إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
كان الرِّقّ ظاهرة قديمة قِدم الزمن سادت العالم كلّه ثم بادت لمّا تطور المجتمع الإنساني حضارة وتمدُّناً. السُّود كانوا هُم الضحيّة الكبرى لهذا النظام الجائر في التاريخ. وفي القرن التاسع الميلادي في جنوب العراق قامت أول انتفاضة للزنج ضدّ نظام الرِّق، وتلتها ثورة القرامطة، وبعدئذ حدثت الثورات في المستعمرات الفرنسية والأميركيّة. كانوا يعاملون السُّود كأنهم مجرّد حيوانات. تعود جذور المتاجرة بالسُّود في القارّة الأفريقية إلى القرن الخامس عشر. وكان لتجّار أوروبا الاستعماريّين دورٌ كبير في تلك الصفقات. يذهبون إلى البلاد الأفريقية ويلقون القبض على سكّانها البؤساء لينقلوهم على ظهر البواخر إلى أميركا لاستغلال جهودهم في المزارع وللأعمال الشاقّة.
وفي عام 1619 حملت السفُن الهولندية إلى أميركا الشمالية أول جحافل الأرقّاء الأفارقة. ومن أحفادهم رئيس أميركا السابق أوباما، ووزيرة الخارجية السابقة كوندوليزا رايس، وقائد الجيش السابق كولن باول، والمصلح الشهير مارتن لوثر كنغ، ومحمد علي، ومالكوم أكس، ولويس فراخان وغيرهم. ومَن قرأ “جذور: ملحمة عائلة أميركية” لـ ألكس هايلي الذي صدر عام 1976، وشاهد المسلسل التلفزيوني المبني على تلك الرواية التاريخية لا يحتاج إلى مزيد من المصادر لمعرفة حالة الرِّقّ ومآلاته في الولايات المتحدة في القرون الماضية.
حاول هايلي في كتابه تتبع تاريخ عائلته منذ أحد أجداده المسمّى بـ”كونتا كونتي”، الذي استُعبِد واستُحضِر إلى الولايات المتحدة ليقوم بأعمال شاقّة. كان “كونتا” رجلاً حُرّاً قبل ذلك في غامبيا. وبعد فترة طويلة حصل أحد أحفاده على الحرّية، وكان هو جدّ هايلي من جهة والدته. وخلال سرد حكاية عائلته يحاول هايلي الكشف عن عادات الأفريقيين الأميركيين كما يُحاول أن يحكي قصة عائلته منذ منتصف القرن الثامن عشر حتى منتصف القرن العشرين.
ومن وثائق الرِّقّ الهامّة في أميركا “مذكّرات عمر بن سعيد”، التي كتبها صاحبها باللغة العربية عام 1831، بعد وصوله إلى مدينة تشالستون وعمره ستون عاماً. ونقلتها إلى اللغة الإنكليزية ماري جين ديب، رئيسة قسم الأدب الإفريقي والشرق الوسطى في “مكتبة الكونغرس”. كان بن سعيد ينتمي إلى عائلة ثريّة في السنغال، وقد أمضى وقتاً طويلاً من حياته يدرس، قبل أن يأتي رجل “شرير” إلى فوتو تورو عام 1807، ومعه مجموعة من الرجال، فقاموا بقتل عديد من سكّانها واقتادوه عنوة من بلاده. بعد معاناة غادر مع رجل يُسمّى بوب مومفورد، ولاحقاً يسأله أحد أقارب بوب، ويُدعى جيم أوين، ما إذا كان يريد الذهاب إلى مكان إقامة هذا الأخير في مزرعة قرب نهر كيب فير، فوافق على ذلك وبقي هناك. كان أوين يعامله معاملة حسنة. يكتب عمر بن سعيد في نهاية مذكّراته: “بقيت بين يدي جيم أوين الذي لم يضربني ولم يوبّخني، ولم يتركني بلا ثياب ولم أتعرّض للجوع ولم يجبرني على القيام بأعمال شاقّة، لأنني رجل صغير وضعيف. ولم يتركني جيم أوين محتاجاً إلى شيء”. وهذه الوثيقة التي تبلغ 28 صفحة محفوظة اليوم في “مكتبة الكونغرس”. ولو مررنا على تاريخ الولايات المتحدة سنرى عدداً من رؤسائها مثل توماس جفرسون، وجورج واشنطن كانوا يمتلكون العبيد قبل إلغاء نظام الرِّقّ.
