فى نفس الأسبوع الأول من ديسمبر 2010 الذى دهش فيه العالم عند إعلان لجنة الفيفا فوز قطر بتنظيم دورة كأس العالم فى كرة القدم – المونديال – لعام 2022، وقف العالم أيضا مندهشا وهو يتابع فضيحة ما يسمى بانتخابات مجلس الشعب المصرى، والتى كانت صور وتسجيلات الفيديو لأعمال البلطجة والتزوير وشراء الأصوات تملآ الانترنت ليشاهدها الملايين الذين أصابهم أحباط شديد – من جديد – على الحال البائس الذى وصلته مصر فى كافة المناحى والذى يوجع قلب كل محبى مصر الذين يحملونها كالجرح النازف فى صدورهم سواء كانوا داخل مصر أو – مثلى – خارجها.
ولم يكن من الممكن تجاهل المفارقة الشديدة فى خبر فوز قطر- وهى الدولة بالغة الصغر فى مساحتها الجغرافية وعدد سكانها وسنوات عمرها – مقارنة بفشل مصر فى الحصول سوى على “صفر” فى محاولتها الفوز بتنظيم كأس العالم الذى فازت به جنوب أفريقيا في 2010 . مصر الدولة الأكبر سنا وتاريخا وحضارة وسكانا ومساحة وكل شئ اخر، والتى تتوالى انهياراتها فى جميع المجالات على يد نظام فشل فى تحقيق أدنى متطلبات الحياة الإنسانية للغالبية العظمى من المصريين حتى أصبحت الأمنية الأولى لمعظم شبابهم الفرار للخارج ولو فى مغامرات حتفية يخاطرون فيها بحياتهم نفسها. المفارقة والمقارنة لا يمكن تجاهلها. ولكن الهدف هنا ليس جلد الذات لكل مصرى محب لوطنه- ولا مجرد تقديم التهنئة لدولة وشعب قطر لفوزهما المستحق، ولكن المفيد والمجدى هنا هو محاولة فهم أسباب ما حدث والاستفادة من دروسه.
إن فوز قطر فى منافسة عالمية هائلة كانت تنافسها فيها الولايات المتحدة واليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية، وهى دول عملاقة كل فى مجالها، لم يحدث صدفة ولا فجأة ولم يكن استثناء أو قضاء وقدرا، بل كان فوزا عظيما مستحقا لدولة ذات قيادة متوثبة لديها رؤية مستقبلية مثيرة طموحاتها كبيرة وعزيمة للسعى وراء هذه الطموحات وجدية فى الأداء اللازم لتحقيقها.
القيادة المتوثبة ذات الموهبة المتفجرة هى شرط أساسى لتقدم أية دولة أو منظمة، أو حتى شركة صغيرة وهو المتوفر فى قطر، والغائب فى مصر، ليس اليوم فقط، ولكن على مدى أكثر من ثلث قرن، ومو ما سأبينه هنا.
رؤية ثقافية
فى سبعينات القرن الماضى، إرتكب الرئيس أنور السادات خطأه التاريخي الفادح الذى ما تزال مصر تعانيه حتى اليوم، حين دفعه خوفه من التيار الناصرى القومى العربي الذى كان سائدا فى مصر فى ذلك الوقت إلى مساندة التيار الإسلامى الإخوانى وتسليمه مفاصل مصر فى كل مجال. فبدأ “ردة” ثقافية وحضارية أرجعت مصر مائة سنة إلى الوراء، إلى ما قبل رفاعة الطهطاوى ومحمد عبده، ومن بين ذلك أنه عزل المثقفين القوميين واليساريين من مناصبهم على رأس المؤسسات الثقافية والإعلامية فى مصر وعين مكانهم مثقفين ينتمون إلى اليمين التجارى والدينى والثقافى التقليدي المحافظ، فأضطر أهم وأقدر المبدعين والمثقفين المصريين إلى ترك مصر بشكل جماعى. فذهبوا إلى لندن وباريس وأمريكا والبلاد العربية. بينما عاد الإخوان المسلمون من السعودية وغيرها إلى مصر لكى يرثوا التركة. وفى هذا التبادل بين تيارى اليسار واليمين عادت مصر إلى أجواء الإنغلاق الثقافى الذى يعادى العلم والفكر والفن والمرأة والحرية الذى كان سائدا فى القرن التاسع عشر وما قبله.
