إلهام مُسعيد، طالبة شابة فرنسية من أصول مغاربية، هي المسؤولة المالية في الحزب التروتسكي الجديد لمنطقة فوكلوز، تترشّح بإسم الحزب الى الانتخابات المحلية. القضية تنعش الحكومة بعدما هرّبت هذه الاخيرة وزيرها للاندماج الوطني، إريك بيسون، من ورطة «نقاش» على مستوى «وطني» عن «الهوية الوطنية الفرنسية»، كاد ان يطيح بهذه الهوية، أو بالحكومة. فتركيز الوزير على العلاقة بين الهوية الوطنية والهجرة، التي تعني المهاجرين المغاربة المسلمين، استجلب سيلا من الألفاظ العنصرية المعادية للمسلمين خصوصا، اضطرت الرئيس الفرنسي الى اتخاذ القرار بإقفاله. وترشّح الشابة المحجّبة أعطى «الحق» لدعاة العنصرية، اللطيفة منها والفظّة، الى القول: «هل رأيتم؟ هل تريدون تهديدا أكبر من ذلك للهوية الوطنية، ولقيم الجمهورية والحداثة والنسوية؟». في الحزبين الاشتراكي والشيوعي المعارضَين، أيضا، عدى استثناءات قليلة، ردود فعل من هذا القبيل مستنكرة، مستهجنة، تتّهم الحزب التروتسكي بالشعوبية والغوغائية. الحزب التروتسكي نفسه لم يسلمْ من معارضة داخل صفوفه لقرار زعيمه، أوليفيي بوزانسينو، بإدراج الشابة إلهام مُسعيد في لائحة الانتخابات المحلية المقبلة. «أين كتابات الكسندرا كولونتاي وروزا لوكسمبورغ التي شغفت بها الحلقات التروتسكية؟ أين فريدا كاهلو، صديقة تروتسكي الحميمة، ورائدة النسوية الحديثة؟…» يتساءل بمرارة أحد كتاب الافتتاحيات اليساريين.
وهناك أيضاً من «لعبها» براغماتية شيطانية، فقرر بأن إريك بسيون، الوزير، وأوليفيي بوزانسينو، رئيس الحزب التروتسكي، ، هما وجهان لعملة واحدة. الأول يعاير الفرنسيين المغاربة بكونهم غير علمانيين وغير جمهوريين، والثاني يتلقّف الهوية الفرنسية ذات الجذور الاسلامية ويتلاعب برموزها ومعانيها؛ وكلاهما يبقيان قضية الهوية قضية متفجّرة، موضوع سجال عنيف يضرّ بالهوية الفرنسية، وينعش الهويات الما دون وطنية.
هذا السجال الحاد، رهانه السياسي الأوضح، الأبرز الى السطح، هو الرهان الانتخابي. اليمين الفرنسي، عندما لاحظ عشية الانتخابات المحلية بأن اليمين المتطرف يسحب منه قاعدته الانتخابية بسبب استجابته لإستياء بعض صفوفه من تنامي الظهور الاسلامي، عَمد الى استعادة أصواته بإفتعال هذا السجال. وكانت ذيوله كارثية على الجانب الانتخابي الآخر: جانب الفرنسيين المسلمين الذين همّشوا ايضا وايضا في النقاش الرسمي. فانعطفت القاعدة المسلمة في الضواحي نحو المزيد من التأكيد على هويتها المسلمة؛ وذلك بفعل الكيمياء الهويتية التي تجعل من الآخر صانع هويتنا بمجرّد تعرّضه لها. وترشيح محجّبة الى الانتخابات سوف يجلب بالتالي كل هذه الأصوات المغاربية التي لا تفصل الحجاب عن المغاربيين وعن الاسلام، وهي على حق. هذا الرهان الانتخابي هو الأكثر شفافية. ولكن خلف الترشيح وخلف ردود الفعل المؤيدة والمعارضة، هناك معان إضافية:
