إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
كثيرًا ما تعلو في ذهن الفرد العربي
في هذه البقعة من الأرض تساؤلات حول ما جرى، ما هو جارٍ، وما سيجري في أحوال الشّعوب العربيّة من سكّان هذه البقعة في المستقبل المنظور. إذ لا يخفى على أحد أنّ الأحوال العربيّة لم تعد تُطاق، وهي حقيقة يشعر بها الصّغير والكبير، الرّجل والمرأة، المَدَر منهم والوَبَر.
ما من شكّ في أنّ
لكلّ أمّة من الأمم تاريخها وخصوصيّاتها الحضاريّة. ولأنّ العرب ليسوا فرنسيّين فمن المستبعد أن تحدث في ربوع العرب ثورة شبيهة بالثّورة الفرنسيّة. ولقد علّمنا التّاريخ العربي والإسلامي على مرّ العصور، منذ القدم وحتّى عصرنا الحاضر، أنّ كلّ ما يُطلق عليه مصطلح ثورة في التّاريخ العربي قديمه وحديثه، لم يكن سوى حالة من حالات التّمرُّد الّتي لم تُحدث تغييرًا جذريًّا في أيّ من الرّكائز والمفاهيم الّتي يقوم عليها المجتمع العربي، بل استبدلت هذه “الثّورات” المزعومة نظامًا مستبدًّا واحدًا بنظام مستبدّ آخر، ليس إلاّ. ولهذا السّبب لا نستغرب كيف نهج العرب على استخدام مصطلح “دولة” لهذه الكيانات الّتي تقوم إثر هذه التّمرّدات. هكذا كانت دولة بني أميّة ودولة بني العبّاس في ما سلف من قرون، وانتهاءً بالكيانات القائمة في هذه الأيّام. يقال في العربيّة: “الأيّام دُوَل” والدّهر ذو دُوَل، أي تتغيّر وتتبدّل الأحوال بتبدّل الأزمان. لقد استبدّ العرب، على مرّ تاريخهم، بالمصطلح دولة، وتناسوا ما يحويه هذا المصطلح من معنى تداول السّلطة سلميًّا. وهكذا أضحت الدّولة في المفاهيم السّياسيّة العربيّة لا تعني سوى تبدُّل المستبدّين القبليّين على صدور هذه التّشكيلة الغريبة العجيبة من البطون والأفخاذ الّتي تشكّل في مجملها الأقوام العربيّة.
ستراعي هذه الخطوط العريضة
خصوصيّات هذه المجتمعات من جهة، وتضع من جهة أخرى كوابح دستوريّة من شأنها أن تُحرّر هذه المجتمعات من موروثاتها الّتي شكّلت في الماضي ولا زالت تشكّل في هذا العصر عائقًا أمام تطوّر هذه المجتمعات. والغاية من هذا الطّرح هي دفع هذه المجتمعات العربيّة إلى الانضمام إلى ركب التّطوّر البشري الّذي يغذّ الخطى قدمًا دون توقُّف. وذلك لكي تخرج المجتمعات العربيّة من القيعان الآسنة الّتي وجدت نفسها فيها طوال هذه القرون الأخيرة، أكانت هذه القيعان الآسنة اجتماعيّةً، سياسيّةً أم ثقافيّة.
الكيانات السّياسيّة الّتي قامت في الوطن العربي الكبير، إثر اندثار الدولة العثمانية، وإثر جلاء الاستعمار فيما بعد، هي كيانات مختلفة التّراكيب ومتعدّدة المشارب من ناحية أنظمة الحكم القائمة فيها. فمنها الممالك والسّلطنات والإمارات، ومنها ما ينحو منحى الدّول الجمهوريّة، مع أنّ هذه الأخيرة بدأت تتضّح أنّها لا تختلف عن الممالك من ناحية توريث الأبناء في الحكم. بل وبدأ يتّضح أكثر فأكثر في العقود الأخيرة أنّ الممالك والسّلطنات والإمارات، على العموم، كانت أكثر رحمة بشعوبها من كلّ تلك الدّول “الثّوريّة” اسْمًا، والاستبدايّة حُكْمًا.
ولذلك، ولأن الطّبع العربي البَرِّي
يغلب التّطبُّع البِرِّي، فمن الأحرى أن ننظر في دواخلنا لنقف على أسباب تخلّفنا عن سائر البشر. لن يفيدنا الاستمرار في دسّ رؤوسنا في الرّمال، مهما حاولنا أن نتهرّب من مواجهة حقائقنا كما هي. من هنا، ولقناعتنا بأنّ الحليب الحضاري الّذي رضعناه من تراثتنا الاجتماعي والثّقافي والسّياسي لا يزال فاعلاً فينا حتّى هذه اللّحظة، نجد لزامًا علينا أن نضع أمام ما تبقّى من أصحاب ضمير من أفراد هذه الأمّة، بعض المبادئ الدّستوريّة لعرضها على النّاس كي تحظى بإجماع وطني على الخطوط العريضة الّتي سنعرضها هنا، لتشكّل هذه ركيزة متينة لمجتمعات تطمح إلى المشاركة في ركب التّطوّر البشري كشريك فاعل في المجتمع البشري، لها ما له وعليها ما عليه.