من الذين أطاح بهم النظام المصرى فى ذلك الوقت الناقد الكبير رجاء النقاش رحمه الله، الذى كان رئيس تحرير مجلة الهلال العريقة. والتى دفع بها النقاش لتصبح فى سنوات قليلة أهم مجلة ثقافية مصرية وعربية. إذ قام بتجديد دمائها بالفكر الجديد والشعر الجديد والفنون الجديدة. ولكن لأن النقاش مؤمن بالعروبة فقد عزله النظام ومنح رئاسة تحرير الهلال إلى أحد عتاة الثقافة اليمينية التقليدية المحافظة فى ذلك الوقت الشاعر صالح جودت- رحمه الله أيضا. وكان صالح جودت وراء منع قصائد نزار قبانى من وسائل الإعلام المصرى فى نهايات الستينات – أيام عبد الناصر- بحجة كتابته لقصيدة هوامش على دفتر النكسة التى ينتقد فيها أسلوب القيادة الناصرية. إلى أن كتب نزار قبانى رسالة إلى عبد الناصر يشكو له هذا المنع فقرأ عبد الناصر القصيدة البالغة القسوة وأجاز نشرها فضرب مثلا شامخا للقيادة الواعية لدور الفكر حتى ولو كان مختلفا ومنتقدا للسياسة – رغم أن البلاد كانت فى حالة حرب!
فى ذلك العهد الساداتى المعادى للثقافة التقدمية واليسارية والعروبية سافر البعض – مثل الشاعر أحمد عبد المعطى حجازى- إلى فرنسا، وأخرون إلى انجلترا وأمريكا. وأين ذهب رجاء النقاش الذى فقد عمله فى مصر؟ فتحت له قطر أبوابها ودعوه لرئاسة تحرير جريدة الراية القطرية، ففعل. ثم أسس مجلة الدوحة الشهرية لتصبح بعد أشهر قليلة إحدى أهم المجلات الثقافية العربية فى ذلك الوقت وحتى توقفها فى منتصف الثمانينات بعد أن تركها النقاش. هذا فى الوقت الذى تراجعت فيه مجلة الهلال وراحت تنشر لشعراء يكتبون من القبور وليس للشباب الذى كان يكتب كله “الشعر الجديد” الذى كان لا يعترف به صالح جودت ويمنع نشره! وأذكر أنه فى ذلك الوقت كتبت مقالا بعنوان “نعى مجلة الهلال” نشره الراحل د. سهيل أدريس فى الآداب التى كانت هى المجلة الأهم أدبيا فى العالم العربية فى ذلك الوقت أنعى فيه حال مجلة الهلال التى كانت قد ماتت معنويا وثقافيا.
يرينا هذا بشكل عملى جدا كيف أن قطر قد كان لديها رؤية ثقافية واعدة وطموحة منذ السبعينات، دفعتها إلى استقطاب أهم المثقفين والمفكرين المصريين لتأسيس جرائد ومجلات ثقافية لها تؤسس بها جيلا جديدا من الشباب القطرى الذى هو اليوم فى مواقع المسئولية العليا فى كافة مناحى الحياة. بينما كانت مصر بسبب سياسة السادات القاصرة النظر تعود القهقرى ثقافيا وحضاريا إلى مخلفات القرون الماضية وكهوف الإنغلاق الدينى بتطرفاته وإكروباته الشكلية الفارغة التى أسست الجيل البائس الحالي الضائع بين جلابيب ولحى التيارات الإسلامية المتطرفة الخارجة عن العصر وفساد وبلطجة تحالف الثروة والسلطة التى أنتجت مهزلة الانتخابات الاخيرة فى مصر. القدرة على الإنجاز والفوز فى منافسات عالمية هى نتاج لمسيرات تقوم بها الدول والمجتمعات على مدى عشرات السنوات، سواء للأمام كما حدث فى قطر، أو القهقرى كما حدث ويحدث فى مصر.
