يأخذ البعض علينا ما يمكن أن نسميه (العنف اللفظي) في نقدنا للطغم المتسلطة على بلادنا سوريا، ويفترضون أن يكون الخطاب السياسي خطاب حوار لا خطاب قتال، و يحضر في ذهنهم نموذج المعارضات في البلدان الديموقراطية ناسين –طبعا- واقع سلطاتها الحاكمة المستندة إلى الشرعية الدستورية..! حيث أن الخطاب الذي يركز على إشكالات معينة تتعلق بحياة الناس يمكن أن يكون مجديا ومفيدا، ويساعد الناس على حل مشكلاتهم أكثر من هجاء السلطة وشتمها كما يقولون…ويلجأ كتبة النظام وطبالوه والداعون لحواره وحوار جبهته الوطنية التقدمية لوصف ما نكتبه أو ما نقوله في حواراتنا على الفضائيات بوصفها (شتائم)، هكذا قال ويقول لي ممثلو المخابرات الذين يستدعونني دائما (للحوار)…
لكن الجديد أننا بتنا نسمع بعد عشر سنوات من سيرورة الحراك الديموقراطي مثل هذه التوصيفات الأمنية تصدر عن من يفترض أنهم معارضون، في الوقت الذي نحن كما نحن ولم نبدل تبديلا، بينما الجديد في الأمر أن ثمة من يصرون على البقاء في صفوف المعارضة ليهبطوا بها وبمعنوياتها إلى مستوى مزاجهم واستطاعتهم النضالية المؤسسة على مقولة “حفظ الذات”، وكنا قد ألمحنا إلى مثل هؤلاء الراغبين بتوقيف حركة التاريخ أمام أبواب منازلهم، أن يدخلوا بيوتهم ويلوذوا -على الأقل بالصمت- فهو أكثر وطنية وشرفا وصدقا ونزاهة مع النفس من إضفاء المشروعية العقلانية على ضعفهم- ولن نقول عجزهم وجبنهم- الإنساني المفهوم والمشروع، لكن غير المفهوم أن يتم تصويره وتبنيه وفق منظور هجومي شرس ضد أصدقائهم وشركائهم في المعارضة بوصفه الخيار الواقعي والاستراتيجي الوحيد لمستقبل المعارضة، حيث يصعب تصور أن هذه العدوانية بعيدة عن إيحاءات أمنية وفق استراتيجية “حفظ الذات”، من الناعين على المعارضة روح التمرد، التمرد بوصفه هو معنى هوية عصرنا وحداثة عالمنا، حيث لا قيمة لوضعية مونتسكيو وروسو بدون أن يلازمها و يتقدمها روح تمردي فولتيري عاصف… والروح النهضوي التنويري الليبرالي العربي الذي انقلب عليه العسكر واسكت صوت محمد عبده الإصلاحي لم يستطع أن يسكت براكين الكواكبي الهدارة…
لقد دعوناهم من قبل إلى فسح الطريق أمام إرادات القتال من أجل الحرية دون التورط في أن يكونوا شريكا بمصادرتها باسم التعقل والواقعية، فالشعب السوري ليس أقل شجاعة من الشعب الفلسطيني في النضال من أجل حريته، سيما إذا أتيح أن يفكر بصوت عالي أن لا وطنية مع الاستبداد، وأن عدو الحرية واحد بغض النظر عن هويته وجنس بني قومه وملله ونحله…طالبناهم بقبول الآخر المعارض المتمرد بدرجة قبولهم للنظام الذين يعلنون معارضتهم له على الأقل، وأن يكفوا عن الإساءة إلى أخوة وأصدقاء لهم شاركوهم مسار الدرب الصعب باسم واقعيتهم العقلانية التي تحبط المعتقلين من أصدقائهم بأن خياراتهم عبثية وتضحياتهم مجانية في دخولهم المعتقلات، ولم يتردد أحد الأكاديميين أن يعبر عن مثل هذا الرأي علانية حتى لحظة ملاحقة وزج الأصدقاء من قادة إعلان دمشق في السجون، وقد اندفع هو ومن أمثاله لدعوة الأوربيين لعدم الضغط على النظام وعدم عزله، بل ودعوة الأوربيين إلى أن المصلحة تكمن في حواره، وذلك لإنقاذ (المتورطين) من معارضيه ممن دخلوا السجون متقحمين بلا روية ولا رزانة من نوع الرزانة التي حبوا بها وأمثالهم من المتأملين في أسفار الحكمة، وهاهم المعتقلون يقطفون ثمار هذه الحكمة بعدم الحصول على العفو عن ربع المدة أسوة بكل محابيس العالم من المنحرفين والمجرمين المستفيدين من هذا الحق القانوني…! بل ها هي العصبة المتسلطة لم تتوقف يوما عن الاعتقال بما فيهم من أعضاء المجلس الوطني لإعلان دمشق….ولن نتحدث عن السوق اليومي للشباب الأكراد إلى السجون، لأن الاعتقال أضحى نعمة سماوية بعد أن غدا عادة يومية، بالمقارنة مع اغتيال أكثر من أربعين شابا كرديا وهم في خدمة العلم- مما لم يفعله الاحتلال الإسرائيلي مع الشعب الفلسطيني- وذلك منذ حملة الاعتقالات لقيادة إعلان دمشق، أي منذ دعوة العقلاء للعالم إلى عدم عزل النظام لكي يمكن محاورته للإفراج عنهم…