بالنسبة لفرنسا نفسها: فرنسا الجمهورية العلمانية ذات التراث الديمقراطي الجمهوري العريق، فرنسا هذه التي غمرها المسلمون، مستَعمَرو أمس، ثم غمرت الاسلامية أولئك المسلمين. هؤلاء المسلمون الفرنسيون الذين ولدوا في فرنسا، هم مواطنون فرنسيون طالتهم الموجة الدينية قبل عشر سنوات، بعد غيرهم من مسلمي العالم. وبفعل الكيمياء الهوية ذاتها، كيف تتفاعل فرنسا العلمانية مع هذه الأسلمة المتنامية للمسلمين الفرنسيين؟ باستعادة تراثها المسيحي الثقافي. باطلاق لسانها التاريخي التراثي، الموازي بأصوله البعيدة وبقدسيته للإسلامية التي هي بصددها. ان فرنسا بردة فعلها هذه ، تنقّب عن ذاكرة هي بحجم الذاكرة التي تتحداها بقوة، بنفس بُعدها وعمقها التاريخيَين. فلا تجد غير المسيحية بطبيعة الحال. وهذا حقها الثقافي. لسانها التاريخي والثقافي يقول ذلك من دون مواربة. ويستفيض احيانا بالمقارنة بين دين يعطي ما لقيصر لقصير وآخر يمزج الدين بالسلطة مزجاً عضوياً. اما السؤال المطروح فهو كيف ستدير فرنسا هذه الاستعادة من دون ان تنال من هوية الحاضر الفرنسي العلماني الذي يشكل المسلمون فيه كتلة بشرية هي الاعلى كثافة والقابلة للتمدّد بفضل الولادات الكثيرة؟ الاجابة تاريخية، وليست في مستوى الترهات العنصرية، الايجابية والسلبية، التي تتكرّر مع مع كل حدث أو ظاهرة تتعلق بمسلميها.
المسألة الأخرى هي قضية اليسار، وخصوصا «الجديد» منه. الألفة بين هؤلاء اليساريين، وبين الطروحات الاسلامية مصدرها أولويتهما المشتركة في مقاتلة الامبريالية الاميركية. الخلاف مؤجّل بينهما. وعلى رأس ما يمكن ان يُختلف حوله هو الرمز الأكثر ظهوراً للإسلامية، أي الحجاب. وهذه حال الحزب الفرنسي التروتسكي الجديد. انهم اليساريون الذين يستهجنون الاسلاموفوبيا. فلا فوبيا لديهم غير الامبريالية. وبما ان رأس حربة هذه الامبريالية هي الرأسمالية، فان الحزب اليساري التروتسكي الجديد اسمه «الحزب الجديد الأنتي رأسمالي». وعندما يقبل هذا الحزب محجّبة مسؤولة عن ماليته، ثم يرشّحها للانتخابات المحلية بجرأة وثقة، فهو يخطو الخطوات المترتبة على التقارب مع التوجهات الاسلامية العامة، «وسطية» كانت أم «متطرّفة». انه بذلك يفتح ثغرة في العلاقة بينه وبين «الاصول» الاسلامية لهذه التوجهات. (ثغرة يعرف كيف يستغلها إسلاميو هذا «الاصل»، أي شرقنا).
الآن، قضية الحجاب نفسه وعلاقته بالعلمانية والنسوية. البعض يناقش هذا الحجاب على انه «كاذب»، «غير صادق». اي ان الهام مُسعيد لبسته لتساير البيئة التي تعيش في وسطها، لترضي القاعدة الانتخابية المحتملة. «الصدق» و«الكذب» ليسا مهمين في حالتنا. المهم ان وراء هذه الفكرة تأكيد على ان الاسلامية المتشدّدة أو الوسطية أو المجرد «مؤمنة»، منتشرة بين المهاجرين المغاربيين بما لا تخطئه العين المجردة.
إلهام مُسعيد أعلنت لدى ترشّحها انها «علمانية، نسوية»، ولم تقل شيئا عن كونها «تروتسكية». فإسم الحزب الجديد ايضا لم يعلن تروتسكيته، بل سمّى نفسه على أساس أولويات اللحظة: محاربة الرأسمالية. ولكن ما لم تقله إلهام مسعيد لفظياً، قالته رمزياً بحجابها؛ من انها ليست فقط «علمانية» و«نسوية»، بل ايضا «مسلمة ملتزمة».
