المستقبل – الاحد 3 حزيران 2012 – العدد 4359 – نوافذ – صفحة 10
دلال البزري
تظاهرات «إسقاط النظام الطائفي»، التي حاول جمعٌ من اللبنانيين بواسطتها الإلتحاق بالثورات العربية، خَمَدت بفعل مئة عامل وعامل. ومع الثورة السورية عادت الديناميكية الأقوى،أي إنقسامهم المزمن، الذي عصف بعقولهم وقلوبهم.
المسيحيون من بينهم إعترتهم «النقزة العراقية»، أو الخشية من موجة تهجير جديدة تلي إنتصار الثورة، بعدما تبين ان خواتم الثورات العربية السابقة على السورية منها أتت بالإسلاميين الى الحكم. صحيح انهم بدورهم منقسمون بين 8 و14 آذار، بما يفترضه هذا الانقسام من اصطفاف عام مع الثورة وضدها؛ ولكن نحن نتكلم هنا عن عقول الناس وقلوبها، عما يرشح من سريرتهم في أحاديثهم الجانبية وتمْتماتهم غير المُصاغة، عن مخاوف تحاكي تاريخا نجح حتى الآن في تقليص وجودهم. لسنا هنا بصدد مواقف معلنة لسياسيين أو حسابات انتخابية، إنما نصف مناخاً مشبعاً بالحذر والقلق، تسبح فيه غالبية مسيحيي لبنان.
أما المسلمين، الواقعين تحت سيف انقسام أشدّ عنفا، أكثر حيوية، بين شيعة وسنة، فان الثورة السورية وسّعت فضاء صراعهم، وأجّجت خصومتهم، وأعطت فكرة سوداء عن المستقبل الذي ينتظر علاقاتهم. هنا أيضاً، كانت عقول الناس وقلوبهم تهتف لهم بأن الثورة السورية إنما هي مجال حيوي لتجديد عداوة لم تهدأ فصولها أصلاً: الشيعة من بينهم يرون في هذه الثورة تهديداً لمواقع بلغوها في التركيبة اللبنانية بفضل تضحيات ضخمة، بقيادة حزبهم الإلهي، في حال سقوط حليف هذا الحزب. وغموض البشائر الاسلامية القادمة مع الثورة، التي لا بد وأن تكون طائفية بدورها، تضاعف من الشعور بالخطر الوجودي لدى أبناء الطائفة الشيعية. طاقة معاكسة حرّكت السنة، الذين وجدوا في الثورة السورية ثأرا لهيمنة شيعية قهرتهم بسلاحها؛ فكانت الحركات الأقوى في تعبيرها عن تضامنها مع الثورة، هي تلك الذاهبة الى أبعد ما يكون في المنطق المذهبي، نعني الطاقة الاسلامية، سلفية كانت أم إخوانية. لذلك طغت الفعاليات التضامنية للإسلاميين مع الثورة السورية على الفعاليات الهزيلة لما نسميه «المجتمع المدني» بناشطيه ومثقفيه الليبراليين أو العلمانيين أو اليساريين.
المهم في الموضوع ان أبناء كلا الطائفيتين الغالبتين في المشهد اللبناني ذهبوا، مع مجريات الثورة السورية، الى أبعد حدود منطقهم المذهبي، بما يشرع الأبواب أمام صراع مقبل ستكون معاييره غريزية.
نضع هذا المشهد في لوحته الأشمل، فماذا نلاحظ؟ هناك من جهة ما سبق من منطق مذهبي طاغٍ، يغضّ الإعلام الطرف عن اشاراته العديدة، أو ينقلها بلغة «كودية» يفهمها اللبنانيون؛ وتتراوح تعبيراته بين الضمني وشبه الضمني وشبه المعلن. وهناك من جهة أخرى المنطق الأقل طغيانا، الحاضر إعلامياً، ولكن الضعيف واقعياً، والقائل بأن الثورة السورية إنما هي ثورة ديموقراطية تهدف الى إقامة دولة القانون وتداول السلطة والمواطنة الخ. وهو يتوزّع بين سياسيين ومثقفين وناشطين من «المجتمع المدني».
في هذا المناخ المفعم بالضمنيات انفجر ما بات يسمى بـ»أحداث طرابلس وذيولها». كل التعبيرات التي رافقت تغطيتها انكبت على توصيف حالة من الثأر السني المسلح الحامل لعقيدة أصولية، من خصم شيعي لا نحتاج الى وصف أوجه هيمنته المسلحة على البلاد، وتحكّمه بمصيره وهويته. هذه الأحداث كرّست قوة سنية بازغة، تعد بالقضاء على «إحباط» المنتمين اليها، هي أقصى ما يمكن أن تبلغه الطائفة السنية من تأسلم سياسي. هكذا سادت كلمة «تهدئة» على كافة الألسن، بعدما كاد نائبان شماليان ان ينجرّا الى أقاصي المنطق المذهبي المسلح القاضي بالإستغناء عن قوة شرعية كانت كتلته أولى المنادين بالتسّمك بها، نقصد هنا الجيش.
هذا مثل بسيط عن نوع مغرٍ من الأتون المذهبي، الذي يفترض به عدم المسّ بالقاعدة الانتخابية لسياسيين محنّكين، يودون البقاء تحت قبة البرلمان. هذا الإغراء الأخير قد يجرّ أصحابه الى عكس ما انبى عليه اصطفاهم السياسي؛ بحيث يمكن ان تجد دعاة الدولة والشرعية يقفون بالقرب من دعاة حمل السلاح، أو خلفهم أو أمامهم… فيكون تصحيح الخلل بالخلل نفسه… لا عن قناعة أو تكامل في التوجهات، بل عن مجرد حسابات ربح أو خسارة، موضوعها كتلة اقتراعية شعبية ضخمة، أو آخذة بالتضخم.
