منذ أن إندلعت أعمال العنف والإضطرابات العرقية في قرقيزستان في منتصف يونيو الجاري، أي بعد شهرين فقط من ثورة “السوسن” الشعبية التي أطاحت بنظام الرئيس المخلوع “قرمان بيك باكاييف”، وأجبرته على طلب اللجؤ في روسيا البيضاء، والتقارير تحذر من إحتمالات أن تتحول هذه البلاد إلى أفغانستان أخرى، بمعنى أن تصبح ملجأ جديدا للجماعات الإرهابية، وبؤرة لتجمعها وتدريباتها وإنطلاقها. فالأخيرة كالميكروبات، لا تظهر ولا تتواجد ولا تعيش إلا في المياه الآسنة، والمياه الآسنة هنا هي البيئات المضطربة التي تتراخى فيها قوة الدولة وهياكلها ومؤسساتها، أو في الأراضي التي تشهد الإنقسامات الجهوية والقبلية والعرقية والطائفية. ولعل ما حدث في أفغانستان أولا ثم الصومال فاليمن أفضل دليل على صحة زعمنا.
قرقيزستان على خطى أفغانستان والصومال
والحقيقة أن قرقيزستان مؤهلة جدا لإقتفاء أثر أفغانستان والصومال لجهة الحرب الأهلية، وإحتضان الإرهابيين، و إنهيار مظاهر الدولة المعروفة، وبالتالي التسبب في أزمات دولية وإقليمية خطيرة قد تتجاوز حدودها إلى داخل الكيانات المجاورة لها، خصوصا وأن الأخيرة تشكو أيضا من الضعف والترهل.
فهذه الجمهورية السوفياتية السابقة التي تحاذي الصين وكازاخستان وأوزبكستان، والتي يسكنها 5.3 مليون نسمة (15 بالمئة منهم من الإثنية الأوزبكية) تجذرت فيها ثقافة العنف والتمييز الإثني على مدى العقدين الماضيين كنتيجة لضعف هياكل ومؤسسات الدولة، وضعف إقتصاد البلاد وإعتماده على المساعدات الأجنبية، ووجود قيادات تنقصها الشرعية، وظهور الأزمات المعيشية، وإنتشار الفقر والبطالة، ناهيك عن بروز عصابات المافيا المتاجرة بالمخدرات، وإنتشار الجماعات المتاجرة بالشعارات الدينية. إلى ذلك ساهمت حقيقة الأوضاع الجغرافية والديموغرافية والإقتصادية الصعبة المشابهة لوضع أفغانستان من حيث طبيعتها الجبلية، وعدم إطلالتها على البحار، وإفتقارها إلى مصادر الطاقة، وإحتضانها لقوميات تمتد جذورها عبر الحدود إلى دول أخرى (تعيش في قرقيزستان أقليات أوزبكية وتركية وروسية وصينية) في زيادة أزمات وتعقيدات هذه البلاد.
أمر يدعو إلى الإستغراب
وعلى الرغم من هذه الحقائق التي تعزز إحتمالات خطف الجماعات الإرهابية لقرقيزستان وطلبنتها، خصوصا في ظل تقاسم قرقيزستان وأوزبكستان وطاجيكستان لما يعرف بـ “وادي التطرف”، ونعني به “وادي فرغانة” المتميز بكثافة سكانية ضاغطة (يضم نحو 20 % من إجمالي سكان آسيا الوسطى) والذي عـُرف تاريخيا بأنه مهد للمشاكل الإجتماعية الخطيرة، وحاضنة للجماعات الراديكالية الإسلامية (كحزب النهضة الإسلامي وحزب التحرير، والتيار الإسلامي الأوزبكي، و”تنظيم الإكرامية” حديث النشأة، وغيرها من الجماعات الإسلاموية المتمتعة بدعم لوجستي من حركة طالبان الأفغانية).