لقد أوحينا أكثر من مرة سابقا، بأن هكذا سياسة ليست إلا جزءا من البرنامج المعد أمنيا ليكون برنامجا مسموحا بل ومطلوبا من المعارضة سلطويا، وقد تم تعميمه على الكثير من مسميات جمعيات حقوق الإنسان السوريين الذين انطلقوا ليشرحوا للأوربيين أنه “لا فائدة من الضغط على النظام، بل الفائدة تكمن في نصيحته”، ومن ثم مطالبته بالإفراج عن المعتقلين وفق منطق النظام في المقايضة على القضايا، طبعا -لا نظن أن الأوربيين سيكونون أكثر حرصا على حقوق الإنسان من دعاتها السوريين الذين يجري تنظيف صفوفهم اليوم من النزيهين مع اعتقال هيثم المالح ومهند الحسني، ممن ليسوا من عظام الرقبة الأمنية والطائفية الأشداء في إخلاصهم لحقوق الإنسان (الأسدية)…
وعندما كنا نسألهم: هل تذكرون لنا مثالا على لغة الشتائم هذه؟ فلا نجد لديهم إلا تأويلات للاطروحات النقدية التي نصوغها –عادة- بلغة الاستعارات المجازية والتي تشكل أحد المستويات الأسلوبية في كتابتنا على كل حال، حتى أن السيد محمد سعيد بخيتان هددني-ذات مرة- بأن تكوينه الأصلي كحقوقي قانوني يؤهله للكشف عن الشتائم المتوارية وراء اللغة المجازية الرمزية التي أستخدمها، كما وأنه في صدد إعداد مذكرة اتهامية بهذا الموضوع، وذلك بحضور اللواء هشام بختيار، وكان بخيتان حينها (رفيقا حزبيا) أمينا مساعدا لحزب البعث، وذلك بعد أن ضاعت الفروق والمميزات بين الرفيق الحزبي والرفيق الأمني…
وكان هذا اللقاء(الحواري) -على حد تسمياتهم- قد تم بعد اعتقال الدفعة الأولى من أصدقائنا من معتقلي ربيع دمشق، وذلك لقطف ثماره الترهيبية لنا الذين أجل اعتقالهم لما بعد استجوابنا (حواريا)… فبعد الترهيب بالاعتقال للأصدقاء، لجأوا إلى الترغيب عبرالعروض والإغراءات والمساومات، ايمانا منهم على تعبيرهم، بأنه ليس هناك من يعمل بالسياسة لا يريد ثمنا أو مكسبا، يبدو أن هذا الرأي هو ثمرة خبرتهم التجريبية الذاتية في السلطة على الأغلب…
وبمناسبة الحديث عن هذا اللقاء، يجدر الإشارة إلى مسائل نلمس نتائجها اليوم عبر السياسات الجارية، إذ تم الانتقال-حينها- من موضوع المصالح إلى المشتركات الإيديولوجية بين السلطة والمعارضة، وذلك من خلال البحث عن قضية مشتركة توحدنا سلطة ومعارضة، مثل قضية العلمانية مما نشهده من حماس علماني مفاجيء يجتاح البلاد…! سيما في الزمن الذي تخلت فيه كل القوى الإسلامية بما فيها الأخوان المسلمون عن مناهضة العلمانية، ومن ثم لجوء الإسلاميين إلى البحث عن صيغ مصالحة في صيغة (الدولة المدنية)، وذلك في الفضاءات الفكرية والسياسية التي أشاعها حزب العدالة والتنمية التركي من خلال قيادته للمجتمع التركي في ظل العلمانية، ففي هذه المناخات- أي بعد حوالي سبع سنوات من التحضيرات التي بدأت معنا منذ الحوار المشار له- تم دفع الحراك الثقافي في سوريا للمناقشة حول العلمانية بوصفها قضية يمكن تجميع بعض المثقفين حولها في مواجهة الفكر السلفي، والسني على الأرجح، وذلك لأن حراك الإسلام السياسي في سوريا يقترب من استلهام النموذج التركي من خلال نموذج حركة العدالة والبناء الذي يتمثل في (إعلان دمشق) من خلال عدد من المعتقلين المثقفين التنويريين الشجعان… وذلك بالتعارض مع إسلام ولاية الفقيه الثيوقراطي الشيعي الإيراني الجذري في تضاده مع العلمانية، سيما في زمن انبهار الأسد الإبن كما أوضحنا من قبل، إذ يطمح الإسلام الشيعي لأن يصبح الإسلام السوري الرسمي وفق توله الوريث الصغير الأسدي بملالي طهران وقياداتها الإلهية التي تتهاوى اليوم إيران..!
