إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
كانت معركة “جالديران“، التي نشبت بين الدولتين الصفوية والعثمانية سنة 1514م، فاتحة حقبة تاريخية طويلة امتدت لأكثر من ثلاثة قرون، كان قدر الكرد وبلادك أن يكتووا بنيرها وخبائث الدول، ضحايا منذورين للتخلف والجهل.
بدأ ظهور وتشكل إمارات كردية ضمن ظروف بشكل وشروط إمارات ذلك الزمان، منذ القرن الحادي عشر. أي امارات (أسر وبيوتات) العصر العباسي الضعيف. كانت الصفة الأساسية للإمارات الكردية هذه اسلاميتها. ولا نعرف كثيرا او قليلا عن الامارات الكردية ما قبل الإسلام رغم الحضور التاريخي للأقوام الكردية بتشكيلاتها الغالب عليها الاقتصاد الرعوي ومع اقتصاد زراعي بسيط. ما ميّز الامارات الكردية الى يومنا هذا تصارعها على كل شيء يحول دون وحدتها او تطورها.
على الباحث في العلّة الكردية المشتتة أن يعود الى مشروع الإدارات الوراثية للإمارات الكردية (شبه) المستقلة.التي أرسيت في المعاهدة التي صاغها المللا البدليسي مستشار السلطان العثماني سليم الأول.
مع الصراع الكبير بين السلطان العثماني سليم الأول السنّي والصفوي الشاه إسماعيل الشيعي على مرجعية حاكمية المسلمين الذي توّج بالانتصار الكبير لسليم على الصفويين بدعم ومساندة كبيرة من القبائل الكردية في معركة “جالديران“ سنة1514 والتي نجم عنها ما يشبه نصر تشاركيى عثماني ـ كردي، لعب الملا “ادريس البدليسي“ الكردي الدور الكبير في بناء هذا الحلف المنتصر وكان بمثابة المستشار (المفاوض) للسلطان سليم الأول ما بين 1512 و1520.
وَفق البدليسي لثقة السلطان سليم الى صياغة “معاهدة“ تحالف أوكل أمر صياغتها اليه بين التشكيلات الكردية والسلطنة العثمانية. باعتراف الدولة العثمانية بسيادة تلك الإمارات على أقاليم كردستانية مقابل خضوعهم، وفعلا نجح في الحصول على ولاء 23 أميرا كرديا ليضم مناطقهم إلى جغرافية الدولة العثمانية. وكتتويج لهذه المساعي عقد معهم السلطان سليم الأول اتفاقية صداقة وتحالف (معاهدة) عام 1515م، تضمنت التالي:
– تحتفظ كامل الإمارات الكردية الموقعة على المعاهدة باستقلالها التام.
– تستمر وراثة الإمارة من الأب إلى الابن، أو يتم تنظيم ذلك استنادا إلى أعراف القبيلة، ويعترف السلطان بالوريث الشرعي بفرمان خاص.
– يساهم الكرد بتقديم الهدايا (صدقات) للسلطنة بشكل مصاريف فعلية.
– مشاركتها إلى جانب الجيش العثماني في معاركه الخارجية.
– أن يُذكر السلطان العثماني وأن يكون الدعاء له على المنابر في خطبة الجمعة، في مقابل اعتراف الدولة العثمانية بسلطات الإمارات الكردية.
وهذا ما أورده الملا إدريس البدليسي بالقول:
أن السلطان سليم الأول… أمرني (السلطن) لدى عودتنا من فتح تبريز، بأن أسعى لدى جميع الأمراء الكرد، المنبثين في كردستان: ابتداء من بلاد ” أرمية ” و” أشنة ” و” ديار بكر” حتى ” ملطية ” لإدخالهم في “الطاعة“، قاطعا لهم العهود والمواثيق الإسلامية بالعمل على تأليف ملوك وأمراء كردستان وانضوائهم تحت اللواء العثماني.. (محمد أمي دن زكي، 2005، ص. 65).
لقد أرسي الاتفاق المشهور كنتاج لمساندة الكرد للعثماني في معركة “جالديران“ والتكرمة التي نالوها بناء على تمنّي البدليسي بذلك والذي تسبب بالانقسام القبلي السائد بين الكرد الى يومنا هذا. لقد اعتمد التعاقد ذاك على فرمانات أرسلها العثماني للبدليسي وقام بتكملة البيانات لثلاث وعشرين امارة قبلية (اقطاعية). منفصلة واحدتها عن الأخرى وذلك حين جعل الحكم في الامارة وراثيا حكما وبالتالي قضى المرسوم الهمايوني بنص مقدس “ان إدارة حكم الولاية حصرية في اسرة زعامة قبلية الذكور“.