يجب العمل على
تحويل الممالك العربيّة إلى ممالك دستوريّة تعمل بموجب نظام عصريّ جديد. ويتلخّص هذا النّظام في أنّ الملك في هذه الكيانات يتمّ انتخابه من قبل مجالس للشّيوخ، وذلك لأجل محدود أقصاه خمسة عشر عامًا. وبانتهاء مدّته ملكيّته، ينعقد المجلس لانتخاب ملك جديد لا يكون من أبنائه. يمكن انتخاب أحد الأبناء ملكًا فقط بعد انتهاء مدّة ملكيّة واحدة، أي بعد خمسة عشر عامًا، تفصل بينه وبين والده. إلى جانب الملك تعمل حكومة منتخبة من قبل الشّعب، على غرار الممالك الأوروپيّة.
أمّا في الدّول الّتي تعمل بنظام رئاسي جمهوري، يتمّ انتخاب الرئيس بانتخابات ديمقراطيّة متعدّدة المرشّحين، وذلك لدورتين انتخابيّتين فقط، أو ما يساوي عشرة أعوام لا غير. بانتهاء الأعوام العشرة، فيما لو تمّ انتخاب الرئيس مرّتين متتاليتين، يُحال الرّئيس إلى التّقاعد، ويتمّ انتخاب رئيس جديد مكانه. إلى جانب الرئيس تعمل حكومة يسمّيها الرئيس من بين أعضاء البرلمان المنتخب في انتخابات ديمقراطيّة متعدّدة الأحزاب.
لا يُسمح لابن الرئيس أو شقيقه في النّطام الرئاسي، بأن يُرشّحا نفسيهما للرئاسة بانتهاء رئاسة الوالد أو الشّقيق، إلاّ بعد انتهاء دورتين انتخابيّتين. أي، بعد عشرة أعوام من غياب الوالد أو الشّقيق عن منصب الرّئاسة. الأبناء والأشقّاء هم مواطنون كغيرهم من المواطنين، ولذلك يحقّ لهم التّرشُّح، غير أنّ هذا الحقّ يجب أن تفصله مدّة زمنيّة عن رئاسة الوالد أو الشّقيق هي عشرة أعوام.
بالإضافة إلى ما ذكرنا آنفًا،
يجب العمل على ترسيخ المبادئ العليا التّالية دستوريًّا:
أوّلاً: فصل الدّين عن الدّولة فصلاً تامًّا.
ثانيًا: الفصل التّام بين السّلطات: القضائيّة، التّشريعيّة والتّنفيذيّة.
ثالثًا: حريّة المعتقد الدّيني والفكري والسّياسي للمواطن. وهذه الحريّة تعني أيضًا: الحريّة أو التّحرُّر من المعتقد الدّيني والفكري والسّياسي.
رابعًا: المساواة التّامّة بين الرّجل والمرأة في كلّ مجالات الحياة، وبلا لفّ أو دوران.
خامسًا: المواطنون، رجالاً ونساء بكافّة معتقداتهم الدّينيّة وغير الدّينيّة، متساوون أمام القانون، وحقوقهم هذه مكفولة دستوريًّا، لا يمكن نقضها بأيّ حال من الأحوال.
سادسًا: الوطن، بكافّة موارده، هو ملك للمواطنين أجمعين.
سابعًا: الملوك، الأمراء، الرّؤساء وسائر المسؤولين المنتدبين من قبل الشعب هم موظّفون في خدمة الشّعب، ويعاملون معاملة الموظّفين ليس إلاّ.
ثامنًا: بانتهاء الخدمة الدّستوريّة للملك أو الرئيس، يُحال إلى التّقاعد مُعزْزًا مُكرّمًا. وبوسعه الاستمرار في خدمة الشّعب طوعيًّا من خلال مؤسّسات المجتمع المدني.
وملاحظة أخيرة:
هذه الأفكار معروضة هنا للسّرقة، وبوسع أهل الفكر العرب، والسّاسة العرب، ونوّاب البرلمانات العربيّة والوزراء والرؤساء والملوك والأمراء سرقتها وتعميمها على رعاياهم وعلى جامعتهم العربيّة ووسائل إعلامهم. لقد آن الأوان إلى سرقة هذه الأفكار والمبادئ والعمل بها، بدل العمل على سرقة أموال وموارد الشّعوب العربيّة كما عوّدونا طوال تاريخهم.
إنّي على يقين بأنّ من يعارض هذه الأفكار والمبادئ يجب أن تُثار الشّكوك حوله وحول نواياه، لأنّ هذه المبادئ والأفكار هي الفيصل بين من يضمر الخير للنّاس وبين من يضمر لهم الشرّ. كما إنّي على يقين أيضًا بأنّه لا يمكن الخروج من المأزق العربي ما لم يُعمَل على ترسيخ هذه المبادئ لنظام عربيّ جديد.
ألا هل بلّغت!
***
نشرت في: إيلاف، 29 مايو، 2006
أفكار معروضة للسّرقة: مانيفست – خطوط عريضة لنظام عربي جديد:
Irfan Shahid — tariq@netvision.net.il
سؤال للعزيز سلمان : ما دامت هذه الأفكار “معروضة للسَّرقة”، كما صرَّحتَ بذلك في العُنوان- فهل يُمكِن لنا السّطو عليها ونشرها في الصُّحُف لعلّ بعض “السارقين الكبار” من زعمائنا وقادتنا يسرقونها (ولا نقول يُطبِّقونها)! وإن كُنتُ أميل إلى الاعتقاد بأنَّ أحداً منهم لن يُقدم على ذلك،لأنَّهم لا يقرأون أصلاً لا لك ولا لغيرك، مهما كانت روعة وجمال ما تكتبون. كان الله في عوننا.