هذا المقال هو عرض لكتاب ” الإستشراق” لأدوارد سعيد. نشر عند صدور ترجمة الكتاب بالنرويجية عام 1994. وتوماس هلان إيركسن Thomas Hylland Eriken بروفسور في الأنتروبولوجيا في جامعة أوسلو. من أكثر الشخصيات العلمية نشاطا في حقل حقوق الأقليات في النرويج. يعتبر المثقف المعروف نرويجيا على كل الأصعدة. ناقد للغرب وسياساته والنزوعات العنصرية فيه. معروف في الأوساط الأكاديمية في جامعات الغرب بسبب بحوثه وكتبه. تدرس كتبه في الجامعات في قسم الأنتروبولوجيا. من أعضاء مركز ” ضد العنصرية” في النرويج.
توماس هلان إيركسن
“الإستشراق” كتاب ثقافي صلد
عندما يصدر كتاب إدوارد سعيد الكلاسيكي الحديث ” الإستشراق” بالنرويجية هذا الخريف، فإنه من المتوقع أن يعتذر دار النشر كتابيا على أنهم (في الدار) كانوا كسالى وبطيئين (في ترجمته). فمقدمة المؤلف مؤرخة في 1988، والحوار العالمـي عن كتاب إدوارد سعيد كان إلى حد ما قد انتهى منذ بدايات الثمانينات. ذلك أن” الإستشراق” قد أثبت أنه أكثر ديمومة منن ذبابة مايو.( ذبابة مايو هي ذبابة تولد وتعيش وتموت خلال يوم واحد، وهو تعبير يعني به توماس هلان إيركسن أن تأثير الكتاب ليس سريع الزوال- المترجم)، بل أن الكتاب يسجل اليوم حضورا في كل الدراسات ذات المعيار المتعارف عليه بين كل العاملين في حقول البحث في مرحلة ما بعد الإستعمار، سواء أنهم قرأوا الكتاب أو لم يقرأوه. فكتاب ادوارد سعيد تتم الإشارة إليه والإستشهاد به كثيرا حتى أنه من البساطة أن ينسى المتحدث أنه بالواقع لم يقرأه. الأمر الذي يفترض أن يكون، خاصة بالنسبة للمهتمين بهذا الموضوع، لأنه كتاب ثقافي…. يصهر السياسة والجدل والجغرافية التاريخية ونظريات العلم ببعضها البعض وبطريقة مجازيّة.
لقد غير إدوارد سعيد فعلا طريقة تفكيرنا، ومكانته يمكن توضيحها بحقيقة أن فكرة كتاب” الإستشراق” قد أوشكت أن تصبح مرادفا لعملية “سحرنة” الشعوب الأجنبية، إن كانت إفريقية أو من أمريكا الجنوبية أو من أماكن أخرى (سحرنة تعني النظر اليهم كشيء ملئ بالفتنة و السحر والغرابة- المترجم). وعندما صدر الكتاب بالأصل العام 1978 كان قد أصبح معروفا في أوساط واسعة، خاصة بين مثقفي الدول التي كانت سابقا مستعمرات، بأن الأوروبيين قد استأثروا وهيمنوا على الإنتاج المعرفي عن هذه البلدان، وبأن من أهم المعارك السياسية (التي خاضتها شعوب الشرق) كانت تتعلق بحقّ تلك الشعوب في التعريف بماضيها وحاضرها.
فالأدب الغربي ما بعد الكولونيالي يركز بالدقّة على هدف تثبيت التعبير المعرفي الغربي لأكاديميي الشعوب المستعمرة، وهو غرض كان موجودا على كل حال منذ الخمسينات. ولابد أن نشير إلى أن الفكرة الأساسية لإدوارد سعيد لم تكن بالمطلق من إبداعه و اكتشافه، فقد أثارت كتب مثل ” معذّبو الأرض” لفرانز فانون (1961) و جنوا أجبي ” عندما تتهاوى الأشياء” (1958) (1) نفس فكرة إدوارد سعيد.