في عام 1788 تأسست “جمعية أصدقاء السُّود” في باريس، بتأثير من التيار الفكري التنويري ضدّ نظام الرِّقّ والعبودية، وكان وراء هذا التيار فلاسفة وسياسيون مستنيرون أمثال ديدرو، وجان جاك روسو، وفوستر، ومونتتسكيو وكوندورسيه. وكان هذا التيار يشمل عواصم الغرب كلّه من فيلادلفيا في الولايات المتحدة الأميركية إلى باريس ولندن. ولكوندورسيه كتابٌ بعنوان “تأمّلات حول استعباد السُّود” (1781). ومن كتابات هؤلاء الفلاسفة استلهمت الأمم المتحدة قراراتها ضدّ نظام الرِّقّ فيما بعد. وعليها اعتمد السياسيون في القرن التاسع عشر من أجل إقناع الحكومات بإلغاء نظام الرِّقّ نهائياً، وهذا ما حصل في فرنسا بعد الثورة الفرنسية، وإن كان نابليون قد عاد إليه جزئياً عام 1802، قبل أن يصدر قانون الإلغاء القطعي عام 1848. كانت الدنمارك أول دولة أوروبية منعت تجارة الرِّقّ، وكان ذلك عام 1792، وتبعتها المملكة المتحدة وأميركا بعد سنوات. ونصَّ الدستور الأميركي على إلغاء نظام الرِّقّ عام 1865، وفي عام 1906 عقدت “عصبة الأمم” مؤتمراً دوليّاً اتُّخذ فيه قرارٌ لمنع تجارة الرِّقّ وإلغاء نظامه بجميع أشكاله.
لم تكن شبه القارّة الهندية، بما فيها مناطق كيرالا، التي كانت دويلاتٍ تُعرف قبل استقلال الهند، عام 1947، بأسماء مليبار وكوشين وتيروفيتانكور، مُستثناة، تاريخياً، من ظاهرة الرِّقّ العالمية، فقد لعب الاستعمار الغربي دوراً في الاتّجار بالعبيد مثله في القارّات الأُخرى، وهذا ما يُضيء تفاصيله الباحث الهندي فينيل بول في كتابه “نظام الرِّق في كيرالا: تاريخه المجهول”، الصادر باللغة المالايالامية، عن منشورات “دي سي بوكس”، في 245 صفحة.
كان للرِّقّ في شبه القارّة الهندية وجهان، وجهٌ ممّا يتشكّل من الطبقات القائمة في المجتمع الهندوسي آنذاك، ونظام الطبقات حسب المعتقدات الهندوسية مشروعٌ إلهياً، وغير قابل للتغيير، وبالتالي المنبوذون في الطبقات السُّفلى أرقّاء تحت سُلطة الطبقات العُليا ولادةً؛ وآخر يتشكّل من الاستعباد عنوةً، أو من الأسرى الذين يُقبض عليهم في الحروب، ويُتاجَر بهم في سوق النخاسة فيما بعد.
يبحث فينيل بول، في هذا الكتاب، حالة نظام الرِّقّ وتجارة الرقيق في كيرالا بعهد ما بعد احتلال القوى الاستعمارية مثل البرتغال وهولندا وبريطانيا. ويتألّف العمل من قسمين، قسم ينظر في الفترة التي كانت تجارة الرِّقّ بها على قدم وساق بحيث يتم تصدير العبيد إلى خارج كيرالا. وهنا يُفنّد الباحث مزاعم بعض الكُتّاب الذين يفتخرون بـ”العهد الذهبي” الذي عاشت فيه هذه المنطقة خالية من نظام الرِّقّ، بينما كان رائجاً على نطاق واسع في سائر أنحاء العالم، ويُقدِّم الكاتب وثائق تاريخية تُثبت بطلان هذه المزاعم من أرشيفات الدول الأوروبية والأرشيفات المحلّية.
