على مدار معظم الستة عشر شهراً الأولى من الانتفاضة السورية، شهدت محافظة دير الزور الواقعة على الحدود الشرقية من البلاد مستويات من العنف هي أقل عن تلك السائدة في ميادين المعارك الغربية الرئيسية في حمص وإدلب ودرعا ودمشق. بيد أنه منذ أواخر أيار/مايو، عمل تصعيد النظام لعمليات القصف على جعل دير الزور ضمن الخطوط الأمامية مما يبرز أهمية العامل العراقي في الانتفاضة ويفتح خيارات جديدة للمتمردين المناهضين للحكومة وأنصارهم الأجانب. إلا أن هناك عوامل عديدة تمنع القبائل العربية السنية في العراق من دعم الانتفاضة السورية بشكل كامل، ليس أقلها هي معارضة بغداد للتدخل الأجنبي في الصراع. كما أن الدور المحتمل لـ تنظيم «القاعدة في العراق» يعد مصدر قلق آخر.
الحرب في القسم الشرقي من سوريا
على الرغم من أن دير الزور تبعد حوالي 280 ميلاً عن دمشق، إلا أنها تمثل موقعاً استراتيجياً رئيسياً لنظام الأسد. ففي المحافظة حقول نفط وبنية تحتية لخطوط الأنابيب التي تغذي المصافي الغربية ومحطات الطاقة في سوريا. وعلى وجه الخصوص، يمر خط الأنابيب بين العراق وسوريا عبر المحافظة – وعلى الرغم من أنه لا يعمل حالياً إلا أنه قد يصبح شريان الحياة لضخ تدفقات النفط بين البلدين فضلاً عن تدفقات الغاز العراقي إلى “خط الغاز العربي”، وكلاهما سوف يحقق رسوم نقل مربحة ويوفر نفوذاً سياسياً لدمشق.
ومنذ انسحاب الجيش السوري من لبنان عام 2005، قام مسؤولو نظام الأسد على نحو متزايد بفرض ضرائب على نشاط التهريب على الحدود العراقية كوسيلة لاستبدال العائدات غير المشروعة التي كانوا يحصلون عليها في السابق من لبنان. كما حقق أفراد الاستخبارات والجيش من المستويات المتوسطة دخولاً هائلة من اتحادات التهريب التي تعبر الحدود حاملة المواشي والسجائر والإلكترونيات الإستهلاكية، فضلاً عن المخدرات والأسلحة والإرهابيين.
وعلى الرغم من أن دير الزور تعد مركز صناعة النفط في سوريا إلا أنها واحدة من أكثر محافظات البلاد فقراً وأقلها تنمية. ووفقاً لـ “برنامج الأمم المتحدة الإنمائي” و”منظمة الأغذية والزراعة” [“الفاو”]، تعاني المحافظة من كافة المؤشرات الإقتصادية السلبية تقريباً مثل: ارتفاع معدلات البطالة، والفقر المدقع، وارتفاع مستويات الأمية، وارتفاع معدلات وفيات الأطفال الرضع، ونمو السكان بمعدل فوق المتوسط، وسوء حالة الطرق، ونظم التوصيلات الكهربائية والصرف والماء والري غير الكافية. ولم تساعد الحكومة المركزية القسم الشرقي من سوريا عن طريق أي من برامجها للإصلاح الاقتصادي التي لاقت ثناءاً كبيراً – وفي الواقع أن سوء إدارة النظام لمشاريع الري الجوهرية قد عرقل القطاع الزراعي في المنطقة.
إن غالبية سكان دير الزور البالغ تعدادهم 1.2 مليون نسمة هم من السنة العرب ويحظون بروابط قبلية وثقافية ولغوية قوية مع العراق. والعديد منهم مستاء من الحكومة البعيدة في دمشق، النافرة عنهم ثقافياً ودينياً. ومنذ بدء الانتفاضة، سعى النظام إلى الحد من حجم الاحتجاجات في المحافظة عن طريق الضغط على كبار زعماء القبائل (الذين يعيش العديد منهم في دمشق وحلب) وتوظيف بعض المقاتلين القبليين ضمن قوات “الشبيحة” شبه العسكرية الموالية للحكومة. وعلى الرغم من أن هذه التدابير قد عملت على الحد من انتشار الانتفاضة في الشرق، إلا أن “المختارين” المحليين والشخصيات القبلية الأصغر سناً كسبت نفوذاً بشكل تدريجي وقادت القبائل المحلية للانضمام إلى الحركة.
