ثقافة الإرهاب: الجذور والثمار

5

يتأسس الإرهاب الفكري على نزعة أصولية قوامها التعامل مع الوجود من منطلق التمركز حول شخص أو حدث – واقعيّ أو مُتخيّـل- تتخذه معياراً للمعرفة، ودليلاً وحيداً للحقيقة. ومن ثم فلا مجال لاختبار صواب أو خطأ المعتقد. فالمطلوب هو العمل على تثبيته بكل الوسائل بما فيها استخدام القوة أو بالأقل التهديد بها ماديا ً ومعنويا ً . محاكم التفتيش في القرون الوسطي الأوربية نموذج للنوع الأول ، والماكارثية نموذجها الثاني ، أما النوع الثالث [ التهديد المعنوي ] فمشترك بين الأديان التي تنذر بعذاب الجحيم في الآخرة لمن يفكر ، مجرد تفكير ، في الخروج على النص .

وفي تاريخنا العربي الإسلامي مثال على الجمع بين تلك النماذج الثلاثة في وثيقة واحدة . . تلك هي الوثيقة التي أصدرها الخليفة ُ القائم العباسي ّ (1040 ميلادي = 433 هـ) بتقنينه ما أسماه أبوه الخليفة ُ القادر العقيدة َ الصحيحة، وبنودها : تكفير كل من لا يُسلـّم بأن كلام الله قديم وأن أفعال الإنسان مُـقدرة ٌ سلفاً، وأن المؤمن ليس له أن يسأل عن أسباب الله ، حتى وإن عاقب المحسن َ ونـّعم المسيء َ، حيث ” لا ُيسأل عما يفعل وهم ُيسألون”. وتقوم العقيدة الصحيحة أيضا ً على تكفير من يُقـَـِّدم الإمام عليّ بن أبي طالب على الشيخين، وتكفير تارك الصلاة، وإخراج الذي يتقوّل على عائشة من الملة، ونفي صفة المسلم عمن يجحد معاوية.. الخ، وهي – أي العقيدة الصحيحة – كما ترى حزمة ٌ مترابطة من الأفكار الدينية والسياسية غايتها توطيد دعائم السلطة ، والعصف بمعارضيها أيا كانت انتماءاتهم أو مشاربهم ، جنبا ً إلى جنب ترويع البسطاء ممن لا يعرفون الفروق بين الملل والنحل . وبهذا الديكرتو السلطويّ أمست الشيعة والمعتزلة والفلاسفة مارقين بنظر الدولة، فصار قتلهم وتعذيبهم ونفيهم أمراً شرعياً وقانونياً، وصار التهديد بتطبيق العقوبات على المراوحين بين الطاعة والعصيان مألوفا ً ، فضلا عن إلحاح شيوخ السلطة على مسامع العامة بما ينتظرهم من عذاب جهنم إن راودهم الشك في هذه العقيدة الصحيحة .

ولك أن تتصور كيف مضت حياة الناس العلمية والثقافية ومن قبلهما الحياة السياسية والاقتصادية لمائتي عام ونيف في ظل هذا الحال عليه حتى سقط ذلك الديكرتو المتشنج بسقوط الخلافة العباسية ذاتها عام 1258 ميلادي.

فهل انتهى بذلك عصر الإرهاب الفكري؟ كلا، وآية ذلك أن الأصولية ما لبثت حتى وجدت نصيرا ً لها في فكر الفقيه تقي الدين بن تيميه الدمشقي المتوفى عام 1328 ميلادي، وكان من فقهاء الحنابلة المتأخرين، فشدد النكير على الشيعة وعلماء الكلام والمتصوفة، وعارض ما أسماه “البدع” في كل أمر من أمور الدين والدنيا، ودعا إلى الأخذ بمرجعية واحدة هي القرآن والسنة حسب.. دون التفات منه إلى المتغيرات الحياتية المطردة ، والتي تتطلب الاجتهاد للموائمة بين غايات الشارع ، المفترض فيه ” الاطلاقية” ، وبين أنسقة العلم ومناهج العمل ، وجميعها إنسانية ونسبية.

وقد ظل فكر ابن تيميه هذا قابعاً كامنا ً لدى المريدين والأتباع إلى أن قـُـيـّدَ له أن يجد جماعة ً سياسية تروج له، وسلطة تتبناه ، وقد وقع ذلك بالتحالف بين محمد بن عبد الوهاب من شيوخ نجد، وبين زعيم من وسط الجزيرة العربية: محمد بن سعود (ت 1845 ميلادي) فكان أن ظهر التيار الوهابي، وظل قائماً – ثقافيا ً – رغم انكسار شوكته العسكرية أمام الجيش المصري بقيادة إبراهيم باشا ابن محمد علي الكبير.

