زلت لسان الشاب المشارك بمؤتمر الحوار الوطني ذات يوم بالقول انه وأسرته يحتفظون بثلاث دبابات في حوش دارهم بصعدة، وقد لاحظ بعض السامعين لحديثه أنه شعر بالحرج والخطأ بعد أن قال ما قال إلا أنه لم يستطع تدارك الأمر أو تغطيته بالحديث عن عدد البقر والكباش التي تحتفظ بها أسرته أو نفقت بعد أن صار حوش الدور مرقدا للدبابات والاصطبل مستودعا للأسلحة والذخائر الأخرى.
مؤخرا ترددت الأخبار التي تقول بأن بعض جماعات الحراك المسلح في جنوب البلاد تمكنت من اغتنام دبابات، علاوة على كميات كبيرة من الأسلحة والذخائر خاصة في محافظتي الضالع ولحج خاصة في مديرية ردفان.
ان هذه الوقائع تستحضر وتكرر من غير شك ما كان عليه الوضع في ليبيا، وما كان عليه الوضع وما زال في الصومال حيث شهدت تلك الوقائع بأن طاغية ليبيا معمر القذافي ومثله دكتاتور الصومال محمد سياد بري كانا من عباقرة الشر بامتياز.
المعلوم انه حينما اهتزت الأرض تحت عروش هؤلاء الطغاة ووصلت ألسنة النيران الى غرف نومهم، تقصدوا إخلاء المعسكرات وفتح مخازن ومستودعات الأسلحة المتخمة بأكداس الاسلحة الجديدة بكراتينها وقراطيسها، وكان ان تدافعت سيول الجموع الهادرة والمزمجرة الى المخازن والمستودعات لتغتنم ما لذ وطاب من الأسلحة والذخائر والألغام والقنابل من كل صنف وجنسية، ومن طُرز لم يسبق لها ان رأتها أو تعرفت على هويتها أو عرفت كيفية استخدامها.
ومن تلك المخازن والمستودعات خرجت جماعات شعثاء مزنرة بأحزمة القذائف والرصاص ومحنية الظهور بثقل حمولتها من السلاح.
انه الدكتاتور الوغد الذي لم يفتح لجموع الجياع مخازن الغلال، بقدر ما فتح أمامها أبواب الجحيم والنفق الوحيد المتاح لاستيلاد طغاة صغار ومليشيات كثار.
والمعلوم أن الدكتاتور يتربع في العادة على رأس نظام يعتمد على سياسات منهجية تؤدي الى تفتيت البلدان وتمزيق الأوطان، ويعتمد على سياسة “فرق تسد” ويقوم بتسليح مجموعة قبلية أو مذهبية أو طائفية ضد أخرى.
مثل هذا النظام يفتقر بالتأكيد الى الدراية والرؤية الوطنية، ويستند الى سياسات تؤدي الى تآكل سلطة الدولة وانكماش سلطتها الى مربعات ضيقة ومختنقة داخل المدن الكبيرة فقط، وحتى هذه المدن فإن الكثير من أرجائها تكون خارج سلطة الدولة الوطنية.
وفي ظل انحسار وتآكل سلطة الدولة تتفكك الأجهزة والمؤسسات الهشة وتتغوّل العصبيات والعصابات والمليشيات، وينفسح المجال أمام التنظيمات شبه العسكرية، وتغدو كل قبيلة معضودة بذراع عسكرية تسعى باستمرار لتقويتها وتطوير قدراتها وتوسيع مدار نفوذها مستفيدةً من فراغ السلطة وغياب الدولة وتحلل أجهزتها وتآكل قدرتها على الردع واتساع مساحة الفراغ السياسي والإداري والأمني.
وفي هكذا مناخ تتغذى الصراعات من بعضها، وتسود الفوضى العارمة معظم الأنحاء، وتعجز “النُخَب” حتى عن إدارة الخراب، وينعدم أمن الجميع وأمان الأفراد، وتحتدم النزاعات المدمرة لكافة أشكال الإرث المشترك ولحقوق الجوار وصلة الأرحام وشبكات العلاقات الودية والحميمة التي تراكمت وتمتنت لأحقاب وعهود طويلة.
وتزداد اللوحة بؤسا وقتامة حين ينخرط شباب القبائل في حمى العصبية، ويحرقون سفنهم وشهاداتهم الجامعية ويرمون عرض الحائط بنصوصهم وكتاباتهم الإبداعية وانتمائهم إلى حقل النشاط الأدبي والحزبي، ويندفعون بقوة إلى تبني مواقف قبلية صارخة ومتطرفة ويبالغون في إصدار البيانات عبر الصحف، ويقومون بتوظيف شبكات التواصل الاجتماعي والانترنت لتهييج الغرائز والانفعالات بأساليب مجافية للموضوعية ولا تليق بمن يحسب على الفئات المستنيرة ومن يحملون المؤهلات الجامعية الرفيعة.
إلى هذا الحضيض وهذا الدرك المتسفل من الانحطاط، يبدو أن اليمن تنجرف. والمؤسف أن التعديات وحملات التنكيل التي استهدفت بعض التجار الصغار وأصحاب الدكاكين والباعة الجوالين من أبناء المحافظات الشمالية في بعض المحافظات الجنوبية لم تُحظَ بالقدر المطلوب من انتباه والتفات وسائط الرأي العام وأوساط النخبة؛ وقد جرى التعاطي معها بنفس تعبوي مدمر وعن طريق إذكاء مشاعر التعصب المقابل، كما جرى التعاطي مع تلك الأخبار والتصريحات الصادرة عن قطعان هائجة والمتوعدة لـ”أبناء المحافظات الشمالية” بالحرق والسحق والطرد بقدر فادح من اللامبالاة وعدم الاكتراث، وفي حالات كثيرة كانت بعض الصحافة ومواقع الانترنت تتلقف تلك الأخبار والتصريحات باحتفالية وقحة وضمن منطق تغذية ماكنة حرب الجميع ضد الجميع، والجار ضد الجار، والصديق ضد الصديق، وابن الأخت ضد الخال و….الخ.
وفي السياق مر خبر رحيل العشرات من المواطنين الأبرياء من محلاتهم في بعض المحافظات الحدودية الجنوبية “الضالع- لحج يافع” إلى البيضاء في الشمال، وإجبار أحد أبناء الشمال في يافع على الرحيل ومنعه من اصطحاب زوجته اليافعية معه، وغير ذلك من الأخبار مرت مرور الكرام على الرغم من أنها صادمة ومؤلمة وليس من شأن إهمالها أو تجاهلها إلا الإمعان في الإقامة على الانتهاك وتدمير ما هو مدمر في الأصل.
إن الطريق إلى تقرير مصير الجنوب أو إلى تقرير مصائر البلدان والأوطان وسبيل الانعتاق والحرية، لا يمكن أن يتحقق بالدوس على حقوق الإنسان كما لا يمكن أن يُفرش بالجثث والأشلاء وتوليد المزيد من الضغائن والأحقاد وأسباب الحروب المؤجلة والمستدامة.
وعطفاً على ما تقدم من فتح مخازن الأسلحة ومستودعاتها، علاوة على دخول شحنات كبيرة ومتنوعة من الأسلحة عبر المنافذ البحرية والبرية وفي ظل تفشي مناخات وأجواء الحرب واندلاع المواجهات ذات الطابع الطائفي، كما يحدث في “صعدة”، والمواجهات القبلية، والمواجهات الجهوية في أرجاء واسعة من شمال البلاد وجنوبه.
وبالنظر إلى اندفاع بعض القيادات والجماعات الحراكية إلى تبني خيار “الكفاح المسلح”؛ يمكن القول بأن الداهية صارت أكبر من ان توصف وأن الهول يتجاوز كل حدود المعقول.
إن “عبقرية الشر” لدى مركز السلطة في صنعاء تتبدى في هذا المنعرج الأسود والخطير الذي تمكنت من بلوغه عبر استدراجها لبعض “الحراك” إلى ملعب الحرب، وهو ملعب مفتوح لدخول كافة الضواري والسباع ولخلط الأوراق بين شتى المليشيات من “حراك مسلح” و”حوثيين” و”قاعدة” وأذرع مسلحة للجماعات المتصارعة في مركز السلطة و….الخ.
وحين تختلط الأوراق تنعدم قدرة المرء على تحسس مكانه ويتخبط في حومة اختراع المكان الذي يمكن أن يلوذ به، وذلك هو الشعور الطافح الذي صار يستبد بمن لم ينجرف إلى مهوى التحيزات الضيقة و”الهويات القاتلة”، ومن يستشعر فداحة ما يجري من احتدام وانقسام وتقاتل واستقطاب عسكري وسياسي واشتداد للتنافس على اكتساب المواقع وساحات النفوذ، وتسابق على فرض سلطات الأمر الواقع بقوة السلاح.
في الأثناء يبدو أن المراوحة وحالة الشد والجذب والدفع بالأمور إلى القاع عبر تفخيخ العملية السياسية وإفشال مؤتمر الحوار، تزيد الأمور سوءا وتضاعف من حجم مسؤولية القوى السياسية وكافة فعالية المجتمع المدني صاحبة المصلحة في إيجاد دولة وتدبير سبل العيش المشترك بين اليمنيين.
لقد صارت مهمة إيجاد حل توافقي عاجل، ترقى إلى مستوى الحاجة في الدفاع عن الحق في البقاء والوجود، وذلك ما ينبغي أن تدركه بعمق ومسؤولية كافة الأطراف السياسية.
ليس ثمة من حل آخر غير التوافق العاجل ووقف نزيف الدم والصراعات المسلحة وإعادة هيبة الدولة المراقة وتبني نظام للحكم يكفل مشاركة حقيقية للجميع وتوزيعا عادلا للسلطة والثروة وتبني برنامج للمصالحة بين الجميع وإنصاف كافة المظلومين.
* رئيس صحيفة “التجمّع”، صنعاء