بسم الله الرحمن الرحيم
((عندما نفتتح كلامنا باسم الله، فهذا يعني أننا نقدم شهادة أمامه أيضا، وأننا نتعهد بقول الحق ولو على أنفسنا، طالما أنه هو الحق سبحانه وتعالى))
عندما انتقل الإنسان إلى حياة الحضر وسكن الحاضرات، لم تعد سلطة العرف كافية لتنظيم حياة المجتمعات الكبيرة واستقرارها، بمكوناتها المختلفة المتنوعة والمزدادة في التعقيد، وكان لا بد من الارتقاء، لإيجاد سلطة سياسية قانونية أمنية (أي دولة)، بالمعنى الأساسي لمفهوم الدولة. يقوم المجتمع بتفويض هذه الدولة بمهمة الحفاظ على الحقوق الأساسية لكل فرد – مواطن كي يستمر في العيش بين الآخرين ومعهم بسلام وتعاون، ولا يخرج عليهم وعلى مدينتهم. فالمهمة الأساس لهذه الدولة هي حفظ الأمن الداخلي بواسطة مؤسسات خاصة، والأمن الخارجي بجيش، والحق والعدل برقابة وتحكيم قضائي عادل. وهي المؤسسات الثلاث المكونة لأي دولة والتي تديرها (سلطة – نظام – تشكيلة حكومية – إدارة…) لا فرق.
أول واجب من واجبات الدولة بمعناها المؤسسي هو حفظ حق الحياة لكل أفراد مجتمعها، الذي هو أيضا حق مشروع لكل فرد في الدفاع عن نفسه بنفسه، في حال فشلت هذه الدولة بذلك.. أما عندما تنقلب الدولة – المؤسسة على دورها ومهمتها، وتتحول إلى آلة قمع مضادة للحقوق الأساسية لأفرادها، فإنها حين ذلك تفقد شرعيتها.. وعندما تطلق الرصاص الحي وتقتل مواطنيها المطالبين بحقوقهم، فتتحول حينها إلى وحش مضاد للمجتمع والإنسانية والحضارة وعدو داخلي. وتفقد الدولة شرعية وجودها، ويعود حينها للأفراد والجماعات تنظيم وسائل دفاعهم عن أنفسهم بطرقهم الخاصة، دون الرجوع إلى أحد. وهذا حقهم الطبيعي الذي سيمارسونه مجبرين غير مخيّرين، بانتظار إعادة بناء الدولة وإنتاج السلطة من جديد.
وإذا ساند الجيش أو شارك في هذا الانقلاب والعدوان، فلا يعود جيشا وطنيا، بل يصبح جيش احتلال تخلى عن دوره وعقيدته في حفظ الوطن والمدنيين، وتحول لخدمة سلطة فاسدة منقلبة على دورها وعلى مهمتها وعلى تفويضها وشعبها، انقطعت عن مصدر شرعيتها، وأسقطت حالة الدولة القانونية الشرعية، وأسقطت المجتمع إلى حالة من الفوضى، التي ليس لها سبب، سوى فقدان آلية تجديد السلطة وتداولها وإصلاحها وتغييرها سلميا ومحاسبتها وعزلها، ودخولها بالتالي في نفق الاستبداد ومن ثم الفساد حتما وبعده الخراب من كل بد.
لم أقدم هذا التحليل المبسّط والبديهي ، إلا من أجل الانتقال من هذه البديهية إلى نتيجة سريعة وواضحة.. فقد تعهدت أمام نفسي وغيري عند خروجي من السجن، أن أبحث مخلصا عن حل وطني سلمي ما، رغم كل ما عانيت من تعسف وظلم من قبل هذه السلطة، لأنه من حيث المبدأ: أي حل سياسي هو أفضل من أي حل يعتمد على القوة.. ولذلك أقول مخلصا لكل مواطن بغض النظر عن موقعه في هذا النزاع الداخلي الحاصل، أنه لا يوجد حل (بعد أن وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه) سوى رحيل هذه السلطة، التي أمرت المؤسسات بمخالفة دورها، واعتبرت نفسها أنها هي الوطن وهي مصدر كل شرعية، وهي سقف لهذا الوطن، و أنها هي من يعطي الشرعية للشعب، الذي سيصبح بنظرها عبارة عن مندسين وإرهابيين وعصابات. و… إذا لم يطع رغباتها ونزواتها ويقدسها وينبطح أمام حذائها.. والذي عندما حاول مواجهتها ونجح في تهديد وجودها رغم قمعها الوحشي، حاولت هي تدعيم نفسها عبر تقسيم المجتمع، واللعب على تبايناته، وحرف هذا الصراع ليظهر وكأنه حرب داخلية وأهلية، وليس ثورة حقوق وحرية. وهذا السلوك هو فعلا ما يهدد وجود الوطن، ويفتح الباب على حرب أهلية ومجازر، مما سوف يدفع بالتالي دول الجوار والمجتمع الدولي للتدخل، كونها دولاً وأمماً متحدة ومتضامنة, معنية بمهمة حفظ السلم وتنظيم قيام الدول والدفاع عن المدنيين، وهذا ما يشكل جوهر المجتمع الإنساني العالمي.