رؤية إعلامية
فى عام 1996 قامت قطر بقفزة حضارية أخرى جعلت العالم العربى، ومن خلفه العالم كله، يبدأ فى النظر إلى هذه الدولة صغيرة الحجم بشكل مختلف ممزوج بالدهشة والاعجاب لدى البعض والتوجس والغيرة لدى أخرين – وذلك بإطلاقها قناة الجزيرة الإعلامية التى أحدثت إنقلابا فى إسلوب الإعلام العربى حين قدمت لأول مرة للمشاهد العربى “الرأى والرأى المضاد” بنفس القدر والحجم والحدة – وهو الذى كان معتادا على رأى واحد أحد هو رأى الدولة الذى يعكسه الإعلام فى أسلوب بالغ الافتضاح فى مدى نفاقه وغبائه وجموده- جاءت الجزيرة فقدمت إعلاما جديدا متجددا مثيرا متعددا- وراحت تتناول كل ما كان مسكوتا عنه فى الإعلام العربى من قضايا وأفكار ومعارك وسياسات ومؤامرات خفية ومعلنة، فشدت إليها المشاهد العربى بالملايين من المحيط إلى الخليج وأصبحت هى القناة الإخبارية العربية الأولى وماتزال.
وهنا أيضا لا مفر من المقارنة بين قطر ومصر- فقد كانت مصر هى دائما رائدة الإعلام العربى وصاحبة الصوت الأول والأقوى والأعلى والأوسع إنتشارا، منذ إعلان راديو مصر “هنا القاهرة” إلى أن لحقه “صوت العرب” الذى كان يقيم الدنيا ، والدول، ويقعدها من المحيط إلى الخليج فى عصر عبد الناصر وأم كلثوم. وإذا بنا فى لحظة مفاجئة نجد قناة إعلامية من دولة صغيرة هى قطر تصعد بسرعة صاروخية لتصبح هى القناة العربية الأولى- ولتفضح الكثير من خبايا مصر السياسية، فستضيف الكتاب والسياسيين المصريين الذين يعتم عليهم الإعلام الرسمى المصرى فيظهرون فيها بأفكارهم وأصواتهم الممنوعة ليصلوا إلى مدن وقرى مصر عبر شاشة الجزيرة المنطلقة من الدوحة، ومازال رد فعل الرئيس مبارك حيثما زار مقر قناة الجزيرة بالدوحة هو الأقوى تعبيرا عن حالة الدهشة وعدم الفهم التى سادت مصر تجاه هذه القناة وما أحدثته من دوى وتأثير فى كل مكان حين قال معلقا على مبنى الجزيرة المتواضع جدا “كل ده من علبة الكبريت دي؟” نعم هذا كله من علبة كبريت لأن الذى لم يفهمه الأعلام المصرى المتحجر أن التفوق لا يعتمد على الحجم أو فخامة المقر أو المبانى ، ولكن على الرؤية العبقرية التى تريد إعلاما جديدا وفكرا حرا ومواهب شابة، فقد فتحت قطر ذراعيها للشباب العربى الذى خرج من البى بى سى العربية بعد أغلاق القسم عندما أنسحبت منه السعودية كشريك لإنها كانت تريد تقييد عمله بقيودها السياسية والاجتماعية المعهودة. فإذا بقطر تستقطب نفس هؤلاء الشباب وتمنحهم سقفا أعلى من الحرية ليمارسوا عملا إعلاميا يتحدث لغة العصر- بينما ما يزال الإعلام المصرى الرسمى غارقا فى لغة النفاق السياسى والاجتماعى والرضوخ الإنسانى والتخلف المهنى، مع بعض المحاولات الفاشلة لتقليد “الجزيرة” دون جدوى.
وهكذا فإن الرؤية الثقافية الجديدة المنفتحة على العصر التى بدأت قطر تضع لبناتها فى السبعينات قد ظهرت فى التسعينات فى شكل ريادة إعلامية مثيرة تعتمد أحدث المفاهيم والأساليب المهنية والإعلامية فى العالم تقدمها كوكبة من الإعلاميين العرب المميزين.