كان لا بد أن يمر قرن ونصف قرن من الزمان، قبل أن يجد التيار الوهابي فرصته للثأر الثقافي من المصريين. وقد وجدها في كارثة حزيران 1967 حيث ضربت مصرَ الأزماتُ السياسية ُ والاقتصادية ُ، مما اضطرها للاعتماد على المملكة السعودية ماليا ً لإعادة بناء قواتها المسلحة، ومما اضطر أبناء شعبها الفقراء للتسابق زحفا ً على بطونهم للعمل بالمملكة تحت وطأة الحاجة الشديدة، فكان شرط قبولهم ثم بقائهم في أعمالهم أن يأخذوا بثقافة الوهابيين المتزمتة، وأن يتعايشوا معها إلى درجة التماهي. وحال عودة العائدين منهم إلى الوطن، لم يكن أمامهم من سبيل للانسلاخ عن هذه الثقافة، لا سيما وأن الدولة المدنية في مصر كانت قد بدأت هي الأخرى في التآكل لحساب أصولية داخلية، أفسح لها السادات المجال واسعاً للظهور وللنمو والانتشار ، بغرض تصفية الناصريين وضرب اليساريين. وهكذا انفتحت النوافذ أمام رياح العنف المادي والفكري كي تقتلع “السنبلة” المصرية من تربتها الطيبة، ولتغرس بدلاً منها ثقافة “البلطة” التي تبحث عن رأس تشجه.

لكن ثقافة أخرى كانت – ولا تزال – تعمل في مصر على تجاوز المحنة، ثقافة تؤمن بالإبداع، وتؤمن بأن مصر وإن ظلت في قلب العالم العربي والإسلامي، إلا أنها تعد نفسها جزء لا يتجزأ من حضارة الإنسانية بفروعها القديمة والحديثة، ومن ثم فلا مناص أمامها من الأخذ بأسباب التحديث: علوماً طبيعية وإنسانية. وفنوناً وآداباً، فضلاً عن ضرورة اقتحامها الموجة الثالثة الاقتصادية – بحد تعبير ألفن توفللر- التي هي بناء الاقتصاد على معطيات المعرفة العلمية.

كانت وزارة الثقافة المصرية -ولا تزال- تقود هذا التيار التحديثي باستشرافها لآفاق المستقبل ولعل قارئ ورقة العمل الثقافي التي قدمها الوزير فاروق حسني عام 1987 أن يكتشف ملامح إستراتيجية ثقافية مدهشة في تكاملها وفي قابليتها للتحقق ، فكان أن أنشئ المجلسُ الأعلى للثقافة ليضم 533 عضواً [من مختلف التيارات ] بلجانه المختلفة ليكونوا قاطرة تندفع بالعقل المصري إلى آفاق الإبداع في الفكر والعلوم الإنسانية والآداب .. وكان أن جرى ويجري تنفيذ مشروع القاهرة الكبرى وترميم أحياء الآثار الإسلامية والقبطية إضافة إلى الاكتشافات الأثرية المؤهلة في ميدان الحفائر للمصريات القديمة ، أضف إلى ذلك تطوير هيئة الكتاب التي أصدرت أعظم مشروع للقراءة مكتبة الأسرة ، كما تم بناء دار الأوبرا الجديدة والمتحف المصري الكبير علاوة على إقامة المئات من قصور الثقافة ومراكز الإبداع والمكتبات بكل محافظات مصر.

في هذا السياق سعى الوزير فاروق حسني بمبادرات تستهدف التطبيق العملي لرؤية العصر، والمتمثلة في إدماج الثقافة، باعتبارها رأس المال الرمزي للأمة ضمن المكوّن الاقتصادي للبلاد، بما يسمح لها بإنتاج القيمة Value والقيمة المضافة Added Value.
ذلك وغيره لم يكن مرضياً بالإطلاق للتيار الأصولي، بل على العكس كان حافزاً على أن يتصيد للرجل حين أبدى رأياً في مسألة ليست ركناً من أركان الدين الخمسة، ولا هي محل إجماع بالتأكيد. وبالمناسبة فإن الإجماع لم يعد حجة في أصول الفقه منذ رفضه الإمام “الباقلاني” كمسلك للعلة(كتاب التمهيد)، وأيده في ذلك “الشوكاني” قائلاً: إن المخالفين في القياس هم بعض الأمة فلا تتم دعوى الإجماع بدونهم (كتاب إرشاد الفحول إلى تحقيق علم الأصول).

ومن هنا فإن اتهام وزير الثقافة بمناوئة الدين الحنيف إنما كان اتهاما في غير موضع، فضلاً عن كونه أحد تجليات ثقافة الإرهاب الفكري الأصولي الوهابي القاصد إلى هدم كل إنجاز بحسبانه بدعة!