نستشف من خلال مضمون هذه المعاهدة بأن الدولة العثمانية تقرّ العصبيات القبلية وشيوخ العشائر، وأن هذه المعاهدة تولد عنها تحالف استراتيجي بينها وبين الكرد قسم بموجبها الملا البدليسي بلاد كردستان غير الجبلية ديار بكر (مركز الامارة المروانية) الشاسعة الى “سناجق*“ لتسهيل السيطرة عليها وفعل الشيء نفسه في الرها، والموصل، وماردين، ونصب على هذه السناجق ولاة تركا.
بعد اقل من قرنين انهار النظام الاقطاعي التييماري العثماني فتم الغاء المعاهدة الشهيرة لحاجة السلطنة لإعادة تنظيم ادارتها.
كانت الفرمانات المقدّسة (المعاهدة)، قد سدّت المنافذ على أي شكل من وحدة القوم او الهوية بين الكرد. أو لم تترك فرجة احتمالية في ان تتوحد الامارات كأن تستولي واحدة على غيرها وهو الشكل المنطقي للوحدات الدولتية(القومية أو الدينية) الا إذا توحدت طبيعيا فيما بينها وهذا يتطلب وعيا وظروفا إقليمية وخصوصية معينة لم تكن متوفرة الى يومنا هذا، وبموافقة الدولة العلية آنذاك.
خسر الكرد بالإدارات الحصرية لمناطقهم القبلية حيث المراعي الشاسعة والمعاقل الجبلية استراتيجيتها الجغرافية المنفتحة كإمارات محصورة تحول دون تشكيل منظومة إدارية او وحدة مركزية أكبر وأشمل تسمح لها فرصة وحقّالتحول الى دولة او ما يشبه إقليما يعبر القبيلة الى ما هو اعم بهوية كردية قومية او مناطقية.
هكذا بقيت هذه (الامارات الكردية الوراثية) تجمعات إقطاعية رعوية شبه مستقرة محصورة برابطة دموية قبلية لا تتجاوز حدودها مع مرور الزمن. لا بل بالعكس، حالَ هذا الوضع دون تطور اية إمارة منها الى ما هو أبعد من تقاليدها وجغرافيتها ونمط اقتصادها. (بقيت تشكيلة اقتصادية اجتماعية مختلطة في صيغة عبودية مركّبة واحدة للسيد الوارث والأخرى للشاهنشاهية (العثمانية) غابت عن هذه الامارات نظم وتقاليد العصرنة حرفاً ومفاهيما وقيما وتنمية عصرية علمية بدون مؤسسات قادرة على أن تتجاوز الوارث وغاب التعليم العام في تقاليد المكتبية المشيخية وإذا حدث ونبغ عالم ما فسرعان ما يتم محاصرته إذا جهر بأفكار عصرية عابرة لشرعة الوارث وسلطته).
سادت هذه الامارات على غناها الروحي الرعوي والاجتماعي فأنها بقيت تحت سيطرة الذهن البدائي من مشيخية صوفية بدائية وعادات النخوة والثأر وفي ظل الجهل وغياب المعرفة.
اخضعت المعاهدة الإمارات ذات (الإدارات المستقلة) في أطر دون نشوء مفهوم عام وخاص لمفهوم وضرورات الدولة (المؤسسات) وبدل ان يسود مفهوم الدولة الجامعة، ظلت الجماعة أسيرة الوحدة القبلية الاقطاعيةالرعوية الا ما ندر ، ضمن حدود الامارة “المقدس“ بالمرسوم الفرماني الوراثي والعشيرة، وبدل الانفتاح وتوحيد الأسواق المتنوعة والغنية جدا وضرورات وحاجات التكامل الاقتصادي احتمت الامارات بما تسميها الصديق الصدوق (الجبال المنعزلة) والمراعي التي تنتج صراعات قاتلة وثارات مستديمة بغير توزيع عادل وظل الخوف من الذئاب على القطعان تمام الشبه بالخوف من تعدّي الجار على حدود مراعيه او كهوفه ودروبه واستقواء الواحدة على الأخرى بتقديم المزيد من الطاعة السلطانية التي استغلت جيداً سياسات فرق تسد.
وهذا الذي نشاهده اليوم بين “أربيل“ و“السليمانية“ يؤكد بما لا مجال للشك فيه ان السكونية الانعزالية الاقطاعية ما زالت تقطع الطريق على الكرد. وهو ما يحصل في كردستان العراق منذ أن فرض الحظر الجوي على شمال العراق عام 1991 (إثر غزو الكويت)؛ تأسست إدارتان في الإقليم: الأولى في السليمانية معقل الطالباني، والثانية في أربيل معقل مسعود البارزاني (نجل مصطفى البارزاني وخليفته)، وكانت لكل إدارة مؤسساتها المحلية والخدمية والأمنية، وكأنهما بلدان مختلفان لا بل متصارعان وليستا منطقتين في إقليم واحد. ، والذي أدّى مؤخراً الى ضياع غالبية كركوك من الاثنين لصالح الحكومة المركزية التي قامت على اكتافهم. وهو نفس الحال اليوم بين اريبل وقنديل.