رؤية سياسية
من المدهش فى الحالة القطرية أن هذه الدولة التى تتواجد بها أكبر قاعدة عسكرية أمريكية فى الشرق الأوسط لها من الإرادة السياسية المستقلة ما يجعلها قادرة على إتخاذ مبادرات شجاعة وفاعلة – فى أكثر مشاكل الشرق الأوسط حساسية وتعقيدا، فنجد أن الطموح السياسي المشروع لدولة قطر- وهو مشروع لأن الأدوار والأفكار السياسية ليست حكرا على أحد من الدول، وقد أستطاعت مصر الناصرية أن تلعب دورا أكبر من حجمها بكثير فى العالم حينما تزعمت الدول الأسيوية والإفريقية ودول عدم الانحياز فى الخمسينات من القرن الماضى وهى التى كانت دولة تحت الاحتلال قبل ذلك بعامين أو ثلاثة، وهكذا نجد قطر تقوم بدور سياسى مثير ومفيد فى قضايا لبنانية وفلسطينية وسودانية وغيرها، دون أن تتقاعس عن ذلك بحجة تواجد قاعدة عسكرية أمريكية، ولهذا فأنا ممن يعتقدون أن تصور البعض أن معاهدة كامب ديفيد تمنع مصر من التحرك بحرية فى المجال العربى لمناصرة الحقوق المشروعة هو تصور خاطئ، فالسبب الحقيقى لعدم الحركة ليس هو كامب ديفيد ولكن هو الخمول العام فى المخيلة السياسية المصرية وتوهم العجز والتلذذ بالوهن، وفقدان الرؤية المستقبلية الوطنية المتوهجة مما يؤدى فى النهاية إلى القبول بالحدود الدنيا والأوضاع المهينة بل وأعتبارها إنجازات وانتصارات.
الفوز الرياضى
هذه الرؤى الثقافية والإعلامية والسياسية الطموح التى تتحرك وتتواثب وراءها القيادة القطرية فى حماس وجدية تصل إلى حد العبقرية فى الرؤية والأداء معا هى التى أدت بها إلى ذلك الفوزالباهرهذا الشهر أمام أعتى واقوى الدول المنافسة بشرف تنظيم المونديال عام 2022 ولقد أدارت القيادات القطرية ملف هذه المنفسة بشكل بالغ الجدية والذكاء والجهد على مدى أكثر من عام ونصف أمضوه فى التخطيط والإعداد والإبداع، نعم لقد أستعانوا بخبراء عالميين فى شتى المجالات، ولكن هذا متوقع ومتاح لغيرهم أيضا، فى النهاية الرؤية رؤيتهم والطموح طموحهم والأشراف على الأداء والعرض والتنسيق هو لقياداتهم الشابة النابهة. ولذلك جاء الفوز تتويجا لهذا كله، ونتيجة طبيعية لمسيرة طويلة كانت فيها الإدارة القطرية تسير ببلادها على الطريق الصحيح، بعيدا عن الغلو الايديولوجى السياسى والاجتماعى والدينى، فى وسطية لها نكهة عربية واضحة وانفتاح على العالم بلا عقد دونيه أو استعلائية فارغة، والبؤساء الذين يحاولون أن يقحموا بعداً دينياً علي هذا الانجاز الحضاري هم من أهم عوامل إعاقة تقدم مجتمعاتهم، ولم يكن لإنجاز قطر أن يحدث إلا لأنها أخذت باسلوب العصر في إنفتاح علي العالم المتقدم وإستيعاب لمناهجه الفكرية في التخطيط والانجاز.
فهنيئا لقطر قيادة وشعبا، أما مصر فالأمل فى شبابها الذى عليه بدلا من المخاطرة بالغرق فى البحر فرارا من نظام حقق لمصر مستوى لا مثيل له من الانحدار والتدنى، عليه المخاطرة لتغيير هذا النظام بكافة الأساليب السلمية ولكن بعبقرية حقيقية تتخلص من آفات البلطجة السياسية والفهلوة السلوكية التى تعانى منها مصر الحبيبة قيادة وشعبا.
fbasili@gmail.com
كاتب من مصر يقيم في نيويورك
أسباب فوز قطر بالمونديال: عبقرية الرؤية وجدية الأداء – مشهد مسلمي لندنستان يحرقون العلم الامريكي في اتون مسرحية حرق القرآن “بطولة القس جيري جونز” , كمشهد موزة وحمد آل سكند يحتفلون برفع الكأس الذي اشتروه من السوق السوداء للفيفا , كمشهد الاخوان المسلمين يعلنون انهم – اكثر عبقرية ووطنية من البراداعي – اذ شاركوا ليؤكدوا “سلفا” للعالم التزوير القادم؟! .. كلها مشاهد تثير الاشمئزاز وتؤكد على حاجة المجتمعات المدنية المعاصرة للمبيدات الحشرية . مبروك لمصر هذا الانجاز التاريخي العظيم , وننحني بأسم العروبة والاسلام والانسانية احتراما للقائد التاريخي الفذ (الرئيس حسني مبارك) الذي ارسى مصر على بر الامان في هذا… قراءة المزيد ..