ويستهلّ حكاية الرِّقّ في كيرالا برسالة أرسلها العقيد كولينس، عام 1809، من مدينة كيب في جنوب أفريقيا إلى الدوق كياليتان عن عبد آبق يُدعى دايمن. كان عامل مزرعة في منطقة كوشين، إحدى القواعد الهولندية في كيرالا ذاك الوقت، وقد بيعَ إلى جنوب أفريقيا. هرب دايمن من مالكه إلى مكان بعيد وبنى فيه بيتاً من الأخشاب واستولى على فدّانَين من الأراضي وجعلهما مزرعة، ولكن أُلقي القبض عليه فيما بعد. كان قوِيّاً وشُجاعاً بحسب ما يصفه العقيد كولينس في رسالته. وأخيراً أطلق عام 1810 فبنى بيتاً في منطقة جورج بجنوب أفريقيا وعاش مع عائلته هناك حتى مات. وهكذا قامت الشركات الفرنسية والهولندية، كما نقرأ في الفصل الأول من هذا الكتاب، بتصدير مئات من العبيد من كيرالا إلى مستعمراتهم في الدول الأفريقية مثل جنوب أفريقيا وموريشيوس وفيجي.
لكن، هل كان الرِّقّ وتجارته في الهند بما فيه كيرالا من مساهمات الاستعمار الأوروبي؟
هناك من يزعم أن الديانة الهندوسية لم تعترف بنظام الرِّقّ، وقد ردّ على هذا القول باني الدستور الهندي، بيمراو رامجي أمبيدكار (1891 – 1956)، بأنه عارٍ عن الصحّة، لأن الفقيه الهندوسي مانو، وفقهاء آخرين في العهد الكلاسيكي قد اعترفوا به وشكّلوا له أُطراً من النُّظُم، إذ كان راسخ الجذور في الهند، إلى أن حظرته بريطانيا عام 1843. ولكن الإنكليز لم يتخلّفوا بدورهم عن استغلال قوّة العبيد البدنية الرخيصة، فالكثير من عمّال “حديقة القرفة” بمنطقة آنجاراكاندي في كيرالا، التي كان يمتلكها رجل إنكليزي، كانوا من العبيد.
كذلك من يقرأ رواية “كانتارافو” للروائي رجا رافو، لا تخفى عليه الحالة المرعبة التي واجهها العمّال العبيد في حدائق الشاي بأودية “باتشيما جهاتها”. من تلك المشاهد فارسٌ إنكليزي يأتي إلى تلك الحدائق، ويرى فتاة جميلة، فينقضّ عليها ويجرّها إليه أمام مرأى الناس ليغتتصبها علناً بدون حياء. ومثلها الرواية التاريخية المشهورة “الشاي الأحمر” لـ”بال هارس دانييل”، تصوّر أيضاً مآسي حياة العمّال العبيد في حدائق الشاي بولاية آسام. كان صاحب الرواية طبيباً مُشرِفاً في تلك الحدائق بين عامَي 1941 و1965. ولذلك كانت روايته مبنيّة على تجارب حياته الشخصية بين هؤلاء البؤساء. ليست هذه الرواية مجرّد خيال. إنها عملٌ إبداعي كان صاحبه يستهدف من خلاله الكشف عن الحقائق المُرّة من معاملة الأوروبيّين مع هؤلاء العمّال العبيد.
وحالة العبيد في البلاد العربية تختلف، تماماً، عن هذه الحالات المأساوية والمعاملة السيّئة. لأن الإسلام قد أتى بتغييرات جذرية في نظام الرِّقّ. فقد اهتمّ، أولاً، بتحسين العلاقات بين العبيد ومالكيهم من خلال إرساء قواعد الإخاء بينهم، وطلب من المسلمين أن يخاطبوا “ما ملكت أيمانهم”، أخاً أو أختاً، بدلاً من عبد أو أَمَة. وجعل تحرير الرقبة باباً مفتوحاً إلى الجنّة كما جعله كفّارة لكثير من الأخطاء في أداء الفرائض الدينية، وغرامة عن الجرائم الصغيرة والكبيرة. حتى نرى الخليفة الثاني عمر بن الخطّاب يُعلن أنه لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً لعيّنه خليفة بعده. ويذكر طه حسين هذه الحكاية وأنّ أحداً قد لا يصدّقها لو وردت في مصادر أُخرى.
