأميركا واسرائيل» على أي إعتبار آخر.
ثلاثون عاماً والحجج المعادية لاتفاقية السلام، هي هي، على حالها الأولى. لم تُضَف اليها الا حجة الصراع الابدي بين اليهود والمسلمين؛ او المقتلة المفتوحة على افق تاريخي استعادي، على الوعد المهدوي او الازلي. حجة تأسيسية، إن جاز التعبير، لعهد اسلامي جهادي من تاريخ الصراع مع اسرائيل. إنه نظام التعبئة «الجهادي» العامل على اشعال كل النيران.
الاتفاقية منقوصة، يقولون. انسحاب من سيناء، نعم. ولكن مجرد شرطة مرابضة على الحدود. ثم عدوانان اسرائيليان على لبنان بين الزيارة الى اسرائيل وتنفيذ بنود معاهدة السلام الاسرائيلية المصرية (غزوَتا 1978 و1982 الاسرائيليتَان ضد لبنان اللتان لم تحركا دعاة «الصمود والتصدي»، اعداء اتفاقية السلام). ثم يخلصون، بعد تعداد النواقص الاخرى، السديدة كلها، الى أطروحتَين تمليان عليهم كيفية التفكير: الأولى: «ما قام على باطل، فهو باطل». والثانية هي «إما سلام عادل، او حرب شاملة». معادلتان من العالم الآخر، عالم الماوراء؛ ترفعان التاريخ الى مصاف الاسطورة المكررة لنماذجها الطاهرة الأولى والازلية. شيء من ذر الرماد في العيون، من التعبئة المتعامية عن واقعها. والحرب الشاملة النهائية، الهتلرية الروح، (حرب «الحل النهائي» النازية)، لا تقوم على قدرة ما لشنها ولا على تقدير نتائجها، الواقعية هي الاخرى. اطروحة ماورائية بمثابة شعار تعبوي. ربما لا يدرك اصحابها فحواها، أو لا يقصـدون.
اما «السلام العادل»، فصحيح ان اسرائيل لا تريده الآن. لكن رافضي مجرد السلام، ومطلقي صيحات الازالة، هم الذين ينتقصون من درجة عدله… وقد تحول التاريخ على يدهم الى مراوحة مفيدة لتأجيج العدوان وتجـذيره دينيـــاً. إما عدل مطلق، او حرب شاملة. الاطلاق المطلق، او العدم، بمعنى آخر. ولا شيء من النسبية، الا في كواليس «البراغماتية»، المبرّرة هي الاخرى اكثر من السلام نفسه. فالنسبية تتطلب التحرر من الاساطير.
بماذا نصرَ قضيتَهم هؤلاء الذين لا يريدون اقل من حرب شاملة او سلام عادل؟ اعتمدوا استراتيجية قوامها سلاحَان: «المقاطعة الجادة» لاسرائيل وحلفائها وبضائعها، ثم منع كل اشكال «التطبيع» معها. ونظرا لعدم تمكنهم من تنظيم انفسهم ومنافساتهم الابدية على الزعامة، ولـ»براغماتية» قياداتهم المنهجية، تآكل السلاحان، ثم تحولا الى وسوسة معممة تتخذ شكل محاكم تفتيش تراقب «الكفار»، ثم تتلو الادانة اثر الادانة.
الحجة الأقل اسطورية التي يوردها بعض من هؤلاء الرافضين هي ان مصر لم تستفد من الوعود التي انطوى عليها السلام. لم تحصل تنمية ولا رخاء، ولا… بل تفكّك وفقر وفوضى الخ. والسؤال الافتراضي يفرض نفسه هنا، قبل مناقشة مسؤولية كامب ديفيد عن تردّي التنمية مثلا: هل يمكن تصوّر العكس؟ هل يمكن تصوّر ان مصر بقيت حتى الآن في حربها «الشاملة» مع اسرائيل؟ التكلفة؟ الطاقة؟ البشر؟ الارض؟ «الحكومة» او «النظام» لم يكونا اكثر اهتماما بالتنمية والرخاء، صحيح. ولكن، هل انشغلت بقية العقول بهما قدر انشغالها بالوسوسة ضد «المطبّعين» وملاحقة الساحرات؟
هذا هو حال «الشارع» العربي الذي يجرْجر خطاه حافياً، مثقلا بعذاب اليوميات… يكره نظامه وتلعب بعقله وعواطفه انظمة «الممانعة» وأحزابها، فتجعله يفدي حياته من اجل أي «بطل» يصرخ «خيبر خيبر يا يهود…!». تماشياً مع القاعدة الاسطورية الاخرى، الواعدة بتكرار نصر ساحق على الاعداء، يماثل ايام الغزوات الاسلامية الظافرة.
كل هذا مبني على شاهد واحد محق: ان «اسرائيل لا تريد السلام». لا تريد السلام، اذاً لا نريده نحن. اي ان السلام، عندما نخجل من انفسنا احيانافنتوق اليه، نسارع الى قتله إن ارادت اسرائيل قتله. اما اذا استشعروا ان السلام يريح اسرائيل، كما حصل في عقود اولى من نشأتها، فكانوا يقولون: تريد السلام؟ اذاً هي ضعيفة. فلنضربها، لعلنا بذلك نأتي بغنيمة اكبر! وهكذا…
عذرا من السيد المسيح، اقول «اغفر لهم يا ابتاه، انهم لا يعرفون ماذا يفعلون يريدون». وهم دائماً لا يقصدون ما يعلنون.
هذه حال الشارع في معاصيه الاخلاقية والذهنية. في عصيانه على عصره وواقعه. في فوضاه الفكرية المتغذية من «صحوة» دينية. وكلها سمات ليست حكراً عليه. حكام هذا الشارع لا يختلفون عنه. ماذا يريدون من قمتهم الاخيرة؟ يريدون ملاحقة جرائم الحرب الاسرائيلية ونصب المحاكم الدولية ضدها؛ ولكنهم يريدون ايضا عدم ملاحقة البشير من قبل هذه المحاكم نفسها. يريدون بعض القرارات الدولية ويلجأون الى المؤسسات الدولية والقانون الدولي. لكنهم يرفضون القرارات الاخرى المنبثقة من نفس الهيئات إذ يحمون البشير ورجاله. هل نتابع؟
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية- القاهرة
الحياة