ولكن بنفس الوقت فإن كتاب إدوارد سعيد تميز عن باقي الدراسات الأخرى بخاصيتين:
الأولى أن سعيد لم يكن أبدا ماركسيا أصوليا، كأغلب مثقفي ” العالم الثالث” في السبعينات. لقد أدرك ادوراد سعيد أن ظاهرة البنية الفوقية مثل كتابة التاريخ والجغرافية الثقافية ممكن أن تكون حاسمة ومن الصعب تغييرها كالبنية الإقتصادية والسياسية.
والخاصية الثانية أنه مارس عمله على بمستوى ثقافي عال بحيث كان من المستحيل على المؤسسة الأكاديمية أن تتجاهله. وكنتيجة لذلك أصبح إدوارد سعيد البروفسور الذي تتجادل وتتنازع على أفكاره السجالية القارة الأمريكية.
في “الإستشراق” حلل إدوارد سعيد كيف أن المؤلفين الأوروبيين، وهم المنتصرون الذي كتبوا التاريخ، خلقوا خلال قرون عديدة، صورة ل ” الشرق” جعلته صورة معاكسة ل” الغرب”. فرغم أن الشرق ظهر أقل غرابة من أفريقيا، ولكنه مع ذلك تمّ تصويرهُ كأنهُ النقيض التعريفي لأوروبا. فالشرق حسب الإستشراق الغربي كان لا عقلانيا، غامضا، أستبدادي الطبيعة وساكنا ” ثابتا”، بينما الغرب كان علميّا، عقلانيا ديمقراطيا وحركيا/ “متحولا”. ويتساءل إدوارد سعيد ساخرا: أين يوجد هذا الشرق؟ وهو يجيب في كتابه على أنه يمتد من المغرب إلى اليابان، رغم أن المستشرقين الأوروبيين عموما يضعونه في آسيا الصغرى والهند والمناطق التي شهدت أحداث التوراة والإنجيل.
ويركز إدوارد سعيد على الوصف الإنكليزي والفرنسي لهذه المنطقة من العام 1700 فصاعدا. لكن الإستيعاب العام لـ”الشرق” كعالم ملئ بالغموض وعدم القدرة على سبر غوره، قد تطوّر خلال مرحلة الـ 1800، أي تزامن تكريس التصور الإصطناعي عن الشرق مع التوسع الإستعماري. كما أن الإستشراق، كان إضافة إلى ذلك، إستجابة للتطور في علم الألسنيات المقارن، “اللغات”، سيما في ألمانيا، التي في حوالي مرحلة الـ 1800 وجدت أن “الشر” له أهميته لأوروبا فيما يتعلق بدراسة علم اللغات المقارن. فاللغات الهندو- أوروبية في شبه القارة الهندية لها علاقة ترابط باللغات الأوروبية، والتي في غضون ذلك ركدت، بينما اللغات السامية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا نظر إليها على أنها بدائية وبربرية. وكما يرى سعيد، فإن أغلب البحوث والأدب وأدب الرحلات عن آسيا، طبعت بنفس طابع التهميش والتصنيف المتعّصب، والذي أُسٍّس بشكل عام على علم اللغات المقارن السابق.
خلفية إدوارد سعيد فلسطينية مسيحية –يعني أنه ينتمي إلى أقلية ضمن أقلية أكبر، وهو بروفسور في علم الآداب في جامعة كولومبيا. وفي حديث مع سلمان رشدي، نشر في كتاب رشدي ” أوطان خيالية” قال مرة أن ” واحدا من شؤونه الرئيسة هو أن يثبت كيف أنّ البشر ليسوا متكلّسين ومتيبّسين في مواقفهم في أمور الإختلاف والأحقاد المتبادلة”. وقد وصف إدوراد سعيد نفسه بأنه (هجين ثقافي) (يعني نتاج خليط من ثقافتين عربية وغربية –المترجم)، بالضبط كما فعل رشدي. ولكن بنفس الوقت قد أظهر إدوارد سعيد نفسه في حواراته بأنه أقل تسامحا. ففي تبادل وجهات النظر مع الأنتروبولوجي أرنست كلنر Ernest Gellner في مجلة Times Literary Suplement في ربيع 1993، ختم محادثته بشطب شرف العلم والبحث الأوروبي. فقد صرّح متّهِما، أن المعرفة المنتجة في أوروبا بالتحديد هي التي خلقت التبعيّة والإحباط عند الرجل غير الأبيض. أرنست كلنر الذي بدأ حواره معه بتعريف لكتابة ” الثقافة والإمبريالية” بشكل جدلي سلبي، أنهى المحادثة بإعلانه علنا وبرصانة أنّ علاقته بسعيد انتهت في تلك المحادثة إلى الأبد.