وهنا أقول أنه لا يجوز لأحد أن يفكر في أنه يمكن الحفاظ على هذا النظام، الذي ارتكب أخطاء قاتلة: (واحدة منها) أكثر من عشرة آلاف شهيد ومفقود، (مع أنه يكفي شرعيا قتل نفس واحدة من دون حق، لتعادل هذه الجريمة قتل الإنسانية جمعاء). كما لا يجوز الاعتقاد أن أي قوة في العالم سوف تستطيع حماية نظام من شعب ثار عليه ، وشارك في هذه الثورة كل مكونات وشرائح المجتمع… والتاريخ يقول أن كل ثورة شارك فيها الطفل والمرأة سوف تنجح.. خاصة أن هذا الشعب استطاع بكل ذكاء ومهارة تطوير نضاله وثورته طيلة ثمانية أشهر، وفرض احترامه على العالم كله.. وقبل كل ذلك وبعده.. قد أعلى كلمة الله الذي هو الحق والحقيقة، وكبّر باسمه جلّ وعلى، وهو السميع المجيب.
بكل صدق وإخلاص أقول لكل فرد ولكل طرف، وأنا أضع نصب عيني هموم ومخاوف وقلق كل أم وأب: أنه لا يوجد حل يحفظ حياتهم وأبناءهم سوى رحيل هذه السلطة، من اجل الحفاظ على ما تبقى من مؤسسات الدولة، والسماح بإعادة ترميمها بسرعة، لكن على أسس ديمقراطية تضمن للجميع حقوقا متساوية, وتعيد الشرعية للدولة – المؤسسات، والوحدة واللحمة للوطن, وتعيد إنتاج السلطة المفوضة القادرة على إدارة هذه الدولة، وإنقاذ الوطن من أي عنف داخلي أو تدخل أجنبي.. وهنا أقول : أنه على كل فرد أن يبدأ من نفسه وينضم إلى مطلب رحيل السلطة، وأن لا يربط مصيره بمصيرها ، فرحيل السلطة لأي خطأ ترتكبه، هو شيء طبيعي وعادي، وهذا هو قانون وجود وزوال السلطات.. وهو شيء مختلف عن وجود مكونات المجتمع والوطن الثابتة، التي لا يجب ولا يجوز أن يرتبط مصيرها بمصير هذه السلطة أو تلك، كما لا يجب ولا يجوز ارتباط وجود مؤسسات الدولة بالسلطة السياسية والنظام، ولا يجوز لها الدفاع عن السلطة وليس الشعب، عندما يحدث بينهما تناقض وجودي واضح وصريح، أوصلنا إليه، سلوك هذه السلطة وأنانيتها وجهلها وحماقتها وارتكابها وإمعانها وطغيانها، حتى أصبحت هي بوجودها نقيضا تاما لوجود الوطن والسلم الأهلي والاستقلال بكل أسف.
أعتقد أن هذا التوضيح هو مقدمة لأي حوار وطني، يمكن أن يجري بين مكونات المجتمع من أجل إعادة إنتاج العقد الوطني والدستور، الذي يضمن حصصا متعادلة من الحقوق في السلطة والثروة، لكل أفراد ومكونات المجتمع، ويبدد مخاوف البعض أقلية كان أم أغلبية، من حصول استبداد أو استئصال أو اضطهاد. أما السلطة المرتكبة المنقلبة ، فليس لها مكان في هذا الحوار، وعليها فقط واجب الرحيل، ووضع نفسها بتصرف الشعب طالبة الشفقة و الرحمة منه، هذا إذا أرادت الخروج بأقل قدر من الخسائر والبشاعة، وعلينا نحن أيضا تطمين كل من شارك في يوم من الأيام في مؤسسات هذه الدولة التي استبدت وأفسدت وأساءت، أنه لن يكون موضوع تنكيل وانتقام، لأن ما حدث هو أكبر من إرادة وقدرة أي فرد مهما كان منصبه، فنحن منذ البداية وقبل سنوات بعيدة عن انطلاق الثورة حلمنا بها و أردناها ثورة من أجل الأخلاق والقيم والحقوق، ثورة شرف ونزاهة ومحبة وفداء، ثورة من أجل الحضارة تتقي الله، وتنتصر للحق والحقيقة وتدعو للخير.. والله الموفق..
(سنتابع هذا الحديث في مقالات متتالية)
زبداني 17 / 11/ 2011
محمد كمال