وفي هذا السياق يمكن القول بأن النقاش حول قانون الأحوال الشخصية ليس بعيدا عن هذه الفلسفة الاستراتيجية الأمنية، حيث فجأة نشأ عندنا مشكلة قانونية حول هذا الموضوع… كيف ومتى وأين؟…لا نعرف.!؟ بل وأصبح إعلان دمشق ومثقفوه مدانين لكونهم لم ينخرطوا معهم بلعبتهم السمجة والمكشوفة… هذا لا يعني أن الكثيرين من المثقفين الشباب النابهين والنزيهين قد أفرحهم أن في وطنهم حوارا ونقاشا ما، فاندفعوا إليه بحماس وطني شريف في الفعل من قبلهم، لكنه الخبيث والمتذاكي والمتشاطر والدنيء في النوايا من قبل السدنة من حكماء مستشاري عصابات الصبيان الورثة وعقلائهم الذين يستعيدون ذكريات ألاعيب معارك الأب الأسدي، كالمعركة الدستورية حول دين رئيس الدولة بعد قفزته على السلطة إثر انقلابه الذي سماه بالحركة التصحيحية…
كان تهديد بخيتان هذا ردا على قولنا لهم : لو أن لدينا فيما نقوله أو نكتبه صيغ شتائم، فإنهم قادرون بكل لياقة مدنية أو حضارية أن يحيلونا إلى القضاء المدني بتهمة القدح والذم، دون أن يضطروا للإساءة إلى سمعتهم-لاحقا- ليتصرفوا كعصابات قطاع الطرق بخطفنا أمام بيوتنا بلباس النوم.. طبعا سيعتبرون تعبيرنا التالي باستخدام مفردات (عصابات- قطاع طرق) عنفا لفظيا شتائميا….! بينما عملية الخطف من الشارع واستخدام القوة من قبل العصابة (تطميش العيون ) والتهديد بقطع اللسان من قبل الجنرال رئيس الفرع، إنما هو سلوك وإجراء دولة يجب الاعتراض عليه بأدب ولياقة وكياسة دبلوماسية (معارضة)، وبإمكانك أن تعترض على الأمن أمام أشقائهم من الفروع الأمنية الأخرى، فإذا كان الخاطف عصابة من مخابرات أمن الدولة فعليك أن تتوجه بالشكوى إلى عصابة أخرى…ولتكن الأمن العسكري (فرع فلسطين مثلا) كما أوحى لنا الأخيرون بعد خطفنا، وكأنهم غير راضين عن خطف أمن الدولة لنا وأنهم سينصفوننا ويعطونا سماحا بالسفر للمغادرة إلى الخارج لإجراء عملية سرطان البروستات….!
المشكلة-اليوم- ليست مع أجهزة عصابات التسلط المستولية على البلاد، بل مع بعض المعارضات التي راح يتناهى إلينا على لسان بعض العقلانيين (الواقعيين الثوريين) منهم، مضمون بل وملفوظ الخطاب الأمني ذاته، الذي يتهمنا بالكتابة العنيفة (الشتائمية)، لكن هذا البعض الواقعي بوصفه لا تنقصه الثقافة وقوة الحجة… فقد أورد استخدامنا لصيغة (المثقف الديوث) كمثال على الشتائمية…!
لو عدنا إلى سياقات النص ورصدنا دلالات هذا الاستخدام (الديوث)، فأول من ينبغي أن نحكمه في هذا الشأن هو القضاء ذاته فيما لو كان لدينا في سوريا قضاء، ومن ثم دراسة إمكانية رفع دعوى القذف والتشهير، فعندها يمكن وصف هذا الخطاب – والأمر كذلك- بأنه خطاب شتام !
