إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
(سينشر “الشفّاف” سلسلة ترجمات حول “أصول” الموجة “المحافظة” أو “اليمينية” أو “الشعبوية” التي بدأت في أوروبا (ربما في النمسا، في القرن الماضي) قبل أن تصل إلى إيطاليا (حركة “الخمس نجوم” في 2009) وهنغاريا وبريطانيا وإيطاليا مجدداً، وألمانيا، وطبعاً الولايات المتحدة مع الرئيس المُكرّر ّ”دونالد ترامب”. لا ترمي السلسة إلى ترويج الفكر الشعبوي، أو إلى تهشيمه، بل إلى عَرضِه وشرحِه بقدر معقول من الموضوعية. وهذا ما يتميّز به “الشفاف”، وحده، بين المواقع العربية!
المقال الأول الذي قمنا بترجمته نقلاً عن جريدة “الفيغارو” يميل بوضوح إلى أفكار المفكّر البريطاني الراحل “روجير سكروتون”. نترك لقراء “الشفاف” أن يستخدموا حِسّهم النقدي (وأن يوافونا بتعليقاتهم) لتقييم الأفكار والسياسيين الذي سيوثرون حتماً في حياتهم. خصوصاً أن الموجة الشعبوية الحالية ترتبط بصورة وثيقة بالهجرة الإسلامية والعربية المتزايدة إلى أوروبا والولايات المتحدة).
بيار عقل
*
خاص بـ”الشفاف”
منذ خمس سنوات، رحل الفيلسوف البريطاني “روجير سكروتون” (Roger Scruton) بسبب مرض السرطان الذي أودى به بسرعة. كان “روجير سكروتون” ناقدًا للتعددية الثقافية (= المساواة بين الثقافات)، ومدافعًا عن “الأمة” و”التقاليد” ضد غرور “التفكيك” الفلسفي والأدبي، ولا يزال يُلهم العديد من القادة المحافظين في أوروبا.
في 3 ديسمبر 2019، قام رئيس الوزراء فيكتور أوربان بزيارة إلى سفارة المجر في لندن لتكريم “روجير سكروتون” ومنحه وسام الاستحقاق الوطني، وهو أعلى وسام في بلاده. ظهر “سكروتون”، الذي كان يعاني من السرطان، على كرسي متحرك وعيناه مغرورقتان بالدموع، وقد فَقدَ شعره الأشقر الذي دمره العلاج الكيميائي. بعد أقل من شهر، في 12 يناير 2020، توفي “روجير سكروتون” إثر المرض. وأثنى “أوربان”، الذي كان بات معزولاً ضمن المجموعة الأوروبية، على الفيلسوف البريطاني قائلًا: “كما تعلمنا من أستاذنا المحبوب، فإن المحافظين ليسوا إيديولوجيين: بل هم اللِقاح ضد الإيديولوجيا.”
كان “سكروتون” و”أوربان” يعرفان بعضهما منذ فترة طويلة، حيث التقيا لأول مرة في عام 1987 عندما كان “أوربان” زعيمًا شابًا للمعارضة الليبرالية. بعد سقوط الستار الحديدي، وصل “أوربان” إلى السلطة، استمر “سكروتون” في الحفاظ على علاقاته الوثيقة مع هنغاريا، حيث كان يزور “بودابست” بشكل منتظم لإلقاء محاضرات. أصبحت المجر وطنًا للفكر “السكروتوني”. حتى أن هناك في بودابست مقهى يُسمى باسم”روجير سكروتون”. وفي جوه الهادئ والمريح، حيث تزين الجدران اقتباسات من الفيلسوف المحافظ، يجتمع شباب “المركز السكروتوني المجري” لترويج أفكاره.
كثيراً ما يستشهد “أوربان” بكتابات “سكروتون” في خطاباته. وقال في إحدى المرات: “كما تعلمنا من سكروتون، فإنم جَمالَ مدننا ليس مجرد مسألة ذوق شخصي، بل هو نتيجة لَحُكم جَمالي جَماعي تم تطويره على مرّ الزمن.” في فيلمه الوثائقي “لماذا الجَمال مُهِم” (Why Beauty Matters)، يشرح “سكروتون” كيف أن “الجَمال” حاجة إنسانية أساسية يتم تجاهلها من قبل العمارة المعاصرة. إن “مشروع تجديد “حي قصر بودا” في هنغاريا نموذج مناسب”، حسب خطاب لـ”أوربانّ” في مارس 2023. وهكذا، قرّر رئيس حكومة هنغاريا إعادة بناء أو ترميم الحيّ الذي كان رائعاً في عقود سابقاً قبل أن تدمّره عمليات القصف في الحرب العالمية الثانية.
وقد أعجب أوربان بالشبه بين سكروتون والروسي سولجينستين، أي بقدرة سكروتون على نقد الشيوعية ولكن دون أن يركب موجة الليبرالية الحديثة: “بينما كان السوفييت لا يزالون يحتلون وسط وشرق أوروبا، ساعدنا في محاربة الشيوعية. لكنه أيضًا لم يدعم بشكل أعمى فكرة المجتمعات المفتوحة؛ كان واعيًا بما يكفي لرؤية عيوبها وتحذيرنا من مخاطرها.”
يحلل المفكر المحافظ الأمريكي رود درير (Rod Dreher)، الذي يعيش في بودابست، وكان يعرف سكروتون جيدًا، التوافقات بين فكر سكروتون وأوربان: “بسبب وجوده في باريس أثناء انتفاضة الطلاب في عام 1968، فقد مال سكروتون نحو اليمين. ورأى أن الطلاب الراديكاليين كانوا إيديولوجيين مستعدين لتدمير الثقافة الفرنسية والأوروبية من أجل أفكار مجردة. وهذا ينطبق أيضًا على ما يحاول الاتحاد الأوروبي فرضه على هنغاريا.”
ويُعجَبُ أوربان، كذلك، بسكروتون “المنبوذ”، وهو ما جعله قريبًا من تجربته الشخصية. ويشير بفخر إلى أن سكروتون تم “استبعاده من مجالين: من تشيكوسلوفاكيا الشيوعية ومن الجامعات الغربية”.
في بريطانيا، لم يُحظَ سكروتون بالتقدير الذي كان يستحقه. فقد أثّر في بعض الأشخاص، لكنه لم يكن يحظى بتقدير في الميدان السياسي. “في بريطانيا، كان يُعتبر شخصًا مثيرًا للجدل. كان يدافع عن المحافظين، لكنهم لم يكونوا مدافعين عنه”، كما تشير صديقته الفيلسوفة الفرنسية لايتيسيا ستراوش-بونار (Laetitia Strauch-Bonart).
وبعد وفاته، أشاد به بوريس جونسون، رئيس الوزراء البريطاني في ذلك الوقت، عبر تغريدة مؤثرة: “إرقد بسلام، لقد خسرنا أعظم المفكرين المحافظين المعاصرين، فقد أظهر دائمًا شجاعة في التعبير عن آرائه بأسلوب رائع.” لكن عند جنازته، باستثناء فيكتور أوربان، كان السياسي الوحيد الذي حضر هو وزير التعليم السابق “مايكل غوف”. لا يوجد أحد يُعتبر نبيًا في بلاده.
قبل وفاته، كان سكروتون هدفًا لحملة إعلامية شريرة نظمها الإعلام اليساري، حيث تناول الصحفي جورج إيتون (George Eaton) تصريحات مُجتزـأة من مقابلة معه، واتهمه بالتحريض على العنصرية. ونشرَ جورج إيتون تغريدات تتضمن أقوالاً مجتزأة لسكروتون مثل العداء للإسلام “تهمة اخترعها الإخوان المسلمون لردع أي نقد لموضوع رئيسي في يومنا”؛ و”كل من يُنكِر أن إمبراطورية جورج سوروس (الملياردير الهنغاري المناوئ لأوربان) موجودة فعلاً في هنغاريا هو جاهل بالوقائع”؛ و”الهنغاريون مذعورون للغاية من الغزوة المفاجئة لقبائل المسلمين”؛ و”كل صيني هو نسخة مطابقة لأي صيني آخر”. واشتعلت وسائل التواصل الإجتماعي بعد نشر تلك التغريدات المجتزأة.
طالبت نواب حزب العمال بإقالة سكروتون، الذي كان يشغل دورًا رسميًا في لجنة ّ”بناء الأفضل، بناء الأجمل”، وهي لجنة استشارية تطوعية لتطوير المساكن والمنازل بشكل أكثر جمالية. قام وزير الإسكان، جيمس بروكنشاير، بفصله على الفور، دون أن يطلع على المقابلة كاملة.
أما الصحفي جورج إيتون، فقد نشر صورة له على إنستغرام وهو يشرب الشمبانيا مع تعليق انتصاري: “الشعور الذي شعرت به عندما تم طرد روجر سكروتون، العنصري والمعادي للمثليين وممثل اليمين المتطرف، من منصبه كمستشار للحكومة المحافظة”. كما هو واضح،
لكن بفضل إصرار الصحفي المحافظ، دوغلاس موراي (Douglas Murray)، تم نشر المقابلة كاملة في النهاية. وتبين أن تصريحات سكروتون قد تم تحريفها وإخراجها من سياقها. وفي النهاية اعتذرت صحيفة “نيو ستيتسمان”، وكذلك وزير الإسكان بروكنشاير؛ وأعادت تيريزا ماي سكروتون إلى اللجنة. ولكن كان الأذى قد وقع، وكثير من مقربيه يرون أن السرطان الذي أصابه بعد بضعة أسابيع من الجدل كان نتيجة لتلك الإساءة شرفه. ولم تكن فقط يد فيكتور أوربان التي منحته ميدالية الاستحقاق: فقد تم تكريمه أيضًا من قبل الرئيس التشيكي “فاكلاف هافيل” في عام 1998، والرئيس البولندي “أندريه دودا” في 2019.
إذا كان روجر سكروتون قد أثر في العديد من المفكرين في البلدان السابقة الشيوعية، فإنه أيضًا يُقرأ ويُعترف به من قبل المحافظين الأمريكيين. وقد استقبلته مؤسسة هيريتيج (Heritage) النافذة في أكتوبر 2018، وهي المؤسسة التي أنتجت مشروع 2025 الشهير الذي يقال إنه ألهم حملة ترامب.
على الرغم من أن سكروتون قد حلل بمهارة فوز ترامب في 2016 على أنه هزيمة للنظام الليبرالي الذي كان ينكر باستمرار تطلعات الشعوب إلى السيادة، إلا أن الزعيم الشعبوي ذي الشعر البرتقالي لم يكن يطابق ذوقه كثيراً. “كان لدى سكروتون شيء فكري وطبقي جدًا، ولم يعجبه الجانب السوقي والشعبوي لدونالد ترامب”، كما تقول لايتيشيا ستراوش-بونار. “كان هناك توتر بين حبه للثقافة وكون بعض القادة الشعبويين ضد النخب.”
