حفلة زفاف كريمة خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لـ«حماس»: الذين غطّوها قالوا انها كانت اشبه «بمهرجان خطابي». كان المتوقّع ان تقام في صالة، ولكن في الدقائق الأخيرة نقلت الى صالة اخرى «لإعتبارات أمنية». حضرها كبار المسؤولين الامنيين والسياسيين والديبلوماسيين؛ وخيّمت عليها «الطقوس السياسية». فكانت خطابات تنتصر على العدو الاسرائيلي الخ. وكأن الحفل ينبىء لا بزفاف، بل بحدث سياسي خطير.
صدق الانطباع ورمى والد العروس بقنبلة ديموغرافية في «الخطاب» الذي القاه للمناسبة السعيدة: مناسبة زواج ابنته فاطمة على الشاب الفلسطيني-السوري طارق أرشيد. والقنبلة عبارة عن ثلاثة شروط استراتيجية «للبدء بالعدّ العكسي لزوال دولة اسرائيل». وقوامها «الحضن السوري» و»إيمان الشعب»، والأهم من الاثنين «شعب يتكاثر»…
وربما ليكون الخطاب ملائما للمناسبة السعيدة، وضعَ مشعل جانباً «الايمان» و»الحضن»، واسترسل في «التكاثر». قال: ان هذا الزواج يعني ان لا تنازل عن الحق للعدو في اراضي 1948. وأمل ان ينجب العروسان «جيل تحرير فلسطين»، بعدما أنجِب جيله هو، «جيل المقاومة والممانعة»؛ وحذر الاسرائيليين من ان «آلة الانجاب الفلسطينية شغالة 24 ساعة».
قنبلة خالد مشعل هذه ليست جديدة، ولكنها مدوية. وفي هذه الايام بالذات، حيث الجاذبية الغالبة هي جاذبية الموت والبشاعة والاستهتار بأرواح البشر.
ما الذي يعيد تأسيسه خالد مشعل بهذا الاعلان الفصيح؟ ما الذي يحاول إعادة تثبيته وبنجاح؟
أولا: إقحام الاسرة في التطلع الحربي، دمج تام بين العام والخاص. إدخال اجندة الموت الى قلب النواة العائلية الحميمة. (لديه ثمانية اولاد، ولإسماعيل هنية 18). تتدرّب بموجبه العائلة منذ المهد على مسلتزمات الاجندة، وتتحدّد سلفاً مصائر افرادها بناء عليها.
وعندما نقول عائلة، نقول امرأة، نقول أم. أي آلة الانجاب بحق. رحمها في خدمة الاجندة التي وضعها ذوو القرار في جماعتها، الضيقة والمتوسطة. لنتفق منذ البداية: بطنكِ لست انت من يقرر مصيره. انت ليس عليك سوف الحمل والسهر والتضحية بالليالي والايام لمصير مرسوم سلفاً لوليدكِ: الموت، إما برصاص اسرئيلي، بأيدي عدو ما زلنا، وسوف نبقى، نصارعه. أو في عملية «إستشهادية»، «بطولية»، «نوعية»؛ أي على يد «العقل» الذي يدير المعركة مع هذا العدو.
البطن آلة إنجاب شغالة 24 على 24 ساعة. تصنع سلاحا استراتيجيا يعوّض التفوق الاسرائيلي الشامل: القنبلة الديموغرافية غير الموقوتة.
وما يضيف الى هذه القنبلة خطراً هو ان المطلوب ممن يفترض انهن، وليس غيرهن، صاحبات هذه الآلة، اي الامهات المكتوب على جبينهن فجيعة فقدان الابن… يفترض أن تغمرهن السعادة بهذه الفجيعة، ان يغالبن حرقتهن، ان يزغردن فرحاً وإعتزاز… والا ما استاهلن الاعتزاز بلقب «أم الشهيد» الفخري.