هل أن إدوارد سعيد مصيب في فكرته التي طرحها في”الإستشراق”؟ الجواب على وشك إنجاز العمل به. فمن جانب أن مما لا جدال حوله آن الأوروبيين قد وضعوا تعريفا لغير الأوروبيين بدرجة أكبر بكثير من العكس.. و “الإستغراب” (2) –أي وصف الشعوب الأوروبية للأوروبيين- لازال حقلا في مرحلة البداية. وكذلك فإنه لا شك من أنّ سلطة التعريف الأوروبية التي هيمنت لوحدها في المدارس الهندية والأفريقية، تساهم بخلق تبعية ثقافية واحتقار للذات ذات تأثير محطّم. ولكن من الجانب الآخر فإنه من البعيد جدا أن كل البحوث الأوروبية عن “الشرق” تتناسب مع فكرة إدوارد سعيد وتنسجم مع النموذج الفكري الذي طرحه. ذلك أن الكثير منها كانت بالواقع مدفوعة بدافع تطوير ثقافة نافذة عن اللغات الآسيوية على سبيل المثال.
وإدوارد سعيد لا يضمر عداء لمشاريع المعرفة العلمية كما هي (بينما كثير من أكاديميي الشرق في مرحلة ما بعد الكولونيالية يضمرون ذلك)، ولقد إعترف أن إبداعه الفكري كان من المستحيل أن يُنْتَج من غير نظام التعليم وشهوة المعرفة التي طوّرها الغرب منذ عصر التنوير. وبكلمة أخرى أن الصورة التي أعطاها إدوراد سعيد عن الغرب لم تكن ذات وجه واحد. وليس ثمة من أسباب جيدة لأفتراض أن سلطة التعريف الأوروبية سببها المؤامرة الأوروبية. وحتى إدوارد سعيد لا يعني ذلك، رغم أنهُ غالبا ما تعرض دراساته بهذا الشكل، بواسطة كتّاب من المحتمل أنهم لم يقرأوه. لذلك فواحدة من ايجابيات قراءة “الإستشراق” هي أن القارئ سرعان ما سيكتشف أن أدوارد سعيد أكثر آعتدالا ووضوحا ثقافيا من الذين يتحدثون عنه.
هوامش المترجم:
(1) أترجم عنوان الرواية “عندما تتهاوى الأشياء” أو ” آنحطاط النموذج” أما العنوان الأصلي فهو Things Fall Apart و إسم المؤلف Chinua Achebe، وحسب علمي فإن الرواية لم تترجم حتى الآن، أما كتاب قانون ” ملعونو الأرض” فقد ترجم الى العربية بعنوان “معذبو الأرض”.
(2) الإستغراب حقل علمي مقترح من قبل البروفسور حسن حنفي، يعنى ببحوث ودراسات عن الغرب وحضارته، تقدم الى الجامعات العربية، وتحاول خلق صورة للغرب مضادة للصورة التي يطرحها الغرب عن نفسه. وكما أن الآستشراق قد صنع صورة الشرق في عيون الغربيين فيها من السلبية الكثير، فإنه الآستغراب يهدف الى وضع الغرب تحت المكرسكوب الشرقي، يعالج الغرب كموضوع، أي يضع الغرب تحت الفحص والبحث مثل جرذ في مختبر، كما عبر عن ذلك حسن حنفي. وقد أصدر حسن حنفي عام 1992 كتابا من 881 صفحة بعنوان ” مقدمة في علم الآستغراب” وأثار جدلا وحوارا بين المثقفين، وقد ناقش جورج طرابيشي في كتابه “المثقفون العرب والتراث” و أفكار حسن حنفي بدراسة مطولة.
ترجمه عن النرويجية وليد الكبيسي
alwalid@online.no