بعيدًا عن كونه نبيًا للنحس أو عاشقًا للخراب، كان سكروتون محافظًا سعيدًا، يعتقد أنه من المهذب أن يرفق “الأخبار السيئة ببعض الأمل”. وتقول الفيلسوقة الفرنسية: “نظرياً، فإن رئيسة حكومة إيطاليا، “جورجيا ميلوني” هي الأقرب إليه”. “إنها محافظة أكثر من كونها شعبوية.” وقد جعلت القائدة الإيطالية منه مرشدًا فكريًا لها، إلى جانب جي. آر. تولكين (J.R. Tol kien). “إذا كنت سأذكر أحد المفكرين الذين ساهموا أكثر في رؤيتي في السنوات الأخيرة، فسأذكر اسم سيد الفكر المحافظ البريطاني: سير روجر سكروتون”، كتبت ميلوني في سيرتها الذاتية، Io Sono Giorgia. “لقد عرفته متأخرة جدًا”، قبل بضع سنوات من وفاته بفضل حزب المحافظين والإصلاحيين الأوروبيين (ECR). وأضافت: “لا يوجد حزب يمكنه أن يعرف نفسه على أنه يميني في الغرب ولا يدين بشيء لسكروتون.” وذكرت تعريفه للمحافظة: “المحافظون يتبنون رؤية المجتمع التي وضعها “بيرك” (Burke)، الذي كان يراها كتحالف بين الأحياء، والأموات، وغير المولودين؛ هم يؤمنون بالعلاقة المدنية بين الجيران بدلاً من تدخل الدولة؛ ويعترفون بأن أهم شيء يمكن أن يفعله الإنسان هو أن يستقر، ويبني منزلًا، ثم ينقله إلى أبنائه. حب الوطن، هو أساس القضية البيئية، ومن المدهش أن العديد من الأحزاب المحافظة حول العالم لم تأخذ هذه القضية على محمل الجد.”
كان روجر سكروتون واحدًا من المفكرين القلائل في اليمين الذين ربطوا مباشرة القضية البيئية بالمُحافَظة. وفي الذكرى الأولى لوفاته، في عام 2021، صرحت ميلوني بأنها “كانت تهدف إلى نشر سكروتون كأحد أعمدة المحافظة الأوروبية” و”تقديم تحية مستحقة له”، ولكن “الأهم من ذلك هو التأكد من أن السياسيين الشباب المحافظين سيستلهمون رؤيته.”
ماذا عن فرنسا؟ كان روجر سكروتون يُعجب بشكل خاص بفرنسا، لا سيما بالدور الفريد الذي لعبه المثقفون هناك، على عكس المملكة المتحدة حيث تكون التجريدات الفكرية أقل استماعًا، سواء للأفضل أو الأسوأ. وقد اقتبست “ماريون مارشال” في عدة مناسبات مفكر المفكر البريطاني في خطبها. لكن أكبر قارئ لروجير سكروتون في الطبقة السياسية الفرنسية هو وزير الداخلية الحالي “برونو ريتايّو”.
يؤكد وزير الداخلية أنه قرأ جميع أعماله. “بعد أن قرأتها، حظيت بفرصة لقاء روجر سكروتون في إطار مقابلة مشتركة نظمتها جريدة “لو فيغارو”. هذا العقل المرهف والمستقل أظهر بشكل رائع أنه، بعيد عن الكاريكاتير اليساري للمحافظة، فإن هذه الفلسفة ليست أيديولوجية على الإطلاق، بل تقوم على تعقيد الواقع وهشاشة الحالة البشرية”، كما يقول من يفتخر، وهو أمر نادر في فرنسا، بصفة “المحافظ.”
كانت قناعات روجر سكروتون، المستندة إلى تعقيد الواقع، بسيطة للغاية في جوهرها. كانت تتمتع بوضوح الفلسفة التي تعتمد على الفطرة السليمة أكثر من بناءات نظرية معقدة: القناعة بأن الأفراد ليسوا مجرد وحدات قابلة للتبادل، وأن هناك جزءًا غير مختار من الوجود يجب علينا قبوله، وهو التراث الذي يجب أن يلهمنا شعورًا عميقًا بالامتنان. وأن حب الوطن هو أساس كل مجتمع بشري. وبالتالي، فإن التعددية الثقافية، التي تُعتبر شكلًا مناهضًا للثقافة، هي تجريدية ومعيقة. وأن الحضارة هي تراكم بطيء ومنظم لطبقات متعاقبة، هشة وثمينة في آن واحد.
وأنه من الأسهل أن تدمر من أن تبني.
(المولفة بالفرنسية: أوجيني باستييه”)