«حزب الله»، النظير اللبناني لـ»حماس»، كان الأصدق في التعبير عن تبجيل «ام الشهيد». الهيئات النسائية للحزب داومت على الاحتفال بوالدة عماد مغنية، القائد الامني والعسكري للحزب. احتفلوا بها، وكرّموها، وعلّقوا على صدرها النياشين، ولقبوها بـ «عميدة الامهات». وشاشة «المنار» غطت الوفود النسائية المعزّية وكلها رهبة، تقبّل ايدي «أم الشهيد» وتهنئها على كلمتها يوم تشييع آخر أبنائها.
وهناك دوماً نساء يخجلن من انهن لم يقدمن فلذات اكبادهن، او يخفين اطمئنانا يحمي الاولاد من الاستشهاد… وامام اعينهن النموذج القدوة للأم المثالية التي صنع بطنها، آلتها، العدد الأكبر من ضحايا القنبلة الديموغرافية.
واذا لم يفن هؤلاء على يد الاسرائيلي او بقرار «مقاوم، ممانع»، امضوا حياتهم البائسة عرضة للجوع واليأس والجهل والمرض والفوضى والعوز. انها الآثار الجانبية لهذه القنبلة، إرتداداتها، شظاياها.
من بين المجموعات الاسرائيلية المطالِبة بالسلام، مجموعتان تخصان «شهداءهم»: الاولى، «حركة الامهات الاربع». تأسست عام 1997 على اثر تحطم طائرة في جنوب لبنان قتل فيه 73 جنديا اسرائيليا. امهات اربع جنود منهم قمن بتأسيس حركة إحتجاج تطالب بالانسحاب الاحادي من لبنان وتطبيق القرار 425. وقد تم «نصر» الانسحاب الاسرائيلي من لبنان عام 2000.
الحركة الثانية «هيئة العائلات الثكلى». أسّسها رجل اعمال اسرائيلي بعد مقتل ابنه اثناء قيامه بالخدمة العسكرية في الاراضي الفلسطينية. والمجموعة هذه تشمل عددا من العائلات الاسرائيلية والفلسطينية التي فقدت اولادها اثناء القتال.
الحاجة العربية الى هكذا نوع من الجماعات اقوى واكثر إلحاحاً من الحاجة الاسرائيلية؛ لأن الاسرائيليين حريصون على ارواحهم، وقادرون على القتل الأكثر فتكاً، ولأن القنبلة الديموغرافية ليست في اجندتهم العسكرية؛ حاجتنا الى جماعة تطالب بالتوقف عن بناء تقاليد موت مبرمجة عائلياً، باسم تحرير فلسطين. والامهات هن المعنيات الأكبر بذلك. يجب ان لا يصدقن الكلام المعسول عن فاجعتهن بفقدان ابنائهن. ولا يصدقن الامهات الراقصات على قبور ابنائهن. انهن محكومات، مرسوم لهن ولأولادهن مصير مسبق. والثرية من بينهن تشتري ابنها بالتبرعات والصدقات، فتجنّبه «الاستشهاد».
ملاحظة اخيرة: من زمان، ايام كان «التحرير» يساريا تقدميا، كنا نطرب لأغنية الفنان الجاد الملتزم الوطني مارسيل خليفة، تقول «أجمل الامهات التي انتظرت ابنها وعاد مستشهداً…». واليوم مارسيل خليفة، وبنفس الصفة، يطرب جمهور حزب «التجمع» اليساري» المصري، شبه الموالي للحكومة… بنفس الاغنية، وبما يوازيها. ثم يصرح «الرصاص بمثابة البروتين الذي يعطيني الدفعة والقدرة على التواصل. ولو لم يكن هكذا لما استطعتُ الغناء تحت القصف في لبنان اواخر الثمانينات، وعلى استعداد لتكرار التجربة نفسها» (مجلة العربي. عدد 127). يا لها من بلْبلة!
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية- القاهرة
الحياة