بيد أن المثير للتأمل حقاً، أن يلجأ هذا التيار لا إلى نقد الإنجاز الثقافي في حد ذاته، بل إلى الالتفاف حوله، والاندفاع إلى تصفية رمز من رموزه فكرياً وسياسياً بدعوى أنه أبدى رأياً مخالفاً (في قضية أرادوا لها أن ترتدي مسوح الدين، بينما هي محض اجتماعية) وهو رأي قد يصيب وقد يخطئ. والحق أن فاروق حسني لم يخطئ حين أبدى تخوفه من استقطاب الشعب إلى معسكرين عن طريق تعميم زيٍّ شبه ِ رسمي للمسلمين دون الأقباط. ولو حدث هذا – أي ارتدى كل ُّ جانب زيا ً خاصا ً به – لكان المصريون بذلك قد دقوا أول مسمار في نعش وحدتهم الوطنية.

يبقى بعد ذلك سؤال، ليت كل مصري – رجلاً كان أو امرأة- يطرحه على نفسه: ترى هل أنا راغب في اللحاق بركب المستقبل، ومن ثم أقبل بكل ما من شأنه أن يطورني علماً وفكراً وإنتاجاً، بما يعود عليّ وعلى أبنائي رخاء ً وثراء ً ؟ أم أنني سأظل متمسكاً بثقافة الجمود لكي تعيدني إلى عصر الخليفة القائم وابنه الخليفة القادر، فأراني وفي يدي بلطة، وفي يد غريمي –الذي صنعته بذاتي ولذاتي- سيف يدافع به عن نفسه؟!

Tahadyat_ thakafya@yahoo.com

* الإسكندرية

5 تعليقات
Newest
Oldest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
محمد عمر- مهندس مصرى مقيم بالمانيا
محمد عمر- مهندس مصرى مقيم بالمانيا
15 سنوات

ثقافة الإرهاب: الجذور والثمارمقالة الكاتب الكبير مهدى بندق هائلة ، وواضحة كالعادة , وأنا تعودت أن أقرأ ليس مقالاته فقط بل والتعليقات عليها , والحقيقة أن تعليق الكاتب الكبير الأستاذ الدكتور طارق حجي أعجبني بشدة ، لأنه أنصف الكاتب الأستاذ مهدى وأشاد بقدراته في العرض والتحليل , وفي نفس الوقت صحح له بعض التفاصيل أما تعليق الأخ الفنان التشكيلي: عقيل صالح بن اسحق موسكو ، المسلم حينا والعلماني حينا ، المعجب بالإتحاد السوفييتي السابق مرة والكاره له مرات ، والناقد لدول النفط العربي والمغازل لها في ذات الوقت ؛|هذا التعليق أتحدى أي مخلوق على سطح الأرض أن يشرح لنا ماذا… قراءة المزيد ..

عقيل صالح بن اسحاق -موسكو - فنان تشكيلي
عقيل صالح بن اسحاق -موسكو - فنان تشكيلي
15 سنوات

ثقافة الإرهاب: الجذور والثمارإن العداء بين السوفيت والسعودية كان عامل مهم في نشر كل مساوئ” آل سعود ” بشكل مدروس ومنظم, دقيق و مكثف. في نهاية الثمانينات صدر في موسكو كتاب ضخم جدا ما يقارب إلف صفحة, وردد فيه بكل دقة, كل المعلومات التي يمكن اعتمادها كوثائق تاريخية, لا غبار عليها من الصحة, لأنها حقيقة لا شك فيها إطلاقا من حيث ورود التواريخ والأرقام, و الإحداث ,لأنة هنا كان يوجد , جهاز ضخم و إمكانيات متوفرة لديهم في تلك الفترة المذكورة للقيام بهده الدراسة عن دور آل سعود في نشر إسلام مضر بالعرب والمسلمين مع بعض , ولكن مجرد إن… قراءة المزيد ..

د. طارق حجي
د. طارق حجي
15 سنوات

ثقافة الإرهاب: الجذور والثماربندق – . الأستاذ الكبير / مهدي.. طالعت بإعجاب لا حد له مقالكم الجديد عن الأصولية والمنشور على موقع شفاف وهو مقال عبقري فى تحليله يعكس زخما معرفيا وقدرة عظيمة على التحليل من منظور رؤية بالغة العمق والحكمة . وإسمح لي أن أصوب تاريخا ورد بالمقال البديع : الدولة السعودية الأولي تأسست (بحلف محمد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب ) سنة 1744 (وليس 1845) . وإنتهت هذه الدولة بعد 74 على يد إبراهيم باشا إبن محمد على باشا وكان على رأسها عند سقوطها عبد الله بن سعود … الدولة السعودية الثانية (والتى حكمت بالمشاركة مع آل… قراءة المزيد ..

هويدا
هويدا
15 سنوات

ثقافة الإرهاب: الجذور والثمار
متي نتخلص من هذه الثقافة ؟ أرهاب في الماضي وارهاب في الحاضر , ؟ والمصيبة أنهم لا يريدون أن يعترفوا بأنهم إرهابيون .

Fayed  Khal
Fayed Khal
15 سنوات

ثقافة الإرهاب: الجذور والثمار
How excellent essay is this one.
.I can , honosetly say I have never read such article before
Thanks very much to the distinguished writet Dr , Bondok , also to this special,great Site

Share.

اكتشاف المزيد من Middle East Transparent

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading