قيل حتى الان الكثير في مناورات حزب الله التي وصفها قادته واعلامه بانها الاضخم في تاريخه.
اول القول هو ذلك الصادر عن الحزب نفسه وهو انها رسالة واضحة الى اسرائيل- التي كانت قامت بمناورات واسعة قبالة لبنان وفي الجولان المحتل- ان جهوزية الحزب كاملة وقدراته متعاظمة للرد على محاولتها تعويض تراجع قوتها الردعية خلال حرب تموز . وزاد بعض مسؤوليه في محاولة تجميلية ان المناورات رسالة تؤكد ان سلاح الحزب موجه الى الحدود وليس الى الداخل ولا الى زواريب السياسة الداخلية. فيما اشارت اوساط اخرى ان المناورات رسالة ايرانية الى اسرائيل بمخاطر اي هجوم على طهران بذريعة ملفها النووي و/او على دمشق بسبب ممانعتها للسياسات الاميركية وتحالفها الاستراتيجي مع ورثة الخميني خاصة بعد الغارة الاسرائيلية الغامضة في العمق السوري. بينما اوحى اخرون انها رسالة سورية حصرا الى واشنطن وباريس ودول اليونيفيل وكل العاملين على الملف اللبناني وعقدته الرئاسية انه لا يمكن تجاهل دمشق المتسببة الرئيسية بهذه العقدة ومسارها. كما لم يفت اكثر المراقبين الاشارة الى ان المناورات تشكل اعلانا مدوياعلى التنصل من القرار 1701 ومحاصرته هو الاوضح منذ اقراره وتوجيه رسالة الى الداخل تشدد على اعظمية قوة حزب الله مقارنة بقوى 14 اذار وعلى سعيه لاستعادة استخدام مفتاح الحرب والسلم على الحدود بعدما بدا لبعض الوقت ان القرار الاممي يعطل استخدامه.
خفف الرئيس السنيورة من صدقية وخطورة الاعلان عن المناورات بقوله انها لا تعدو محاكاة على الورق. بينما اكد نائب امين عام الحزب ان المناورات تمت وانما بدون سلاح وسارع اقرانه من نواب الحزب الى تبريرها فيما لو حدثت او صح حدوثها. وهكذا تبقى ملتبسة حقيقة المناورات/الاضخم/. هل استخدمت السلاح فعلا او المواهب /الكشفية/ تحت اشراف الامين العام /شخصيا/للتثبت من جهوزية الحزب وهل اكتفت باظهار السلاح شمالي الليطاني دون جنوبه. كما يبقى ملتبسا ذلك التهيؤ الذي قالت صحيفة الاخبار انه طال كل الوحدات والاسلحة والقدرات اللوجستيكية وصولا الى التثبت من قدرة سلاح الصواريخ على اصابة اهدافه بدقة /في كامل ارض فلسطين التاريخية/. بينما تقول اليونيفيل انها لم تلحظ شيئا بهذا المعنى وتعلق بعض الاجهزة الاسرائيلية بان العملية لا تتجاوز 3 بالمئة مما حكي عنها.
بالطبع قيل ويمكن ان يقال المزيد من التقديرات المتناقضة غالبا عن هذه المناورات. وبالتالي فمقاربتها تتطلب تقديمها في السياق الفعلي الذي صدرت عنه.
سياسة التبريرات المتقابلة
1-كان يمكن اعتبار اعلان شديد المبالغة عن مناورات محدودة مجرد اشكال اعلامي واخلاقي تكتيكي.
لكن طبيعة الطرف المعلن والظروف المحيطة بالاعلان تجعلان منه اكثر صلة بمرحلة جديدة في السياسة العامة للحزب منه الى تكتيكاته.
2-ان المناورات تشكل استئنافا موضوعيا لسياسة التبريرات المتقابلة والمتبادلة بين حزب الله
واسرائيل. ولعل ما كتبه الصحافي ابراهيم الامين من ان/المتابعة الدقيقة من قوات الاحتلال للمناورة قد تنتهي بقرار اعادة اعادة تكرار المناورات من جانب جيش العدو- الاخبار عدد 7نوفمبر/ مؤشر واضح على الية تبادل وتقابل التبريرات. وهي سياسة مؤداها العملي استدامة مناخ الساحة المفتوحة. ساحة عنوانها الجنوب ومداها الفعلي لبنان بمجمل حدوده ومجتمعه ومؤسساته ودوره. واذا كان بدا ممكنا لبعض الاطراف اثناء الاحتلالات والتوترات الاهلية الدامية والحروب الملبننة تظهير الحدود الساخنة بوصفها مشكلة موضعية يبدو الامر مستحيلا اليوم – فضلا عن كونه غير اخلاقي بالاساس- بعدما استكمل الانسحاب الاسرائيلي والتحرير /التحرير الكبير كما يسميه حزب الله/عام 2000 بانسحاب القوات السورية بعد انتفاضة الاستقلال عام 2005. وهما انسحابان اتاحا رغم كل التطورات التالية
اعادة صياغة حيز سياسي واهلي لبناني عام لا يمكن عزل اي مؤثر فيه ايا كانت وشائجه وعلائقه الخارجية عن نسيجه العام.
اقتطاع الحدود والدولة المتعذرة
3- تعني المناورات الاخيرة عودة الى منطق الحزب الذي ساد غداة الانسحاب الاسرائيلي وهو رغبته
باقتطاع حدود يشغلها طرفان مباشران الحزب نفسه واسرائيل يحبذ الحزب ان يتواجها في جبهة مفتوحة للمشاغلة والعمليات التحذيرية بدون قعر كائنة ما كانت هيئة الدولة في لبنان وكائنة ما كانت القرارات الدولية وما يتولد عنها من وجود لقوى معنية بتنفيذها. جبهة تبداء منظومة ذرائعها بتحرير اسرى وتنتهي بتحرير القدس وكامل التراب الفلسطيني وفق ادبيات الحزب. جبهة دامية حينا وكامنة غالبا بفعل التدخل الاقليمي- الدولي ومراعاة وجود الدولة اللبنانية في تقديم صيغ انتقالية مواربة لتهدئتها دون اطفائها.
4- ان اقتطاع الحدود هو اقتطاع سياسي وليس جغرافيا وحسب. وفي دلالة وافية على ذلك امتدت المناورات كما قدمها الحزب نفسه الى شمالي الليطاني ومناطق من البقاع الغربي والضاحية واماكن اخرى. وبذلك تغدو اكثر من مجرد رد على مناورات اسرائيلية قبالة الحدود اللبنانية كان يفترض بالحكومة اللبنانية وقيادة القوات الدولية ومجلس الامن الرد عليها بوسائل ووفق منطوق القرارات والقانون الدوليين. وهي بذلك خطوة اضافية في سياق تراكمي لاقتطاع المعقل والهيمنة فيه وعبره.
وهو سياق ما انفك يتسارع منذ نهاية حرب تموز.
ويحمل الاقتطاع السياسي بهذا المعنى في طياته ليس فقط تعطيل الدولة الحالية بوصفه افقا لسياسة حزب الله وانما يتجاوز ذلك الى جعلها متعذرة مرتين. الاولى لتعذر التوفيق بين هذا الاقتطاع وبين البنيان
الدستوري السياسي الذي رسا عليه لبنان بعد عقود من الحروب المتناوبة.
والثانية لكون هذا الاقتطاع يجعل لبنان ساحة مستدامة السخونة عبر ربطه بصورة عضوية ومتزامنة بمحور اقليمي تقوده الجمهورية الاسلامية الايرانية وفق استرتيجية شاملة لاعادة تركيب الشرق الاوسط بوجه ما يقال عن اعادة تركيب اخرى تقوم بها واشنطن. دون نسيان ان اعادة التركيب الاميركية فقدت وتفقد فاعليتها وعملانيتها – وهذا ما تقوله اوساط الممانعة على اختلافها – بينما الاولى الاكثر ايديولوجية تعتبر نفسها في موضع الرابح والمتمكن والصاعد.
اشهار القوة ومصير القرار 1701
5- ان محتوى وكيفية الاعلان عن المناورات ايا كان حجمها الحقيقي لافتان. ففي تبرير الاعلان عن مناورات محدودة يقول مسؤولو الحزب ان ابقاء الجهوزية والقوة المتعاظمة في السر لم يعودا مناسبين وان تحذير اسرائيل ومتطلبات الحرب النفسية عليها وضرورة ردعها امور صارت تتطلب المزيد من الاشهار والاعلان عن قوة الحزب. والحال ان اسرائيل قالت دائما – وجعلت ذلك من ذرائع مناوراتها –ان حزب الله يدعم منذ حرب تموز تسلحه واعداده من خلال الامداد الايراني عبر سوريا وحتى من سوريا مباشرة لاسلحة صاروخية بعينها. ومثل هذا التقييم ورد ايضا في تقارير الامم المتحدة حول تطبيق القرارين 1701 و 1559. ومن هذا المنطلق لا تقدم المناورات جديدا في المعلومات بينما يقع الجديد الفعلي في استخدام الجهر بما تعرفه اسرائيل وسواها لارساء تجاهل مادي واعلامي معلن لكون حماية الجنوب وحفظ الهدنة والرد على الخروقات الاسرائيلية الجوية قضايا منوطة اساسا بالقوات الدولية والجيش اللبناني وبالوسائل المعينة في القرار الدولي فضلا عن الوسائل السياسية للحكومة اللبنانية. وبذلك فالتخلي عن السرية كسياسة جديدة يتحدث عنها الحزب يغدو واقعيا تركا لاخر موجبات احترامه الشكلي للقرار 1701. ولا يقلل من خطورة هذا الامر قوله ان المناورات تمت بدون سلاح وبدون لباس عسكري.
6- ان ترك حزب الله لاخرمظاهر تقيده الشكلي بالقرار 1701 – لجهة النشاط العسكري في جنوب الليطاني حتى لو صح انه تم افتراضيا -عنصر جديد يدخل بقوة ليس على اجندة صراعات المنطقة وحسب وانما خصوصا على الذي يثيره الاستحقاق الرئاسي في لبنان. فهو مع رفض القرار 1559 يشكل جزءا رئيسيا من برنامج الحزب وحلفائه في هذا الاستحقاق. وفي هذا السياق تندرج المناورات ضمن وسائل فرض قطبية حزب الله-اسرائيل على الحدود وتهميش دور الجيش واليونيفيل على الرئيس العتيد. انها بهذا المعنى مناورات استباقية تمس الداخل والدولة اللبنانين اولا وقبل كل شيء.
في حاجة الحزب الى دولة مدجنة
7- حتى حرب تموز واقرار ال1701كان يغلب الاعتقاد ان جل ما يريده حزب الله هو السماح بحرية حركته في العمليات التذكيرية والحفاظ على بنيانه العسكري-السياسي وهيمنته على معقله الى ان تجد الصراعات الكبرى في المنطقة طريقها الى الحل. وهو التصور الذي يقترب من التعبير الشائع عن الدويلة داخل الدولة الذي لا يلغي وفق البعض امكانية التعايش خلال مرحلة انتقالية يفترض اختتامها بتمكن الدولة من القيام بتقديم الضمانات للحزب ولعب الادوار التنموية والرعائية والدفاعية المنسوبة اليه وادخال تغييرات ملائمة على نظام التمثيل والادارة. لكن هذا الاستشراف التفاؤلي يصطدم –وهو اصطدام يبدو اكثر جلاء الان- بحقيقتين. الاولى ان هذا الاستشراف لا يملك وسائل تحقيقه. اذ يبدو غير واقعي مقارنة ما كان متعارفا عليه من /زهد/لحزب الله بالسلطة ومكاسبها ولعبها الظاهرة ورضى خفيص النقد بقواعدها زمن الوصاية السورية بوضعيته اليوم بعد خروجها. فهذه الوصاية كانت تشكل سوبر- سلطة تحدد سقفا وتشكل ناظما لطموحات حزب الله ولبنيته ايضا في نطاق سياستها. والثانية انه مع نهاية الوصاية السورية وعندما بدا سياسيا انه يمكن للدولة ان تتخذ هيئة حقيقية عبر مؤسساتها وان تطورها يمكن ان يخفف الهيمنة على المعقل ابتداء حزب الله هجوما سياسيا شاملا بالتحالف الوثيق مع سلطة الوصاية ومختلف حلفائها في لبنان. وهو هجوم ارفقه باستعداد عسكري وامني كبير وبعملية تموز- التذكيرية من جانبه- وبسيطرة متزايدة على المعقل سهلتها اخطاء قوى 14 اذار القادمة من افاق مختلفة والتي صاغت تحالفها بشكل متسارع تحت ضغط احداث درامية متلاحقة وخسرت شقها العوني غداة الخروج السوري مكتفية بممارسة نصف سلطة تعطلت بدورها بعد بدء حزب الله هجومه السياسي التصاعدي في اعقاب اقرار طلب المحكمة الدولية .
