جوليان الحاج
صوت صارخ في البريّة إدمون رزق، يقهره فراغ أمسى واقعًا ويحرص على تطبيق الدستور والميثاقية. ثقافة وحكمة وشجاعة قلّما تتوافر في قارئي خطابات اليوم ومشعلي الفتن. رجل يختصر وجوها كثيرة نفتقدها، نحتاج إليها. صوته العالي النبرة يملأ المكتب في الأشرفية. يتلقّى الاتصالات على مدار الساعة، لا يتعب. يجيب عن الأسئلة كلّها بلباقة حريصًا على اختيار كلماته. فقبل كلّ شيء آخر هو رجل الأدب والكلمة والقيم.
من موضوع الفراغ الرئاسي ينطلق.
لا تغيب لمحة تاريخية عن خلو كرسي رئاسة الجمهورية مرتين خلال القرن الماضي بعد استقلال لبنان. يذكّر بالسنة 1949 حين مدّد الرئيس بشارة الخوري لنفسه ست سنوات إضافية وتلت التمديد ثورة بيضاء أدّت إلى استقالة الخوري عام 1952. تولّى حينذاك فؤاد شهاب رئاسة حكومة مصغّرة أمّنت انتخاب رئيس جديد خلال أربعة أيّام فقط. “هكذا ربح كميل شمعون في الانتخابات، وخصومه انتخبوه خدمة للمصلحة الوطنية الحقيقية”، يقول.
ثم ينتقل إلى العام 1988 حين منع الجيش بقيادة العماد ميشال عون والقوات اللبنانية انعقاد جلسة الانتخاب بالقوة، فحوصر النواب في منازلهم وكانت ثاني حالة إفراغ قسري للسدّة الرئاسية. يلخّص رزق المسألة بأنها “بداية العبْث بالدستور لجهة تأمين هيكلية السلطة.”
مشهد الانتخابات “المهزلة” – كما يصفها إدمون رزق- في السنوات الأخيرة مؤلم للغاية، فهو شهد على لبنان الحلو والمرّ. لا تغيب عن ذاكرته صورة الوطن النموذج الحلم الذي اضمحلّ. يرتفع في كلامه منسوب الحنين والتمرّد: “فقدنا القضيّة، والكلّ يركض وراء المصالح. جنّتنا نحوّلها جحيما.” يضيف: “سهل أن نلغي الآخر لكن العظمة تكمن في أن نعمل معًا لقيامة لبنان. وطننا يحتضر فعلًا ويعالجه…سمكري.”
يطلق رزق صرخته وروح الثورة في داخله أشبه بثورة مراهق متحمّس، لم تغلبه السنون. يتابع: “في العام 2007 تقاعس النواب واليوم يتكرّر المشهد. مجالسنا معلّبة تنصاع لأوامر فئوية لا علاقة لها بالنظام الديموقراطي.” ثم إن “التخلّف عن الانتخابات خيانة عظمى والغياب تخلّي عن الصفة النيابية!” ينفعل ويستغرب ما يحدث، “إننا أمام كارثة وطنية تتمثّل بتفتيت الكيان الموحّد للدولة!”
إدمون رزق يحرص على تطبيق كلّ نقطة وفاصلة في الدستور. يؤكّد أن “جلسات التشريع بعد تحول البرلمان هيئة ناخبة غير دستورية، والتأجيل غير دستوري، واشتراط الثلثين بعد الجلسة الأولى لانتخاب الرئيس غير دستوري...إنها للأسف حارة كل مين إيدو إلو.” لا يخفي أن رئاسة الجمهورية باتت نوعًا من التعيين تحت تسمية تمويهية تدعى “التوافق”.
يتابع رزق: “اشتراط الثلثين في الدورة الثانية والثالثة وما يليها خرق للدستور لأن النصاب إبتداءً من الدورة الثانية هو النصاب العادي أي النصف زائد واحد. وهناك خلل ميثاقي لأن ركنًا أساسيًا من أركان الوفاق الوطني قد تصدّع، هو العيش المشترك. وبالرغم من تولّي مجلس الوزراء صلاحية الرئاسة وكالةً في حال خلوّ السدة، إلّا أن هذا التولي لا يمكن أن يكون إلّا طارئًا لا يتجاوز موعد انعقاد جلسة لمجلس النواب، فإذا تمادى الفراغ يصطدم بالميثاق الذي يؤكد أن لا شرعية لأي سلطة تناقض العيش المشترك.”
يدعو رزق الرئيس ميشال سليمان في الأيام الفاصلة عن انتهاء ولايته إلى إصدار مرسوم بإعلان حال طوارئ وتكليف الجيش مسؤولية الحفاظ على الجمهورية. ثم يعود إلى ما يشغل باله: “تنقصنا ثقافة وطنية، لا للخطابات المذهبية، موضوع الرئاسة وطني بحت، لا يهم القرار المسيحي.”
رجل الالتزام الحر يرفض التعرّض لأي شخصية، لا يسمّي القادة ولا ينتقدهم لكنه في الوقت نفسه رجل رؤية وشجاعة. ينقل هموم شعب “خذله القادة” على ما يقول.
إدمون رزق الإعلامي والمحامي والوزير يشغله أيضًا حال الإعلام في لبنان، “إعلامنا ترفيهي هدفه الإثارة، إعلام غير ملتزم ويعاني خللاً بنيوياً.”
في موضوع استدعاء المحكمة الدولية للصحافي ابرهيم الأمين والإعلامية كرمى الخياط يشدّد رزق على أولوية الحرية الإعلامية، لكنه يقول في المقابل “لست ضدّ المحكمة أبدًا، علينا المواجهة لا التهرّب. والمسؤولية الكبرى يتحمّلها من سرّب المعلومات وليس من نشرها.”
سنة 1968، في ظل “الحلف الثلاثي” خاض رزق، المحامي الكتائبي آنذاك أوّل انتخابات نيابية في دائرة جزّين تحت شعار “الوعي الشعبي”. أربعة عقود مرّت والمطلب هو نفسه، الوعي الشعبي. و”لبنان في حلقة مفرغة لم تتغيّر ولا تطوّرت، قدرنا أن نبقى على حالنا ربّما؛ لبنان يمشي في صحراء من دون بوصلة فاقدًا اتجاهه”. ينادي رزق من جديد بالصحوة الشعبية، بثورة بيضاء ثانية. “الشرعية مفقودة لأن آلية المحاسبة مفقودة” يقول، يدفع الشعب إلى الانتفاضة كما جرى في العام 2005. “بهذه الطريقة نتخلّص ممّن قرصن الانتصار الشعبي.”
يستفزّ رزق إفلاس القيادات الوطنية وعجز الشعب واستسلامه. يعتبر أن “ما يقوم به المجتمع المدني غير كافٍ، علينا التخلّص من الإشكالات التنظيمية”. باختصار، الحلّ السحري بالنسبة إلى رزق في الوقت الراهن: إعلان حالة طوارئ وثورة بيضاء. إقفال البلد لا بدّ أن يحدث تغييرًا.” ينهي كلامه ويتطلّع إلى الأعلى، يبحث في الذكريات والصور القديمة: “عرفوا من قتلوا”!