إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
(الصورة: في الأسبوع الماضي، التقى الرئيسان ماكرون وأولاند بالصدفة. قال الرئيس “أولاند ” لخَلَفِهِ “اتخذتَ القرار الخطأ بِحَل مجلس النواب”. أجاب ماكرون “بالعكس، اتخذت القرار الصحيح”!)
*
1ـ للذين يُحِبّون تعبير “سخرية التاريخ”: كان “إيمانويل ماكرون” نائب السكرتير العام للقصر الجمهوري في عهد الرئيس الإشتراكي “فرنسوا أولاند” (أو “هولاند، في وسائل الإعلام العربية) في 2012. “سخرية التاريخ” هي أن الرئيس السابق “فرنسوا أولاند” قد يُصبح (بعد أشهر، أو حتى أسابيع) رئيسَ الحكومة المقبل في ولاية ماكرون الثانية بفضل نتائج الدورة الثانية للإنتخابات النيابية التي تمّت أمس الأحد ووضعت “الجبهة الشعبية الجديدة”، أي تكتل “اليسار” و”الحزب الإشتراكي” و”الخُضر” في المرتبة الأولى بين القوى السياسية في فرنسا. وإذا حصل ذلك، فسوف يخدم “مكانة فرنسا الدولية” التي اهتزّت بسبب نتائج الأسبوع الماضي، وبسبب قرار “حل البرلمان”.
2ـ كانت النقطة الأولى في تقييم “الشفاف” للجولة الأولى من الإنتخابات الفرنسية في الأسبوع الماضي هي (حرفياً):
“النتيجة شبه الأكيدة للجولة الأولى للإنتخابات التشريعية الفرنسية، وستؤكدها الجولة الثانية مع تعديلاتٍ طفيفة ربما تُخفَّف نسبة نجاح “أقصى اليمين”، هي أن فرنسا ستصبح بلداً “يصعُب حكمه” (ingouvernable)، حسَب تعبير بات متداولاً في قصر الإليزيه منذ قرار الرئيس ماكرون “المتفرّد” بحل البرلمان. هذا سيؤثِّر سلباً في مكانة فرنسا الأوروبية والدولية.”
3ـ تقييمنا يظلّ في محلّه.. تقريباً!! لماذا “تقريباً”؟ لأننا توقعنا ” تعديلاتٍ طفيفة ربما تُخفَّف نسبة نجاح “أقصى اليمين”، وما جرى أمس الأحد هو “وثبة شعبية” (تعبير عراقي قديم جداً) َأنزلَت “التجمع الوطني” من 33 بالمئة من عدد النوّاب المتوقعّ إلى حوالي 20 بالمئة. الفارق هائل. في الأسبوع الماضي، كان “التجمّع الوطني” أول حزب في فرنسا. خلال 7 أيام أصبح ثالث حزب في فرنسا، وحصل فقط على 20 بالمئة من عدد النواب.
4ـ ماذا حدث؟ خلال 7 أيام حدثت “هزة أرضية” في السياسة الداخلية الفرنسية:
ـ انخفضت نسبة المقاعد النيابية التي حصل عليها “التجّمع الوطني” وحلفاؤه من أكثر من 32 بالمئة (في الأسبوع الماضي) إلى حوالي 20 بالمئة فقط، أي حوالي 140 نائباً. فجأةً، سقط “كابوس” وصول اليمين المتطرف في شخص “جوردان بارديلا” إلى رئاسة الحكومة.
ـ ارتفعت تَوقُّعات أصوات “الكتلة الرئاسية”، أي الرئيس ماكرون وحلفاؤه من 60 مقعداً إلى 160 مقعداً، بفارق 100 مقعد. وأصبحت ثاني أكبر كتلة في البرلمان المقبل. (قبل قرار ماكرون بحل مجلس النواب، كان عدد نواب كتلته أكثر من 220 نائباً).
ـ ارتفعت نسبة مقاعد نوّاب “الجبهة الشعبية الجديدة” من 28 بالمئة إلى ما قد يصل إلى 35 بالمئة، ما يجعلها أول كتلة سياسية في فرنسا. ضمن هذه الجبهة يحصل السيد “ميلونشون” على حوالي 100 نائب من أصل 220، مقابل 60 نائب فقط للحزب الإشتراكي، و32 نائب لأحزاب “الخُضر”، و12 نائباً للحزب الشيوعي.