وعلى الرغم من أحداث العنف غير المسبوقة في شكلها وعدد ضحاياها (سقط المئات من القتلى والآلاف من الجرحى في الإصطدامات العرقية ما بين الأغلبية القرقيزية والأقلية الأوزبكية منذ منتصف الشهر، كما نزح أكثر من 80 ألف شخص بإتجاه أوزبكستان بعد حرق منازلهم ومركباتهم وحرمانهم من الطعام والشراب، وبات أكثر من 75 ألف قرقيزي من أصول روسية مستعدا للمغادرة إلى روسيا خوفا على حياته).
وعلى الرغم من وجود مصلحة مؤكدة لكافة القوى الكبرى في إستتباب الأمن والإستقرار في هذه البقعة ذات الأهمية الجيوإستراتيجية، إبتداء بواشنطون وموسكو اللتين تملكان قواعد عسكرية داخل قرقيزستان في بلدتي “ماناس” و”كانت” بالقرب من العاصمة “بشكيك”، وإنتهاء ببكين التي لا تبعد “أرومجي” عاصمة إقليمها المضطرب “تركستان الشرقية” (يعرف أيضا بإقليم سينجيانغ) عن مدينة “أوش” القرقيزية التي شهدت أسوأ أعمال العنف سوى رحلة طيران مدتها ساعة واحدة.
فإن الذي يدعو للإستغراب هو وقوف الكيانات والمنظمات المؤثرة ضمن المجتمع الدولي موقف المتفرج حتى الآن من الأزمة القرقيزية، فيما عدا بعض بيانات الإستنكار والشجب أو دعوات إلتزام الهدؤ وضبط النفس. فما هي يا ترى أسباب هذا اللاإكتراث؟ أو بصورة أدق ما هي أسباب الخوف من الإقتراب من الأزمة؟
أسباب التردد الروسي في التدخل في الأزمة
يقال أن موسكو مترددة في التدخل، حتى بعد أن طالبت رئيسة الحكومة الإنتقالية القرقيزية “روزا أوتونباييفا” الرئيس الروسي “ديمتري مدفييف” رسميا بضرورة إرسال قوات روسية إلى بلادها من أجل فرض الأمن والنظام، لأنها (أي موسكو) لا تريد أن ترى نفسها مرة أخرى متورطة في مستنقع مشابه للمستنقع الأفغاني الذي كبدها الكثير من الخسائر المادية والبشرية في ثمانينات القرن المنصرم، خصوصا وأن أوضاع وظروف أفغانستان وقرقيزستان متشابهة إلى حد كبير كما أسلفنا.
لكن موسكو، بسبب وجود مصلحة لها في عودة السلام والإستقرار إلى هذا البلد، رأت أنه من الأفضل أن يتم تدخلها في الأزمة من بوابة “منظمة معاهدة الأمن الجماعي”. والأخيرة منظومة أطلقت في عام 1990 بالتزامن مع توقيع “ميثاق باريس من أجل أوروبا جديدة”، وتضم في عضويتها كلا من روسيا الإتحادية، وروسيا البيضاء، وأرمينيا، وقرقيزستان، وطاجيكستان، وكازاخستان. أما لماذا لم تقرن موسكو رغبتها بالفعل؟ فلأسباب كثيرة منها إعتراض واشنطون التي تفضل أن تتولى مهمة التدخل منظمة أخرى هي “منظمة الأمن والتعاون الأوروبي” المكونة من 56 دولة، من ضمنها روسيا التي كثيرا ما بدت كحجر عثرة في سبيل وفاء المنظومة بإلتزاماتها( كرد على إثارة المنظمة لمسائل تتحسس منها روسيا: مثل حقوق الإنسان وحرية الإعلام ومراقبة الإنتخابات) ومنها الخوف من أن تتحمل موسكو بمفردها جل أعباء التدخل عسكريا وماديا، على إعتبار أنها القوة القيادية داخل المنظومة، ومنها مدى شرعية حكومة “أوتونباييفا” كي تتقدم الأخيرة بطلب رسمي إلى المنظومة للتدخل، وأخيرا وجود إحتمال قوي جدا بأن ترفض أوزبكستان (عقدة موسكو في آسيا الوسطى) مبدأ تدخل المنظومة في الشئون الداخلية لدولة في المنطقة، وذلك كيلا يشكل الحدث سابقة يمكن إستخدامها مستقبلا للتدخل في الشئون الأوزبكية الداخلية.