لم تقم اية علاقة نهضوية تنويرية بين الأمير الكردي وجماعته الخاصة، او الجماعات المجاورة إلا بما يفيد في تقوية سلطة الأمير وزيادة جهل الرعية استمرت هذه العلاقة كما نشأت على أساس غير شرعي كنوع من العقد الاجتماعي بين الإدارة والشعب بل نشأت كمنحة سلطانية للبيوتات الحاكمة ترعى مصالحها وتخضع شعوبها وتنحصر همومها في الصراع على المراعي والثأر فيما بينها وخدمة الباب العاللي. لذا لم تنشأ مدينة كردية وإذاوجدت فتبقى في حدود حاجات الامارة دون تطوير او تنمية. او تحت إدارة السناجق.
بغياب المدينة الكردية لم تنشأ مدرسة وغابت المؤسسات العصرية وسادت اللغة الشفاهية وطغت العادات والتقاليد على مفاهيم العصر وساد التخلف الذي خفف من عتمته الأغاني والاعراس والحكايات وجناح الحريم الذي أدت فيه الأمهات دور المدرسة بالنسبة للابناء فلم تختف اللغة والتاريخ المحكي. وناب عن كل هذا “مضافات” جهلة.
وفي حالات الصراع لم تتوحد ثقافة جامعة لمشاعر فوق قبيلية فإذا عدنا للأغاني والحكايات الكردية التي سادت زمنا طويلا ناقلة لثقافة الاقوام فإننا نجد أنفسنا ندور في حكايات البحث عن المراعي والصراع عليها ومن حوليها مزخرفة بأقاصيص جميلة من العشق والزيجات التي غالبا ما تفضي الى صراعات جديدة إذا حدثت بين من يسمون بالغرباء تسودها أحيانا شحنات دينية وأخرى مذهبية قاتلة بل وحروب.
عليه نعود لنقول ان ما يشي بالشخصية الكرديية التقليدية ما عدا الغناء والرقص الجميلين تسود الوحدة قدور الجبن والجورتان وثغاء الأغنام والتي بدأت تنعدم بالتدريج لصالح حياة استهلاكية فاجرة.
فاذا حاول زعيم كاريزمي “بدرخان باشا، أو الملك محمود، او الشيخ رزا، أو برزاني الاب، أو قاضي محمد. فتبقى قاصرة عن تحقيق الهدف لغياب العقل التنويري والمؤسسات المنظمة، والقيادة الطموحة في ان تصبح مثل حكام العجم او الترك وسرعان ما تتآلف ضده الامارات والزعامات الخائفة يستنجدون جيوش الترك والعجم عليه ويلغمون مشروعه النهضوي بمخاوف وخلافات عشائرية، ودينية، ومذهبية، الى حين سقوطه ومشروعه.
لذا غابت عن الامارات الكردية العريقة في استقلالها الذاتي الأسواق الجامعة والاقتصاد المتكامل والكروانات العابرة للحدود وحين تغيب الأسواق المستقرة ينعدم نشوء وتطور المدن والعلاقات التجارية الحديثة وتنعدم المهن والحرف وتبقى الخيمة هي التي ترفرف في الهواء الطلق وتزدهر الدروب الى المدن التي يتحكم فيها وعلى أرضه ولاة السناجق. وحراس سلطات الترك (الروم) والعجم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
**السَّنْجَق (بالتركية العثمانية: سنجاق، وبالتركية: Sancağı) كان أحد التقسيمات الإدارية في الدولة العثمانية، ويعني المنطقة أو المقاطعة بالعربية، كما اشتهر باسم لواء، ويعني العلم أو الراية، وهو الاسم الذي أطلقه العرب على هذه التقسيمات الإدارية والتي عُرفت جميعها فيما بعد بالألوية.
لم أكن أعرف أن السلطان سليم اعطى المقاطعجية الأكراد ما أعطاه للأمراء المعنيين من شبه إستقلال وحكم ذاتي. وقد سمعت محاضرة للجغرافي الفرنسي “كافييه دو بلانهول” قال فيها أنه نشأت نظم “شبه إقطاعية” في جبل لبنان وكردستان ومنطقة القبائل بشمال إفريقيا. “شبه إقطاعية” أو “مقاطعجية”، وليس “إقطاعية” (كما في أوروبا)! أحد الأسئلة هو كيف تطوّر النظام المقاطعجي في جبل لبنان، ولم يتطور في بلاد الكُرد، وبلاد”القبائل”!