السؤال الذي رافق «أحداث طرابلس…» كان: ما هو سرّ تلك اللعنة، تلك الحلقة المفرغة التي جعلت من لبنان أرضاً تتوزع فيها مسؤولية تطييفه، وتمذهبه بين شعب طائفي وسياسيين طائفيين يتلقون يوميا مئات الأدعية بموتهم أو فنائهم من لسان هذا الشعب نفسه؟
«كما تكونوا يولى عليكم» يقول الامام علي بن أبي طالب. تصحّ هذه الكلمة في لحظة مباركة ونادرة من لحظات التاريخ، ولا تعود تنطبق عليها بعدما تدوم هذه التولية دهرا من الزمن. ولكن المؤكد في حالتنا اللبنانية بالذات ان هذه الكلمة تكتمل دائرتها لو أضفنا اليها «كما يولى عليكم تكونون». بحيث تتفاعل كيمياء التماهي والتوق إلى السلطة مع معطيات واقعية على الأرض، فتفرز ما نحن عليه الآن: دائرة جهنمية يقف على حافتها اللبنانيون اليوم، كما في لحظات انفجاراتهم الكبرى، هي من مسؤولية الاثنين: الذين يتولون الامر والذين يولون.
أولى المهام التي تضعها على كاهلنا تلك المسؤولية هي التحديق جيداً في التاريخ، والملاحظة بأن المنطق المذهبي الطائفي هو تهديد لفكرة الفريقين المتنازعين: فكرة استقلال لبنان، وفكرة مقاومة اسرائيل: والفكرة الأخيرة بمعناه النبيل، لا المعنى الذي ابتذله «حزب الله«. وهو، أي المنطق المذهبي، بمثابة تفويت لفرصة تاريخية، تبدو معالمها مديدة، للدخول في عملية تغيير، أو بناء دولة أو مجرد إصلاح ما يعتري نظامنا السياسي من شوائب.
ومقدمة الانخراط في هذه العملية الطويلة يتطلب مواجهة معضلة أساسية مع الثورة السورية بالذات، ظهرت طليعة تعبيراتها في التغطية الاخبارية لـ»أحداث طرابلس…». قالت افتتاحيات الأخبار ان المعركة جرت بين فريقين لبنانيين: «فريق معادي للثورة السورية» و»فريق مؤيد لها». هل يذكر هذا التصنيف بشيء لمن يحمل ذاكرة حروب عاشها أو أخرى قرأ عنها؟ هل يوحي بتكرار ما؟ طبعا، وعلى الفور: إنقسامنا حول تأييد عبد الناصر أو معاداته (1958)، حول تأييد السلاح الفلسطيني التحريري أو معاداته (1975)، حول السلاح الايراني (2006)، والآن حول الثورة السورية وغداً حول حكومات إسلامية-سلفية؛ وكله بروحنا وبدمنا، بخراب بلدنا وتهجير شبابنا…
تتمة المعضلة: الثورة السورية محقة. وخواتمها مصيرية بالنسبة لنا، وتلازم مسارَينا حتمي: ولكن إقتصار دورنا على التضامن أو التخاصم معها لا يضيف شيئا الى لبنان، ولا الى سوريا بطبيعة الحال، ويريح اللبنانيين من مواجهة تعقيدات عطبهم السياسي. أما أن يكون أصحاب أكبر الأدوار في التضامن أو التخاصم هم طوائف تقودها أصوليات، فهذا استئناف لدورة دمار جديدة.
نحن من جهة لا يسعنا تجاهل الثورة السورية ومجرد ترقّب نتائجها لنعرف مع من نصطفّ. ولا يسعنا أيضاً الحياد تجاه هذه الثورة أو الهروب منها نحو «قضايا عادلة» أخرى. فنحن بذلك نتجنب رؤية الاهتزاز الكبير القادم…. اهتزاز كل البنيان اللبناني «الخالد» الذي اقيم على أساس أبدية نظام الأسد. الهزة واقعة، والى تصاعد. لا يسع بعضنا عدم التفاعل مع أهداف هذه الثورة؛ ليس فقط لأنها تريد إسقاط نظام عبث بلبنان وسوريا، بل لأن أهداف الثورة تخاطب أهداف نصفنا على الأقل، الداعي الى لبنان حقاً ديموقراطي أو الحالم به.
ولكننا لا يسعنا من جهة أخرى الغرق في وحول الثورة السورية والأوجه الأكثر خطورة في مجرياتها، اي العسكرة والتطييف؛ وهذان الوجهان في حالة من الجهوزية التامة عندنا. لا يسعنا، لأننا نكون بذلك في وضعية من يستعيد كل الآلة الحربية التي صنعت مجد حروبنا الاهلية. نكون كمن داواها بالتي هي الداء، كمن ينتحر. بوسعنا ان نفعل الكثير للثورة في الاعلام والاغاثة والفن وأشكال التضامن الخلاقة. ولكن ليس بوسعنا، ليس من حقنا، ان ننسى لبنان: الى ما يحتاج لبنان الآن؟ الى ما يصبو اليه اللبنانيون؟ بما يلهمهم الربيع العربي؟ بأي وطن يحلمون؟ بأية لغة يخاطبون بها التاريخ الذي يطرق أبوابهم؟
dalal.elbizri@gmail.com
كاتبة لبنانية
“نوافذ” المستقبل