فالقراء علقوا على المقال الذي أطلق مخيالهم السياسي والثقافي، متأولين سلوك وممارسة عدد من الدبلوماسيين السوريين يمكن أن تنطبق عليهم هذه الصفة (الديوثية)…فلم يكن واحدا محددا إذن، بل كان هناك الكثيرون- بل وما أكثرهم -أولئك الذين تنطبق عليهم دلالة خصائص ملفوظ تعبير (المثقف الديوث)…إذن هذه الصفة لا تحيل إلى شخص (محدد) بل إلى ظاهرة، وهذا ما يسقط عنها –بداهة-شبهة الشتيمة ما دامت لا تقدح بفرد مشخص…!
استخدامنا مصطلح (الدواثة) في اللغة العربية الفصحى القديمة، إنما تشير بأحد مستويات معانيها إلى الماسوشية، ولا نظنن أن (فرويد) يشتم الماسوشيين عندما يشخص مرضهم، وعندما سينتقل المصطلح من حقل الجسد الطبيعي –البسيكولوجي إلى حقل الجسد الاجتماعي، فإنه سيتخذ صيغا عديدة عن ما يتم تداوله في صيغة (جلد الذات ) من جهة، أو اضمحلال الذات وذوبانها وفق صياغات غولدمان من جهة أخرى في سياق تحليله لمعنى مفهومي الاستلاب والتشييء عند لوكاش الخ…
استعرنا المصطلح في سياق محدد، وهو أن نائبا سوريا في (برلمان الدمى) يدين نائبا سابقا منشقا معارضا للنظام، ويعيره بأنه قد التقى الرئيس الأمريكي بوش، ولو أن البرلماني (الوطني التقدمي جدا) يعرف –على حد تعبيره الاحتجاجي-أن البرلماني المعارض هو معه في حلقة الحوار التلفزيوني على الهاتف لما كان شارك في الحلقة، وذلك بسبب لقاء الأخير بالرئيس الأميركي بوش…
هذه الإدانة (البرلمانية الوطنية!) تتوجه من شخص كان مع مجموعة من المثقفين السوريين العائدين للتو من رحلة إلى الولايات المتحدة لفك عزلة (قائدهم الوريث المفدى)، بعد أن تحدثت الصحافة عن محاولة طرقهم للأبواب الأمريكية لكن دون جدوى، فلم يفتح لهم سوى باب منظمة “إيباك” اليمينية الأمريكية الإسرائيلية أو (المتأسرلة) على حد تعبيراتهم البعثية والجبهة الوطنية المضحكة، وذلك لكي تكون وسيطا لدى الجهات العليا الأمريكية،والغرض هو البحث عن أسباب مخففة لجريمة أسيادهم ورئيس قمتهم في عملية اغتيال الحريري وصحبه.
يستحيل لمثل هذا الموقف أن يحاور وينتقد بمنطق اجرائي حيادي.. كأن يوصف-مثلا- بازدواجية المعايير، رغم أنه ينطوي عليها، لكن كيف يمكن تغييب وتحييد البعد الأخلاقي الذي يستحيل تحييده أمام هذه الخلاعة…حيث صراخ الإتهام والإدانة موجه ضد لقاء مع رئيس دولة عظمى، وهو لقاء لا يمكن أن يوصف إلا بأنه لقاء سياسي : لأنه لقاء مع القمة، أما اللقاء المباح وطنيا وقوميا والمشروع والمسكوت عنه –لأنه في خدمة شرعية السيد الواطيء- فهو مع الإيباك الذي لا يمكن أن يوصف إلا بأنه لقاء مساومات وصفقات ورشوات وتواطؤات سرية أمنية مشبوهة…
كيف يمكن تغييب هذا البعد عندما نقارب هذا الموقف أو تلك العلاقة إذا انطلقنا منها بوصفها نصا وإن كان نصا غير مكتوب… إن أي تجاوز لسطح النص باتجاه باطنه على طريقة مدرسة (لاكان) في اكتشاف مراوغات النص، لا يمكن لها إلا وأن تلحظ ماسوشية تذهب بعيدا على طريق إهانة الذات، التي تشتغل الأواليات النفسية عليها لتحويلها من إهانة إلى كرامة، اي تحويل هذه الضرورة المذلة إلى مزية وامتياز وانجاز في استرضاء السادة، حيث التمتع والنشوة في التمرغ في الوحل…
ومن ثم فان المصطلح العربي عن الدواثة يفرض دلالته في هذا السياق، في صيغة متعة الذكر بوطأ أنثاه من قبل ذكر آخر في حضوره، وعلى هذا فإن الصيغة العربية فيها حدوس مباطنة للمفهوم الفرويدي عن الماسوشية، حيث لا يمكن تفسير موقف سلوك النائب (التقدمي) نحو سادته الصغار بعيدا عن هذه الحدوس التي تستبطن إعجابا بفحولة المستبد وعنفوان الطاغية بوصفه ممثل شرعية أزمنة الطغيان على مر الأيام، سيما الأيام العربية المحكومة بزمن الدوران في المكان اعتمادا على شرعية الاستيلاء والاغتصاب وفق مقولة: “من اشتدت وطأته وجبت طاعته” وشرع سفاحه ولزمت نزوته”.