ـ هنالك كتلة رابعة تضم نواب “الجمهوريين” (حزب جاك شيراك). الذين رفضوا التحالف مع “مارين لو بين” ومعهم “اليمين المستقل”، وهي تضم حوالي 60 نائباً. ويمكن للرئيس “ماكرون” أن “يتصيّد” حلفاءً في هذه الكتلة.
5ـ. كيف حدث ذلك؟
6ـ ما حدث هو “وثبة شعبية” لم يُخطّط لها أحد، ولم يتوقّعها أحد، “لمَنع وصول اليمين المتطرف إلى السلطة”. يُخطئ من يعتقد أن شعب فرنسا استجاب لدعوة الرئيس ماكرون لقطع الطريق على وصول “مارين لو بين” وحلفائها إلى السلطة. ارتفعت نسبة المقترعين في الدورة الثانية بنسبة 20 بالمئة (خصوصاً في المدن الكبرى وضواحيها)، وهي نسبة هائلة، بهبّة شعبية عفوية. بالأحرى، “موجة هادرة” ضد “لو بين” وضد الرئيس “ماكرون”. “الماكرونيون” استفادوا من الرفض الشعبي لليمين المتطرف بصورة “عَرَضية” فقط،لأن الناخب كان مضطراً للإقتراع للمرشح الماكروني لإسقاط مرشح اليمين المتطرف. والرئيس “ماكرون” نفسه استفادَ لأن “شبح” استقالته من.رئاسة الجمهورية أصبح بعيداً.
7ـ من سيحكم فرنسا ابتداءً من الغد؟ الجواب: لا توجد أغلبية كافية لأي كتلة. الأغلبية النيابية ستتألف من “كتلة اليسار” و”الكتلة الرئاسية”، اللتين تمثلان معاً حوالي 55 بالمئة من أعضاء مجلس النواب المقبل. والأهم، أن برناج “الجبهة الشعبية الجديدة” كان، تحديداً، ضد سياسات الرئيس ماكرون. ولا يستطيع “اليسار” الذي انتقد الرئيس ماكرون بعنف حتى يوم الإنتخاب أن ينتقل ببساطة، في اليوم التالي، من العداء للرئيس “ماكرون” إلى التحالف معه لحُكم البلاد..
8ـ ما العمل، إذاً؟ كما قال رئيس الحكومة السيد “آتال” في أول تصريح له بعد مفاجأة الجولة الثانية “لقد انتقل مركز السلطة اليوم إلى البرلمان، بإرادة الشعب الفرنسي”. بكلام آخر، لم يعد باستطاعة الرئيس ماكرون أن “يُشَكِّل الحكومات” كما يشاء. صار مضطراً للبحث عن تحالفات في صفوف “اليسار” و”اليمين” معاً. هل هي نهاية “الجمهورية الخامسة” التي فَصَّل رئيس الحكومة الأسبق “ميشال دوبرية” دُستورَها على قياس “الجنرال شارل ديغول”؟ لا أحد يعرف. هل ستتعلّم أحزاب فرنسا أن “تحكم معاً”، كما هو الحال في بلجيكا وألمانيا؟
9ـ حتى لا نُصَعِّب المعضلة الرياضية على القارئ: الرئيس “الوسَطي” إيمانويل ماكرون كان عضواً في “الحزب الإشتراكي” من 2006 إلى 2009، ثم أصبح وزيراً للإقتصاد في العام 2014 في حكومة الإشتراكي “مانويل فالس”. وحينما وصل إلى رئاسة الجمهورية لأول مرة، فقد عيّن محافظ مدينة “الهافر”، عضو حزب “الجموريين” (الحزب “الشيراكي” سابقاً)، “إدوار فيليب”، .المقرّب جداً من رئيس حكومة يميني سابق، هو “ألان جوبيه”، رئيساً لأول حكومة في عهده، كما ان وزير داخلية فرنسا الحالي، السيد “جيرالد دارمانان” جاء أصلاً من حزب “الجمهوريين”.
