يرتبط شهر آذار في حياة شعوب كثيرة، بمن فيهم الشعب السوري، بالحيوية والنشاط والفرح تجسدها الاحتفالات بشم النسيم الفرعوني وعيد النوروز الكردي وعيد الأم العربي، فهو بداية فصل الربيع الذي يبعث الدفء في الكون ويطلق القوى الكامنة في الطبيعة والإنسان فتعيد دورة الخلق والحياة.
غير أن آذار السوري غدا، ومنذ عقود، شهر للحزن والغضب الكبير بعد أن صبغته السلطة بالسواد والألم والموت عبر فرض حالة الطوارئ وقتل مواطنين سوريين أكراد في مدن القامشلي وحلب وعين عرب والمالكية ورأس العين مرورا باعتقال ومحاكمة نشطاء الطيف الديمقراطي .
لقد اقترن شهر آذار السوري بالخوف والحزن والموت حيث ترتب على فرض حالة الطوارئ (8 آذار1963)،وتنفيذها بطريقة غير قانونية،إطلاق يد أجهزة المخابرات لتدير الحياة الوطنية وتضع الحدود والقيود وتحدد القيم والمعايير،وإلغاء دور الدستور والقوانين، وإعطاء إجازة قسرية للقضاء العادي، ليس باعتماد محكمة أمن الدولة العليا والمحاكم الاستثنائية، بما في ذلك استخدام المحاكم الميدانية و العسكرية ضد مدنيين، فحسب بل وبالضغط على القضاة وإجبارهم ، بالترغيب والترهيب، على تنفيذ مطالب أجهزة المخابرات منهم وآخر تجليات هذه السياسة كانت في المعاملة غير القانونية التي تعرض لها معتقلي إعلان بيروت – دمشق ميشيل كيلو وأنور البني ومحمود عيسى ،وكذلك كمال لبواني.
لقد تغولّت هذه الأجهزة ومارست كل أنواع الابتزاز والاستنزاف النفسي والوجداني، وكل أصناف القهر الجسدي والروحي. خاصة في ضوء اعتماد السلطة سياسة أمنية صرفة في مواجهة كل أشكال الحراك الوطني المعارض، السياسي والاجتماعي، ومنحها أجهزة المخابرات حرية التصرف دون قيد أو شرط أو رقيب أو حسيب، حيث باتت المسؤولة عن تعيين الموظفين وترقيتهم وتعيين الوزراء والسفراء وترشيح المواطنين للانتخابات البرلمانية أو البلدية، وإعطاء رخص تجارية بما فيها فتح كشك على رصيف أو محل حلاقة أو مقهى .. لقد أصبحت كلية الصلاحيات. وهذا سمح لها بالتوسع في القمع والاعتقالات السياسية التي لم تقتصر على المطلوبين من المعارضة بل وطالت ذويهم وأقاربهم، إذ كثيرا ما اعتقل الأب أو الأم أو الأخ أو الأخت، أو جميع أفراد الأسرة، للضغط نفسيا واجتماعيا على مطلوب هارب أو متواجد خارج البلاد أو لترويع المجتمع أو للسببين معا، ناهيك عن حرمان محيطه الأسري من فرص العمل في مؤسسات الدولة وإداراتها-لأن التوظيف يتطلب موافقة هذه الأجهزة والتي تعترض على توظيف شخص له أقارب معارضين أو معتقلين أو فارين ما لم يكن على علاقة جيدة مع السلطة، عضو نشيط في الحزب الحاكم أو مخبر لدى أجهزة الأمن أو يدفع ثمن الموافقة مبالغ طائلة- وتعرضهم لمساءلة ومضايقة، حتى الأصدقاء والجيران تعرضوا للمساءلة والمضايقة والاعتقال التعسفي لاستكمال التحقيق، أو للابتزاز النفسي والمالي.
أما أحداث القامشلي (12/3/2004) وامتداداتها وتبعاتها فكانت تعبيرا مباشرا وصريحا عن حالة الاحتقان والتوتر التي تعرفها الحياة الوطنية السورية فالسياسة التمييزية ضد الأكراد إن في مسألة الحرمان من الجنسية أو نزع الملكية الزراعية لإقامة الحزام العربي، أو منع تسجيل ملكيات عقارية والإبعاد عن الوظائف العامة وعرقلة تسجيل المواليد…الخ،أدت إلى حصول انقسام عمودي عميق بين أبناء الوطن الواحد، تجسّد في تشكيلات سياسية خاصة، حيث لم يعد تواجد العرب والأكراد السوريين في حزب واحد أمرا واقعا .
وقد زاد اعتماد السلطة الحل الأمني في مواجهة هذه الأحداث وإطلاق الرصاص الحي على المواطنين وقتل وجرح العشرات واعتقال المئات منهم ، وإشاعة قراءة تآمرية تقول بارتباط تحرك الأكراد السوريين بقوى خارجية ، والعمل على تعبئة المواطنين السوريين غير الأكراد ضد الأكراد السوريين، الشرخ الوطني وعمق عدم الثقة والشكوك والأحقاد وجعل المجابهة بين المواطنين أمرا ممكنا.
وهذا جعل المشكلة الرئيسة التي تواجهها سوريا مشكلة قطيعة بين المجتمع والسلطة من جهة و غياب الاندماج الوطني من جهة ثانية ، والأخيرة مشكلة خطيرة وقابلة للتوظيف من قبل قوى خارجية عبر صراعات دامية وبرامج تفكيكية.
يحتاج آذار السوري كي ما يستعيد ألوانه ورونقه إلى إشاعة ثقافة سياسية وإدارية قائمة على احترام المواطن والنظر إلى خياراته ومواقفه باعتبارها سلوكاً مشروعاً يعبر فيه عن ذاتيته وحريته ، والتعاطي معها وفق قواعد دستورية وقانونية ديمقراطية، ووضع كل المواطنين تحت سقف القانون ومعاملتهم بالمساواة والعدل ، دون اعتبار للعرق أو الجنس أو الدين ، تحقيقا لاندماج وطني وحياة مزدهرة وكريمة.
ali.a1950@gmail.com
* كاتب سوري