دور العشائر العراقية
تُعرَف الصحراء العراقية السورية بين نهري دجلة والفرات باسم “الجزيرة”، وعادة لم يظهر سكانها سوى القليل من الإهتمام بالحدود التي تم فرضها في عام 1920. فقد حافظت القبائل المحلية على مدار التاريخ على علاقات ثقافية وعرقية وعائلية واقتصادية مع بعضها البعض أقوى من علاقاتها بعواصمها. وهناك قسمان فرعيان أساسيان للقبائل العابرة للحدود:
قبائل الجزيرة. يعتبر اتحاد قبائل شمر أكبر وحدة قبلية عابرة للحدود بين النهرين، كما يهيمن أعضاؤه على التهريب في المنطقة. ودورهم في الانتفاضة السورية مُعقَّد. فمن ناحية، يرغب الشمر بحكم غريزتهم في دعم أبناء عمومتهم السوريين ويمكنهم تحقيق مكاسب هائلة من حكومة صديقة تحت قيادة سنية في دمشق. ومن ناحية أخرى، فإن كلاً من بغداد ونظام الأسد يغازلهم بقوة. ففي 30 أيار/مايو، أنهى رئيس الوزراء نوري المالكي فترة طويلة من التودد بعقد اجتماع خاص لمجلس الوزراء في محافظة نينوى، معقل الشمر، حيث عرض على رجال القبائل وظائف في القوات الأمنية فضلاً عن عرضه عليهم أكثر الحوافز التقليدية وهي: تمويل الحكومة لري المزارع القبلية. فأمام المالكي وقبائل شمر عدو مشترك – الأكراد الذين قادوا جهود عزل رئيس الوزراء من منصبه في الشهور الأخيرة وهناك انقسامات تاريخية عميقة بينهم وبين قبائل شمر. وعلى نحو يعكس هذا الانقسام، استخدم نظام الأسد بعضاً من قبائل الشمر الفرعية في سوريا كميليشيات مسلحة لقمع النشاط الكردي في المناطق الشمالية الشرقية. وحتى الآن، كان الشمر يتبعون نصيحة بغداد بعدم سكب الزيت على النار في سوريا، وإن كان ذلك علانية وخطابياً على الأقل. وفي 7 أيار/مايو، صرح الزعيم القبلي الشيخ عبد الله الياور الشمري لـ “وكالة فرانس بريس” قائلاً “يكفي إراقة الدماء…فنحن كعراقيين غير مستعدين للقتال من أجل أي شخص”.
قبائل وادي الفرات. عمل “وادي نهر الفرات” المكتظ بالسكان على ربط القبائل السورية والعراقية لمئات السنين، حيث يتحدث السكان السوريون على طول النهر اللهجة العراقية وليس اللهجة السورية. وأثناء الاحتلال الأمريكي للعراق، وفرت القبائل والمساجد في دير الزور أعداداً هائلة من المقاتلين والأسلحة والأشكال الأخرى من الدعم إلى المتمردين في محافظة الأنبار. واليوم تشير التقارير الإخبارية إلى أن القبائل العراقية، وخاصة تلك المتركزة في وادي الفرات، تعكس الآن الاتجاه عن طريق إرسال الأسلحة وحتى بعض المقاتلين لدعم أبناء عمومتهم السوريين في دير الزور.
وبالإضافة إلى ذلك، أفادت التقارير أن التمويل السعودي والقطري قد سرّع من وتيرة المساعدات العراقية المقدمة إلى المتمردين في شرق سوريا. وفي شباط/فبراير وآذار/مارس، دعا رئيس الوزراء القطري حمد بن جاسم آل ثاني ووزير الخارجية السعودي سعود الفيصل علانية إلى تسليح المعارضين في “الجيش السوري الحر”. وكان مقال نُشر في صحيفة “وول ستريت جورنال” بتاريخ 22 شباط/فبراير من ضمن العديد من المقالات التي زعمت عن تدخل الخليج في الأزمة قد ذكر أن الزعماء القبليين “من نينوى والأنبار تلقوا مطالب من مسؤولي دول الخليج العربي أو من خلال وسطاء مثل رجال الأعمال العراقيين القائمين في الأردن لدعم المعارضة السورية”.
التداعيات على السياسة الأمريكية
على الرغم من أن الدعم القبلي العراقي قد يساعد المتمردين في شرق سوريا، بمنحهم خط إمداد و”منطقة خلفية” محمية، إلا أنه يثير أيضاً بعض المخاوف. وتربط الجهات المانحة من دول الخليج علاقات قوية باتحاد قبائل شمر العراقي المحوري كما أن هذه الجهات تملك قدرات رائعة لتعزيز المساعدات العراقية المقدمة إلى المعارضة السورية. إلا أنه يتعيّن على صناع السياسة الأمريكيين وزن تداعيات المناشدات الأجنبية المباشرة على الزعماء القبليين العراقيين وما قد يترتب منها على العلاقات العراقية الخليجية المستقبلية، وعلى علاقة بغداد بأصحاب المصلحة العرب من السنة المحليين، وعلى تماسك العراق نفسه.
كما أن دور تنظيم «القاعدة في العراق» يمثل مصدر قلق آخر، رغم أن هناك بعض المؤشرات الإيجابية الواضحة. فالمتمردين السوريين في دير الزور يبدو أنهم حريصين على الحد من مشاركة المنظمة في محافظتهم، حيث أن تنظيم «القاعدة» قد هدد بل وقتل شيوخ محليين أثناء احتلال الولايات المتحدة للعراق. كما أن العديد من القبائل العراقية التي توفر الدعم إلى قريباتها السورية تركز أيضاً على الحد من اشتراك تنظيم «القاعدة». غير أنه كلما اشتد اليأس بالمتمردين السوريين، زادت احتمالية قبولهم الدعم من «التنظيم». ففي مقابلة مع شبكة الـ “بي بي سي” في 24 أيار/مايو، صرح أحد المتمردين السنة بقوله “أقول للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي إن الشعب السوري لم يعد يستطيع ذلك…وإذا لم يساعدنا أحد، فسوف نتجه إلى الشيطان نفسه”.
وللحد من الآثار العكسية على الشؤون العراقية والإقليمية، ينبغي على الولايات المتحدة مراقبة الوضع من خلال الاستفادة من العلاقات الوثيقة التي أقامتها مع العديد من كبار الزعماء القبليين من العرب السنة على طول الحدود العراقية السورية منذ عام 2003. ومن خلال فهم تفصيلي للديناميكيات بين الحدود تستطيع واشنطن أن تأمل في تعزيز المعارضة السورية مع منع منتسبي تنظيم «القاعدة» من لعب دور أكبر في أي من البلدين.
مايكل نايتس هو زميل ليفر في معهد واشنطن ومتخصص في الشؤون العسكرية والأمنية للعراق وإيران وليبيا واليمن ودول الخليج العربي.