المشكلة الإجتماعيةـ السياسية ستظلّ قائمة
10ـ الارجح أن الطبقة السياسية ستتوصّل إلى تفاهمات وتحالفات جديدة، خصوصاً إذا “اضطر” الرئيس ماكرون لاختيار “فرنسوا أولاند” (الذي “يَحقُدُ” عليه) رئيساً للحكومة. لكن، في هذه الحالة، فسيضطر الرئيس السابق “أولاند” لتطعيم حكومته بوزراء من الحزب “الجمهوري” (“الشيراكي” سابقاً) حتى يحصل على ثقة مجلس النواب.
11ـ ولكن، ماذا عن الكتلة “الشعبية” التي “خسِرت” الإنتخابات الآن؟ وهي كتلة تتراوح بين 30 و40 بالمئة من عدد النوّاب، وتتمثّل غالباً في الأرياف القريبة من المدن، وفي الأرياف؟ هذه الكتلة ستظل خارج الحُكم على الأرجح، وستظل في المعارضة والإضرابات.. وربما الإضطرابات. ما زالت حركة “السترات الصُفر” غير بعيدة.
12ـ مع أن الدستور الفرنسي يحظر التمييز بين الفرنسي “الأًصلي” والفرنسي “ّالمُجنّس حديثاً”، فإن ذلك لا يحول دون ملاحظة أن صعود كتلة “اليسار” إلى المرتبة الأولى تمّ، إلى حد ما، بأصوات “المُجَنّسين الجدد”، من عرب شمال إفريفيا خصوصاً، وغيرهم، في “دوائر المدن الكبرى وضواحيها”. في حين صبّت أصوات المقترعين في الأرياف والأرياف الملاصقة للمدن لصالح “التجمّع الوطني” (حزب مارين لو بين). علماً أن “الأصوات” التي حصل عليها “التجمع الوطني” لم تتراجع بين الجولة الأولى والجولة الثانية، وظلت فوق رقم 10 ملايين ناخب. وإذا اعتمدنا مقياس أعداد “المُقترعين” وليس أعداد “النوّاب”، فإن “التجمّع الوطني” وحلفاؤه يظل الكتلة الأكبر في فرنسا، أي أكبر من “كتلة اليسار” وأكبر من “كتلة ماكرون”، اللتين تحصدان معاً ما مجموعة 12 مليون ناخب ! أي أن مشكلة “التجمّع الوطني” هي في النظام الإنتخابي “الأكثري”. ولو كان النظام الإنتخابي “نسبيّاً” لكانت كتلة ّ”التجمّع الوطني” في الطليعة وليس في المرتبة الثالثة! من هذا كله يمكن أن نخلص إلى استمرار وجود “خلل إجتماعي ـ سياسي” في فرنسا بين المدن والأرياف. ويمكن أن نخلصَ أيضاً إلى أن “مشكلة الهِجرة” ستظل قائمة في فرنسا، وفي أوروبا عموماً، رغم “الكوفية الفلسطينية” التي تضعها نائبة من حزب “ميلانشون”! كما سيظلّ الرفض الشعبي لسياسات “ماكرون” الإجتماعية: الرواتب المنخفضة، التقدمات الإجتماعية، رفع سن التقاعد الذي فَرَضَهُ “ماكرون” إلى 64 سنة.
13ـ من ناحية علاقات فرنسا العربية والدولية، تدعو نتائج الإنتخابات التشريعية مدعاةً للإطمئنان. خصوصاً في حال تعيين الرئيس السابق “فرنسوا أولاند” رئيساً للحكومة. وكان الرئيس “أولاند” هو من ألغى إتفاقية بيع “حاملة طائرات هليكوبتر” لروسيا بعد غزو أوكرانيا. وكانت علاقاته جيدة مع السعودية ومصر ومعظم الدول العربية الأخرى.
بيار عقل: إفتتاحية “الشفاف”: تقييم سريع للإنتخابات التشريعية الفرنسية
مقاربة جيدة
مازالت فرنسا بحاجة الى عقلاء