واذا كان واضحا اليوم ان شروط مباشرة مرحلة انتقالية لم تتوفر وانه لا يمكن اعادة التاريخ الى نقطة
بدء انقضت فان ما كان ممكنا تحقيقه سابقا من استغراق تدريجي للدويلة بدولة رعائية حامية اصبح اكثر صعوبة اليوم. والاعلان عن مناورات ضخمة حتى لو لم تكن كذلك هو تذكير جديد بهذه الحقيقة ضمن سياق تهميش قوى الدولة الرسمية وقرارات ونتائج كل الدعم العربي والدولي لها. وهو تهميش
لم يعد ممكنا ان يكون هدفه مجرد الحفاظ على المعقل والدور الذي ينطبق على مرحلة سابقة. فهو يتجاوز ذلك الى اعلاء الدويلة على الدولة وتدجينها واستغراقها. اذ ان الحزب بحاجة الى دولة رسمية تؤمن له التغطية السياسية والادارية والدولتية في كل محطاته. وافضل دولة لذلك هي التي تؤمن واجهة من التعدد الطائفي المدجن والمندرج ضمن ضمن الهيمنة الايديولوجية والسياسية للحزب بما يقترب من محتوى
الجبهات الوطنية القومية في الديكتاتوريات العربية وتلك الشعبية في بعض بلدان الشيوعية السالفة. ونظرة واحدة الى تحالف المعارضة اليوم تكفي للتحقق من ترجيح هذه الفكرة. فعدا العامل العوني غير المستقر وان كان صار صعب الانفكاك عن هذا التحالف تبدو المكونات الاخرى واعدة بقوة. ولا يصح القول ان هذا الاحتمال مستحيل لاعتياد لبنان التعددية ولطائفيته. فالتحالفات تبداء كما لو انها توحي بالتعددية الفعلية ثم سرعان ما تنطلق ديناميات اخرى لا تحفظ في موقع السلطة والتسلط الفعليين الا القلب اذا كان هو الايديولوجي والمتماسك والاقوى وصاحب الهيمنة والمشروع الاصلي والاكثر شعبية في التحالف. لن يحدث ذلك غدا ولكنه اتجاه اسسه موجودة وتصبح مطروحة بين ممكنات عديدة في سياق عملية تاريخية.
ضمن هذا التوصيف وبالصلة مع مناورات حزب الله وابعادها وفي لحظة الاستحقاق الرئاسي يصبح التساؤل المطروح على قوى 14 اذار وهيئات المجتمع المدني هو ذلك المتعلق بقدرتها على الانتقال من سياسات رد الفعل الى صياغة برنامج مرحلي حقيقي يقود الى استئناف تثبيت مكونات الاستقلال وتوسيع الديموقراطية واقرار اسس دولة الرعاية والتحديث والاصلاح وتجاوز الطائفية. اذ ان الاستحقاق الرئاسي اذا تم لن يكون الا محطة غير قطعية في كافة الملفات. اما اذا لم يتم او تم بغالبية محدودة وتوتر سياسي شديد فالحاجة الى مثل هذا البرنامج تغدو مضاعفة.