موقف واشنطون
ومما قيل في هذا السياق أن واشنطون، التي تمثل لها قرقيزستان أهمية جيوبوليتيكية قصوى في حربها ضد معاقل الإرهاب في أفغانستان وباكستان، حرضت حكومة طشقند على رفض مبدأ التدخل المذكور، بل وأيضا رفض أية محاولة روسية إلتفافية مثل إقتراح إرسال قوات كازاخستانية (معظم عناصر القوات الكازاخستانية من أصول روسية). ومما قيل أيضا أن واشنطون، في سبيل تطييب خواطر الرئيس الأوزبكي “إسلام كريموف” الذي إتهمته قبل خمس سنوات بالديكتاتورية وإستخدام العنف المفرط ضد خصومه، أرسلت مساعد وزيرة خارجيتها “روبرت بليك” إلى قرقيزستان لتفقد مخيمات اللاجئين الأوزبك في “وادي فرغانة”، ثم إلى طشقند ليؤكد لحكومة “كريموف” إلتزام إدارة الرئيس “باراك أوباما” بحماية الأقلية الأوزبكية في قرقيزستان والدفاع عن مصالحها.
الموقف الصيني
أما بكين، التي تملكتها الهواجس من إحتمال أن يتفق الروس والأمريكيون من خلف ظهرها دونما إعتبار لمصالحها في قرقيزستان التي إن إنفلتت الأوضاع فيها أكثر فأكثر فقد تشعل حرائق بلقانية الصورة داخل الصين، فإن موقفها بدا غامضا كالعادة. ولولا بعض ما أمكن جمعه من إفتتاحيات صحفها والصحف المحسوبة عليها في “هونغ كونغ”، لما كان بالإمكان تكوين صورة لرؤيتها حول الأزمة. حيث تبين أن بكين حريصة على لعب دور محوري في إستقرار آسيا الوسطى، وأن هذا الدور يجب ألا يقتصر على تقديم المساعدات الإنسانية أو إجلاء رعاياها من مناطق الأزمات، وإنما يتعداه إلى التدخل من خلال “منظمة شنغهاي للتعاون” والتي أطلقت الصين فكرتها في عام 2001 لإهداف تتعلق بطموحاتها الإقليمية، وتضم إضافة إليها كلا من روسيا، وكازاخستان، وقرقيزستان، وطاجيكستان، وأوزبكستان. وبطبيعة الحال، فإن الصينيين يفضلون، كنوع من التهرب من الأعباء المالية والعسكرية للتدخل، أن يتم حل الأزمة القرقيزية على يد “منظمة معاهدة الأمن الجماعي” بقيادة روسيا كخيار أول يتلوه الخيار الثاني وهو تدخل “منظمة شنغهاي للتعاون” بقيادة الصين.
بقايا هواجس الحرب الباردة
إن الأزمة القرقيزية، التي حمّلت حكومة بشكيك مسئولية إنفجارها بهذه الحدة إلى “مكسيم باكاييف” نجل الرئيس المخلوع “قرمان بيك باكاييف”، قائلة أن الإبن يستخدم من مقره في العاصمة البريطانية الأموال التي سرقها أبوه في إشعال الحرائق في البلاد إنتقاما ويأسا (أي تماما كما قالت حكومة بانكوك عن رئيس الوزراء المخلوع “تاكسين شيناواترا”)، كان يمكن أن يمثل نموذجا لمدى تعاون موسكو وواشنطون في القضايا الإستراتيجية التي تهم كليهما بنفس الدرجة، إلا أن ما حدث برهن على أن العاصمتين لا تزالان رغم كل التفاهمات، وصور التعاون، والزيارات المتبادلة، والإتفاقيات الموقعة واقعتان تحت تأثير بقايا هواجس وشكوك الحرب الباردة.
* باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
elmadani@batelco.com.bh