أجتمعنا أفرادا متعددين من عائلة واحدة فيهم الاب والابن والحفيد ووجدنا بالرغم من أختلاف مراحل العمر بيننا شيئا واحدا يجمعنا. علّقنا أعلام الاستقلال فى كل أنحاء المنزل، وغنينا بشكل جماعى كل أناشيد الوطن وأطفأنا أول شمعة في عمر وليد جديد إسمه “الثورة”. وتبادلنا التهاني وتناولنا العشاء ثم خرجنا متفرقين لنمتزج بكل أصناف البشر وكلهم ليبيون حضروا جميعا إلى الميدان المفتوح فى ليل الشتاء القارص دون أن يجبرهم أحد من أجل أن نحتفل كلنا معا بأول الأعياد في حياتنا.
ونزلنا إلى الشوارع، أنا وأسرتي، شأننا شأن الآخرين. وامتلأ ميدان الشهداء والشوارع المحيطة به بما يزيد عن مليون شخص نساء ورجالا وأطفالا يرقصون ويغنون ويهتفون للثورة والمستقبل القادم السعيد. وأجمل ما فى الامر أن الفرحة كانت ليبية خالصة، لم يشاركهم فيها أى أجنبى أو بلفظ أدق أى شخص غير ليبي. ولم تنفق خزانة الدولة عليها درهما ولا دينارا.
وبرغم الازدحام اللصيق بالبشر والسيارات، وبرغم الانتشار الكثيف لجنود ضبط النظام، لم تحدت مشادة واحدة ولم يحدث أحتكاك واحد بين سيارة وسيارة، ولم يطلق الجنود فى الهواء طلقة واحدة. ولم تتعرض أنثى لحالة خدش حياء واحدة. بل ذاب الجميع فى وجود واحد وكأنهم مجتمع ملائكى لا خلاف بينهم ولا مشاحنات وكشفوا عن كونهم شعبا واحدا له ثقافة واحدة هى ثقافة المدينة، وتراث حضاري واحد نشأ نتيجة تراكم خبرات الاولين جيلا بعد جيل.
هذا التجمع الاحتفالى ينفى ما يردده الكثيرون فى الدول المحيطة بنا عن القبلية فى ليبيا التى يتصورون سكانهاا قبائل متفرقة تعيش فى أرض فراغ مليئة بخيرات لا يستحقونها ويرون ِأنفسهم أولى بها من سكانها الاصليين ويتمنون لو كرروا تجربة الولايات المتحدة مع الهنود الحمر.. لكن ليلة الامس غيرت ذلك وأثبتت أن هذا الامل جنين سيموت قبل أن يولد
وهذه الثورة التي أطفئت شمعتها الاولى تستحق الكثير. فهى أول ثورات الحرية فى تاريخ العرب وتاريخ المسلمينِ. لا سابقة لها من قبل. وليس فى تاريخ العرب والمسلمين رجل واحد قتل دفاعا عن مبادئه أو بسبب مطالبته بالحرية لشخصه أو لآخرين. أما ليبيا التى قدمت خمسين ألف شهيد فقد كتبت خمسين ألف قصة للموت فى سبيل الحرية والتضحية بالنفس من أجلها. وقدمت الليبين للعالم فى شكلهم الحقيقى. وأبطلت حجج القدافى وترهاته فى إحتقار الليبيين وتشجيع الدول الأخرى على احتقارها له والتقليل من شأنه. وأثبتت قدرتهم على القتال والاستعداد لبذل الدم وأن تحديهم بعد ذلك لن يكون سهلا كما كانوا يعتقدون.
وفيما يتعلق بشخصى. فعلى أن أعترف بأنه لم يحدث من قبل. أن شاركت فى حفل أو شعرت بقيمة المناسبة الوطنية ومغزاها. ولم أمارس الاحساس بالوطن. وقيمته ولم أسمع أن أيا من أبائنا الاولين احتفلوا كما إحتفلنا نحن وكثيرون غيرنا أو كان يوم المناسبة الوطنية يعنى لهم أى شئ أكثر من كونه يوما مدفوع الأجرة لكن بلا عمل.
لكنى أجدنى الا ن ملزما بالكثير نحوه وملزم بالكثير نحو الثورة ولا بد لى أن أعترف بأنها قدمت لى الكثير. وبإن حياتى قبلها تختلف تماما عن حياتى بعدها. بأنها أحدثت فى نفسى تغييرا جزريا جعل منى كائنا مختلفا عما كنت قبلها, وبعد أن كنت إنسانا مهزوما خائفا ى يخشى السلطة ويتجنب الاحتكاك بها. صرت قويا شجاعا واثقا من نفسى سعيد فى حياتى. وتكشفت لى قدرات كنت أحهلها. وصبرت فى مواقف كان الاقتراب منها نوعا من الجنون وسبيلا لهلاك النفس لا عودة منه, وخرجت فى أخر الامر منها منتصرا ليس بإرادة منى ولكن ان إنتصار الثورة كان إنتصارا لى.
فى يوم ما منذ عدة سنين. نسى صاحب متجر أن يرفع العلم الاخضر على محله فى مناسبة مرور القدافى فى طريق يطل محله عليه. فقبض عليه أفراد الامن الداخلى ووجهوا له تهمة إهانة الثورة والتآمر ضدها.
فى يوم أخر يفصله عن حاضرنا ثلاثون عاما أو أكثرن كان طالب فى مدينة “جلاسكو” فى بريطانيا يقضى عطلة الكريسماس منفردا وحيدا. ورأفة بحاله، دعاه زميل له لقضاء العطلة مع إسرته. أجتمعت الاسرة والاقارب وتبادلوا كؤوس الشراب وانتظروا حتى وقفت الملكة وألقت خطابها السنوي، ثم قاموا بعدها وقوفا وأنشدوا النشيد القومي وهتفوا بحياتها. وما أثار دهشته أن أحدا لم يجبرهم على ذلك وإنهم كانوا فى منزلهم لا يراقبهم أحد. لم يملك حينها حتى الوهم ليتخيل حدوث ذلك فى بلده أو أن يكون هو طرفا في مناسبة شبيهة.
هذا، أيها السادة، هو الزمن الذى قطعته بنا الثورة العظيمة التى لم يخلق مثلها فى البلاد. وهذه أبواب الأمل تفتح لاول مرة تحمل فجرا مشرقا فيه سحر الصبح ورحيق الزهور. وها نحن على مشارف مستقبل عظيم يحمل لنا الخير والسعادة. وها هو شعور الفخر الذى لم نعرفه من قبل يملأ قلوبنا ويشعرنا بأننا نقف على أرض صلبة إسمها الوطن.
أقدم التحية لكل سيد وسيدة كان يؤلمه ما تعانيه بلاده فهب لانقاذها. وأحمد ألله أن حياتي لم تضع هباءً. وأن من عاش بعد عدوه يوما فقد انتصر.
وحفظ الله ليبيا.
magedswehli@gmail.com
* كاتب ليبي