وقد شهد تاريخ الإسلام على نهوض قادة جيوش وملوك من بين العبيد، وثمّة دولة اشتهرت في الهند ومصر باسم الدولة المملوكية. ولتوفيق الحكيم مسرحية رائعة معنونة بـ”السلطان الحائر”، تدور مشاهدها حول أحد هؤلاء الملوك وتتناول موضوع الحرّية بأبعادها الفلسفية. ورواية “سيّدات القمر” للروائية العُمانية جوخة الحارثي، تحتوي أيضاً مقاطع تُصوّر حياة العبيد في بيت الشيخ سعيد والتاجر سليمان. وكان نظام الرِّقّ في حينه بمرحلته الأخيرة من الأُفول في الدول العربية. وبمقارنة الروايتين الإنكليزيّتين، آنِفَتي الذِّكر، مع هذين العملين، نستطيع أن نلاحظ الفرق البائن في ملامح حياة العبيد بالدول العربية وغير العربية.
وللوثائق الهولندية المحفوظة في أرشيف ولاية شيناي الهندية أهمّية خاصة في دراسة تاريخ الرِّقّ بكيرالا. فقبل خمس سنوات فحص الباحث شيراي راما داس تلك الوثائق، ليجد 1632 ملفّاً تحتوي زهاء ثلاثمئة ألف صفحة، يندرج فيها تاريخ الرِّقّ بكيرالا، خاصة في منطقة كوشين، والذي يمتدّ على 75 سنة. وتُثبت هذه الوثائق تجارة الرقيق التي جرت في عهد الاستعمار الهولندي في كوشين، وبيعهم في المزاد العلني، وتصديرهم عبر السُّفُن إلى الخارج بما فيه الدول الأفريقية. وفي رسالة كتبها الأب يعقوب كانتار معلومات شيّقة ومفيدة عن العبيد الذين تم تصديرهم إلى المستعمرات الهولندية من كيرالا. كثيرٌ منهم كانوا من طبقات الهندوس السُّفلى، قبل رحيلهم كان قد تم تبديل أسماء هؤلاء المنبوذين جميعاً إلى أسماء مسيحية. تُوجد في هذه الملفّات قائمة بأسماء المُشترين والبائعين وأسماء قبائلهم وأماكن إقامتهم. وكان لمَلك كوشين المعروف بـ”شاكتان تامبوران” دورٌ هامٌّ في هذه التجارة اللاإنسانية. وقد قامت الجامعات في هولندا بمسح هذه المجموعة من الوثائق الأثرية الثريّة على نفقتها الخاصة لحفظها في بنوكها الخاصة بالمعلومات.
وفي القسم الثاني من كتاب “نظام الرِّقّ في كيرالا”، يتناول المؤلف تفاصيل نشاطات الإرساليات في كيرالا وإنجازاتها في مجال التعليم بين العبيد والجهود المبذولة في ترقيتهم على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي. بعد فترة من وصول الإرساليات المسيحية ومحاولتها استبدال هؤلاء العبيد بادرت الدوائر الحكومية البريطانية، عام 1844، بإنشاء مؤسسات تعليمية لأولادها في مناطق كوزيكود وتالاشيري وبالاكاد، حيث كان كثير من عبيد الطبقات السُّفلى من الهندوس، وهكذا وجدت الإرساليات المُرافقة للاستعمار تربة خصبة في هؤلاء المنبوذين للتغلغُل بينهم بمبادئها الدينية.
أمّا الفصل الأخير فيُلقي الضوء على النصارى العبيد في المليبار البريطاني والنشاطات الإرساليّة ما بين عامي 1835 و1855.
* باحث ومترجم من الهند