كيف لنا أن نفسر ونفهم موقف الوزراء السوريين- الذين يسّوق النظام وجهه (غير الطائفي) من خلال مثال توزعهم الديموغرافي والطوائفي والمناطقي، حيث تستند السلطة الأسدية منذ نشأتها حتى اليوم إلى الدلالة المجردة لمفهوم السلطة التنفيذية في دور الوزارات، بمثابتها هي الحكومات (الحاكمة) في الدول التي لديها دول حقا، وذلك للقول بتوازن تمثيل المجتمع السوري حكوميا، ثم يأتون بالوزراء (الكراكوزات) كشهود زور يشرعنون من خلالهم كذبة الفبركة الأسدية عن التمثيل والمشاركة لكلية المجتمع السوري…
وإذا كنا نفهم سياسيا آلية إنتاج السلطة وتمثيليتها الحكومية والبرلمانية خلال أربعين عاما من عمر صناعة التسلطية الشمولية الأسدية التمثيليية، لكن الذي لا يفهم سياسيا ولا طبقيا ولا ايديولوجيا ولا وطنيا ولا قوميا والذي لابد له من القراءة العيادية النفسية لسبر حالة الاسترقاق النفسي العبودي الماسوشي الذي يتلبس ويترأرأ بحالة من (الدواثة)، وهو كيف يقبلون أن تكون موازنة إدارة وزارات كالصحة والتعليم مثلا لا حصرا، لا تتجاوز%1 الواحدة بالمئة مقابل أكثر من%60 ستين بالمئة لموازنة الأمن القومي: الجيش والمخابرات (حصة المخابرات فيها أكبر من الجيش وفق بعض الاحصاءات) الذين لم تعد مهماتهم متباينة وظيفيا وعمليا من حيث التقاسم الوظيفي في قهر المجتمع السوري وإذلاله واحتقاره، وذلك في زمن غدا فيه الاستثمار في مجال تنمية الإنسان (الصحة والتعليم) على سبيل المثال أيضا، هو الأولوية في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية ليس في الدول المتقدمة وحسب، بل بوصفه مدخلا وحيدا للخروج من حالة التأخر والانسداد بالنسبة للدول النامية.
وهذا الأمر ليس سرا نكتشفه نحن غير الاختصاصيين بمسائل التنمية الاقتصادية، بل غدا من بداهات عصرنا في صورة النموذج (الماليزي والسنغافوري….الخ مما يتم الحديث عنه عد دول جنوب شرق آسيا )… كيف يمكن أن نتفهم أن ثمة وزارة وبرلمانا تمثل شعبا في العالم يصوت ويصدق على موازنات موضوعة في خدمة تسلطية عصابات المافيا في بلاده دون أن نتساءل عقليا عن مدى سلامة هذا الوزير أو ذلك البرلماني من الانحراف والشذوذ في تناغم توازنه الداخلي الوطني والمجتمعي الذي من التبسيط أن نعزوها للفساد السياسي والمالي…
إنه خراب أخلاقي وانهيار وطني وانحراف وشذوذ نفسي مرضي مازوخي يتمتع منتشيا بالفحولة السادية لسيده وولي أمره الذي أقنعه مرضيا بأن الوطنية تعني أن تتحول أموال وثروات الأوطان في خدمة آل السلطان….فإذا كنا لا نملك القدرات على الإصلاح ولا التغيير السلمي أو العنفي –حيث لا معنى لأن تنشغل المعارضة بهذه الإشكالية عن التغيير بلا عنف، لأنها إشكالية عصابات النظام الذي يحتكر كل مصادر العنف، وليس إشكالية المعارضة العزلاء- نقول: فإذا كنا غير قادرين على التغيير ماديا، فلا أقل من أن نسكب بعض احتقارنا وازدرائنا نحو من يزدرينا-وذلك ليس شتما بل هو تطهير- وذلك أضعف الإيمان للحفاظ على قبس من نور الحرية وكرامة التمرد في روح الشعب والمجتمع….!
mr_glory@hotmail.com
• كاتب سوري- باريس