علاقة التيارات السياسية الإسلامية بمنابرها من مساجد ومآتم علاقة مركبة تنبثق من جزئية فكرية أوسع تتمثل في التزواج المطلق بين الدين والسياسية، فالمنبر له دور – بحسب نهج تلك التيارات – في التوعية السياسية والحشد لصالحها، بل يتعداه للحفاظ على شارعها وتوسيع قاعدتها، فعملها ونشاطها وأيدلوجياتها لا تخرج عن منظومة الشرعية.
غير أن الإشكالية التي تواجه التيارات الإسلامية هي الحاجة في كثير من الأحيان إلى المناورة السياسية حسب ما تتطلبه حالة الصراع، مما يخرجها عن النهج المثالي الذي تسعى للوصول إليه.. هذا ما كان محل انتقاد من قبل مجموعة من القوى السياسية التي ترى ضرورة الفصل بين العمل السياسي والدين حفاظا عليه من جهة وعلى وعي الجماهير من جهة أخرى من خلط الأوراق في متخيلها فتصبح غير مدركة بين ما هو واجب شرعي وما هو عمل سياسي قابل للاختيار.
على أرض الواقع تدور جميع ممارسات الجمعيات السياسية الإسلامية حول قطب واحد وهو الدين، لذلك نجد أن جميع المنابر والمآتم لا تخلوا من التطرق إلى القضايا السياسية لتكون تلك المنابر جزء من صراع المعارضة والموالاة والعلمانية، ورغم أن قانون الجميعات السياسية قد منع استخدام دور العبادة في ممارسة النشاطات السياسية، إلا أن ذلك لم يكن قيدا يعرقل عمل تلك التيارات.
وفي الآونة الاخيرة، انبثق خلاف بين جمعية الوفاق وأمل من جهة، وبين وزارة العدل من جهة، والتي رفضت أن تعقد انتخابات الجمعية العمومية للجميعات في المآتم، وهذا ما كان يعطي مؤشرا بأن السلطة بدأت تلتفت إلى ما تمارسه الجمعيات الإسلامية من دور سياسي من خلال منابرها الدينية. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، وانطلاقا من الرغبة في تحليل الواقع السياسي، ماذا تعني المنابر الدينية للجمعيات السياسية الإسلامية؟ ،وهل وجود واستمرار كيان تلك الأخيرة مرهونا بنشاطا من خلال تلك المنابر؟، وماذا يعني تحرك السلطة في الآونة الأخيرة أهو إدراك أم مناروة سياسية؟
”الوطن” استطلعت آراء عدد من المحللين السياسين وبعض أطراف الجمعيات السياسية الإسلامية لتكون حصيلتها هذا التحقيق.
الباحث السياسي والمحاضر الأكاديمي في الدراسات الآسيوية د. عبدالله المدني يرى أن دور العبادة تعني الكثير بل الكثير جدا لتيار الإسلام السياسي بشقيه، فهو يؤمن له تواصلا يوميا مستمرا مع مناصريه، الأمر الذي تفتقده التيارات السياسية الأخرى، وأدرك تيار الإسلام السياسي وفي مقدمته الإخوان المسلمون هذه الحقيقة فركزوا عليها، وقاوموا كل السبل والمحاولات ومشاريع القوانين الداعية إلى حظر استخدام هذه الأماكن للأنشطة والدعاية السياسية.
انتباه السلطة؟
السلطة - حسب تعبير د.المدني- لتوها بدأت تستوعب مدى خطورة استخدام دور العبادة في التعبئة السياسية، ويضيف:”جميل أن تدرك السلطة، ولو متأخرا، الأخطار الجسيمة والفادحة لترك الحبل على الغارب، أو التساهل في تطبيق القانون حيال المخالفين والمحرضين على عدم الامتثال للقانون في ما خص مسألة استخدام دور العبادة للأغراض السياسية، أيا كانت صفاتهم أو مرجعياتهم أو مذاهبهم. وفي اعتقادي أن السلطة تنبهت أخيرا إلى أن أمورا كثيرة من تلك المهيجة للشارع أو المحرضة ضد القانون والنظام أو الموجهة ضد أرواح الأبرياء يتم التخطيط لها داخل مآتم بعينها، ومن قبل مجموعة شاذة من المواطنين بعينهم، هذا رغم أن التيار السياسي الديمقراطي الليبرالي قد حذر مرارا وتكرارا من هذه الأمور، انطلاقا من خوفه على الوطن وسلامة المواطنين وضمانا للاستقرار والأمن اللذين لا يعرف قيمتهما إلا من عاش في مناطق الاضطراب والدمار والجوع والفقر والدم”.
وحول تطبيق قانون الجمعيات السياسية على تلك الجمعيات والذي يمنع استخدام دور العبادة في ممارسة الأنشطة السياسية؟
يجيب د.المدني: ”هذا الأمر يعود إلى الجمعيات السياسية المعنية ومدى نضجها وقوتها على الساحة. فالقوى السياسية الضعيفة والمفتتة ذات الشعبية المشكوك فيها، هي التي تلجأ إلى كل الوسائل - المشروعة وغير المشروعة – من أجل التحشيد السياسي. وفي البلاد العربية، وعلى الأخص منطقة الخليج المعروفة بتقاليدها المحافظة، بات شائعا اللجوء إلى الدين من أجل التحشيد السياسي، بل وإلصاق كلمة إسلامي بكل شيء.
وفي ظل سيطرة التيارات الإسلامية على الواقع السياسي، هل يمكن منعها من استخدام دور العبادة خصوصا في ظل الاحتقان الطائفي؟
يقول د. المدني: ”كي لا تضيع هيبة الدولة والنظام، يجب أن توضح الحكومة للجميع ودون مؤاربة أو خشية، أنه طالما نبذنا الدولة الفقهية الشمولية و توافقنا على الدولة المدنية العصرية التي من معالمها القانون والمؤسسات الدستورية، والجمعيات السياسية الشبيهة بالأحزاب من حيث خوضها للانتخابات وتمثيلها في البرلمان وحصولها على مخصصات مالية، فان على الجميع كائنا من كان الخضوع للقانون تحت طائلة إيقاع العقوبة بحقه، و إلا الرجوع إلى المحكمة الدستورية مثلما تفعل الأمم الديمقراطية المتقدمة في حالات وجود اختلاف في تفسير النصوص الدستورية”.
ويرى د. المدني أن المشكلة في البحرين أن السلطة تراخت طويلا في فرض هيبتها فتعاملت بطريقة ناعمة في عدد من الحالات، الأمر الذي فسره الطرف الآخر بالضعف والعجز فتمادى في مشاغباته وخرقه للقانون الواضح الذي يقول إن أتيت هكذا فعل فان عقوبتك ستكون كذا وكذا، ويضيف:” بطبيعة الحال، فانه سيخرج من يؤول كل خطوة رسمية على أنها خطوة تفوح منها رائحة الطائفية البغيضة، لكن في اعتقادي أن هذا يمكن مواجهته بطرح مبادرات رسمية متزامنة حيال قضايا أخرى وبما يعطي انطباعا مخالفا للطائفية”.