خاص بـ”الشفاف”
مر أكثر من عام على انتهاء الحرب الإسرائيلية ضد “حزب الله”، ونقف اليوم على مسافة أيام معدودة من ذكرى مرور عام على انتخاب الجنرال جوزيف عون رئيسا للجمهورية اللبنانية.
ومنذ الحرب المذكورة، وبسببها، أصابت لبنان متغيرات كثيرة معظمها تغلغل إلى عُمق الحياة العامة والخاصة لملايين اللبنانيين المقيمين والمغتربين.
وما من شك ان المتغير الأهم أصاب الوعيَ الجماعي لغالبية عظمى من اللبنانيين الذين كانوا يشعرون بالإحباط واليأس حتى “حرب الإسناد” التي اشعلها “حزب الله” في الثامن من أكتوبر ٢٠٢٣، أي بعد اقل من ٢٤ ساعة على هجوم “طوفان الأقصى” الذي نفذته حركة “حماس”. فقد كانت الغالبية العظمى من اللبنانيين العاديين، وهم كتلة شعبية عابرة للطوائف والمناطق، تتميّز بمعارضتها بدرجات مختلفة لمشروع “حزب الله”، ما عرّضَ العديد من الوجوه البارزة بمعارضتها للحزب المذكور إلى اضطهاد سياسي وقضائي وخدماتي، فيما تعرّض بارزون آخرون للاغتيال المعنوي وصولا إلى الاغتيال الجسدي.
هذه الغالبية من اللبنانيين التي كانت في العقدين الأخيرين فقدت كل امل باستعادة البلاد من يد ميليشيا مدججة بالسلاح عاملة في أطار وظيفة امنية وعسكرية إقليمية، حوَّلت لبنان إلى منصة للاعتداء على المحيط العربي في وضح النهار وعلى مرأى من الجميع، فيما كانت تعمل على ابتلاع لبنان امنيا، وسياسيا، مؤسساتيا، واقتصاديا، وماليا، وعقاريا، وديموغرافيا. كان لبنان هدفا لمشروع هيمنة تحوَّلَ مع الوقت إلى مشروع لإحداث تغييرات عميقة في ثقافة البلد، وتوازناته الدقيقة على كل المستويات. حتى ان ملايين اللبنانيين فقدوا الأمل باستعادة وطنهم وصيغة لبنان التاريخية، بعد ان تحول “وطن الأرز” الى ما يشبه السجنَ الكبير.
أفلا نتذكر انه كان للبنان قبل حرب الـ66 يوماً مرشدٌ اعلى شبيهٌ بالمرشد الأعلى في إيران ينتظر المواطنون خَطَبَهُ المتلفزة عن بُعد لكي يطلعوا على “أمر اليوم” الذي يسمو على كل المناصب والمؤسسات في الدولة؟
أتت مغامرة “حرب الإسناد” ثم “عملية سهام الشمال” الإسرائيلية وانتهت بحرب طاحنة ليخرج منها “حزب الله” العسكري مدمرا إلى حد كبير.
ومع ظهور علامات الضعف على تنظيم “حزب الله” انتعشت فكرة الدولة اللبنانية من جديد.
ما دفع كثيرين لاستنتاج أنه لولا الحرب التي خسرها “حزب الله” لما عادَ الأمل إلى اللبنانيين بكافة مكوناتهم بإمكانية إنقاذ لبنان من مسار الانحراف الذي حوّل لبنان في السنوات العشرين التي سبقت إلى قاعدة إيرانية متقدمة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط.
اليوم، يمكننا القول ان الرأي العام اللبناني الغالب، وعلى الرغم من ان لبنان لا يزال يعاني، بات ينظر بتفاؤل إلى المستقبل. والمفارقة ان التفاؤل الذي نتحدث عنه يتعزز كلما تسللت عناصر الضعف أكثر في جسد “حزب الله”. بمعنى ان قوة منطق “الدولة” و”القانون” و”العيش المشترك” تكمن في ضعف الحزب المذكور، والعكس صحيح.
وبهذا المعنى أيضا ثمة فكرة بدأت تشق طريقها في الرأي العام اللبناني المتنوع مفادها ان من مصلحة لبنان بعد معالجة الملفات الخلافية، تتمثّل في السير قدما في طريق السلام مع إسرائيل.
وقد عبّر الرئيس جوزيف عون عن موقف متقدم في هذا المجال عندما أوضح في الكلمة التي ألقاها بمناسبة “عيد الاستقلال” الأخير أن لبنان مستعدٌ للانضمام إلى التسويات الكبرى في المنطقة لانه لا يرغب في ان يقف على قارعة المنطقة! أي ان لبنان لا يريد ان يبقى مُهَمَّشا كما هو الحال اليوم. كما ان استخدام الرئيس عون في بيان الاستنكار الذي أصدره عقب مجزرة بونداي في سيدني لعبارة “الديانات الإبراهيمية”، وهي ذات الرمزية الكبيرة، كان لافتا إلى حد بعيد.
وتفسير ذلك ان لبنان الرسمي على اعلى المستويات بدأ يستخدم مصطلحات جديدة ومختلفة ومعبّرة عن توجه لبناني استراتيجي نحو الانضمام إلى اتفاقيات السلام في المنطقة، التي بدأت مع مصر والأردن لطي صفحة الحروب، وتطورت مع “الاتفاقات الإبراهيمية” لفتح صفحة جديدة في العلاقات العربية الإسلامية مع إسرائيل.
وبالتالي يلاحظ المراقب في لبنان ان الحديث عن سلام مع إسرائيل لم يعد مصنفا على انه “تابو” ومحرّم. وهذا بحد ذاته تطوّر كبير في بلد كان حتى العام 2023 اسيراً لهيمنة ذراع إيران في لبنان! وكان مجرد اثارة موضوع السلام مع إسرائيل سببا في التعرض لملاحقات لا حصر لها! حتى ان رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي السابق وليد جنبلاط وبالرغم من موقفه الرافض للاستسلام لكل الشروط الإسرائيلية، عبّر في حديث متلفز عن تأييده “اجراء استفتاء شعبي في لبنان بشأن انضمام لبنان إلى الاتفاقات الإبراهيمية”.
خلاصة القول: انه كلما ضعف “حزب الله” ومعه النفوذ الإيراني كلما استرجع لبنان حيويته كدولة ومجتمع متنوع، وثبّت موقعه الإقليمي بإعتباره جزءا من المسار العام الإقليمي المتجه نحو تسويات كبرى وسلام شامل!