النسويات الفرنسيات أجمعن على أن ذلك غير ممكن. كيف تكون نسوية وملتزمة دينياً؟ أليس حجابها دليلا على قبولها بالتواضع وبالدونية وبالقيود؟ ألم تقم النسوية نفسها ضد تعبيرات الدين التي تنال من كينونة المرأة وحريتها؟ الجواب ليس بسيطاً. أن تكون المرأة مؤمنة ملتزمة، وفي نفس الوقت معادية لكافة أشكال وقوانين ومفاهيم تهمّش المرأة وتكرّس دونيتها؛ فهذا إشكال مطروح، ليس فقط على إلهام مسعيد، بل على العديد من المحجّبات المسلمات اللواتي يخضن في الشأن العام، في الغرب كما في الشرق.
ربما نستطيع الاجابة عبر المقارنة: في بلادنا لماذا تتحجَب النساء؟ لكي لا تخرج عن الإجماع الديني الذي بلغه مجتمعهن الصغير او الكبير، أمة كانت أم طائفة. يتحجبن ليرتحن من الخلاف أو الاختلاف، ليتجاوزن معوقات خروجهن. اما في حال إلهام فالعكس: النساء تتحجب هناك لكي يتميزن عن محيطهن الواسع. وأحياناً لتأتلفْن مع عالمهن الصغير: شباب الحيّ، الزوج أو الاخوة المتشددون، ونادراً الأهل الذين لم يعرفوا الالتزام إلا مؤخراً.
شيء آخر. في بلادنا تحرر المرأة كان مليئاً بالنواقص والتناقضات في بداياته السريعة، وهو الآن يتقهقر، يعود الى الظلام. اما في حال إلهام مُسعيد، فصحيح ان هذا التحرر يواجه تعثرات ومراجعات، ولكنه في المقابل متجذّر في القانون والتقاليد والتجارب. والعودة عن كل هؤلاء من مجال غير المفكَّر به. عندما تقول الهام انها «نسوية»، فهي على الارجح لا تعني «نسويتنا»، نحن المشرقيات، انما هي أقرب الى ذاك التيار الفكري النسائي الاسلامي الذي نشأ في الغرب، وسمى نفسه «النسوية الاسلامية»، ونشط في عقد مؤتمرات سنوية وإصدار أعمال وكتابات أخرى. والنقاش الذي يثيره هذا التيار لا ينفصل عن ظواهر من قبيل ترشّح تروتسكية ملتزمة دينياً، أم قيام امرأة بإمامة الصلاة (في ولاية فيرجينيا الاميركية). هذا التيار قوي رمزياً، ضعيف نظرياً، بالرغم مما يعِد به. فالنصوص التي أنتجها حتى الآن لم تتمكن من حل المعضلة التي أخذها على عاتقه: ان يزاوج بين النسوية والاسلامية، بين الإرث الشرقي الالهي، والارث الغربي، البشري. فلو فازت إلهام بالانتخابات، هل ستخوض التجربة؟ هل ستقارع المعضلة وتفتح لها الأبواب؟ علينا الترقّب. فالعصر انتقالي ويحتشد بالنماذج غير المالوفة، غير المتوقعة.
ولكن حتى اللحظة، يمكن القول ان الهام مُسعيد أعطت الوعد بتقديم النموذج المضاد للملسمة الفرنسية. النموذج الذي سبقها، والمتمثل بالجزائرية-المغربية رشيدة داتي، وزيرة العدل في حكومة ساركوزي الاولى، لم يكن مدعاة للاعتزاز العربي أو الاسلامي: انتهازية، متسلّطة، ترتدي أحدث الموضات من البيوت الباريسية الفاخرة، أنجبت خارج الزواج، ومن رجل لم تفصح عن اسمه حتى الآن، ، وأبرز مؤهلاتها صداقتها الحميمة مع ساركوزي وعائلته الخ. فهل تكون تجربة إلهام مُسعيد، بحجابها، الإلهام الجديد للمسلمات الفرنسيات الملتزمات المتكاثرات؟
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية- بيروت
المستثقبل