ثمة ما هو أبعد من الأسباب اللبنانية الداخلية، على أهميتها، لعملية تأخير تأليف حكومة الوحدة الوطنية. فالأزمة اللبنانية منشأها إقليمي، ومجرياتها إقليمية، على رغم ان آليات إشعالها ووقودها لبنانية، طالما ان الفسيفساء التي يتشكل منها النسيج اللبناني وتناقضات الطوائف فيه ومشاكلها تتيح تأمين الغطاء للأهداف والمرامي الإقليمية للتأزيم. واللبنانيون يجيدون افتعال الضوضاء والصراخ الذي يغطي على الخلفيات الأكثر جدية للتأزم على ساحتهم. بل ان بعض الفرقاء المحليين هم من الذين يسهل انزلاقهم إلى ممارسة هذا الدور، غير واعين حقيقة «الخدمة» التي يؤدونها للخارج… فيما هناك أطراف آخرون شديدو الوعي لدورهم، بالمعنى الإقليمي والوظيفة التي يؤدونها.
اعتاد الأطراف الإقليميون القادرون على التعطيل والتأخير ان يمسكوا جيداً بخناق البلد، وبالخطوات التي تتحول مطالب ملحة وجوهرية للفرقاء الدوليين والإقليميين الآخرين، هكذا فعلوا في ما يخص فتح المجلس النيابي، وتسيير عمل الدولة والحكومة وانتخاب رئيس للجمهورية، وهذا ما حصل مع عملية تأليف الحكومة منذ تكليف الرئيس فؤاد السنيورة.
وسواء تشكلت الحكومة الجديدة قريباً أم تأجلت، فإن مؤشرات الأسابيع الأربعة الفاصلة عن تكليف السنيورة تدل الى ان المرحلة المقبلة على لبنان، هي مرحلة أمنية على رغم اتفاق الدوحة الذي يُفترض ان يكون أوقف الصدامات المسلحة التي وقعت في ايار (مايو) الماضي في بيروت والجبل والشمال. وهي أمنية ليس فقط بسبب استمرار الصدامات المتنقلة في العاصمة ثم البقاع ثم الشمال، بل نتيجة الموقف المعلن للطرف الأساسي والأقوى الذي يملك المبادرة الأمنية والعسكرية في لبنان، أي «حزب الله». فهو استبق تشكيل الحكومة بالتأكيد انه لن يكون هناك على رأس أي جهاز أمني وفي أي موقع عسكري من لا تطمئن إليه المقاومة. بل ان قادته خاطبوا المملكة العربية السعودية بطريقة قاسية حين اعتبروا ان في «المرة المقبلة» (والمقصود بها الصدامات المقبلة في بيروت) «لن تجدوا طريقاً» (لمغادرة بيروت والمقصود بذلك خروج السفير السعودي الدكتور عبدالعزيز خوجة منها اثناء الصدامات في أيار الماضي). وليست مظاهر المرة المقبلة التي تشهدها الأزقة وبعض المناطق مؤشراً الى المرحلة الأمنية فقط. فأوساط الحزب وبعض المعارضة تردد لمناسبة الخلاف على تأليف الحكومة أن أطراف الأكثرية «لم يتعلموا الدرس جيداً»، وأنهم يحتاجون الى «تكرار القَتْلة» التي خضعوا لها اثناء احداث ايار الماضي لأن التجربة أثبتت انهم «مثلما قبلوا بإعطاء المعارضة الثلث المعطل في الحكومة وبتعديل قانون الانتخاب، تحت الضغط، فإنهم لن يقبلوا بمطالب المعارضة الحكومية إلا بتجديد الضغط». والمقصود هنا الضغط العسكري… والتعابير الأكثر لطافة التي تستخدمها اوساط المعارضة والحزب هي انها لن تترك الأكثرية تطمئن وترتاح. وإذا كان هذا هو المناخ القائم في أوساط المعارضة، فإن مغزاه لا يقف عند حدود ضرب الحائط بقرار مؤتمر الدوحة عدم استخدام السلاح في الخلافات الداخلية. بل هو يدل الى ان وجهة الأحداث هي السعي الى ان يكون هناك غالب ومغلوب في التركيبة الداخلية المقبلة. لكنه يؤشر ايضاً الى ان المعادلة الإقليمية التي أنتجت اتفاق الدوحة لم تعد موجودة. وهذا لب الموضوع.
لم يعد سراً ان العلاقة الإيرانية – السعودية في حال تراجع كبير، وأن محاولات رأب الصدع الذي ازداد بعد الانفلاش العسكري للحزب وحلفاء ايران وسورية في بيروت لم تثمر وأن لقاء وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل مع نظيره الإيراني منوشهر متقي في بيروت في 25 أيار الماضي انتهى الى خلاف. فالأول اتهم طهران بافتعال حرب مذهبية والثاني نفى ذلك ووعد «بعدم تكرار ما حصل»، على رغم انه رد التهمة الى المملكة. وطهران متوجسة من عدم قيام المملكة بدور ملطّف للموقف الغربي من ملف إيران النووي على قاعدة موقفها الثابت بنصح الغرب بعدم اللجوء إلى المواجهة العسكرية مع حكامها لأن نتائجها كارثية على المنطقة. وهي ازدادت توجساً مع سعي الرياض إلى رفع سقف إنتاج النفط للسيطرة على أسعاره ووقف تصاعدها، بالتزامن مع إقرار الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة رزمة عقوبات جديدة عليها. وفي اختصار فإن طهران تريد من الرياض ان تأتي إليها بعد الذي حصل في بيروت.
أما من جهة سورية فإن كل الوساطات التي تحركت لاستعادة العلاقة بين دمشق والرياض، وآخرها الوساطة الكويتية والقطرية، لقيت إجابات اكثر من باردة من جانب الثانية، في وقت تحتاج دمشق الى استعادة العلاقة من اجل مواصلة رحلة التطبيع مع الخارج وإلى الغطاء العربي السعودي – المصري لرئاستها للقمة العربية… ولمفاوضاتها مع إسرائيل…
الحياة