ليس من المبالغة اعتبار انطلاق أعمال المؤتمر الوطني العام، وبخاصة الطريقة التي تمّ بها انتخاب هيئة رئاسته، خطوة تاريخية قطعتها ليبيا نحو طيِّ صفحة حُكم القذافي المديد، ووضع أركان دولة ديمُوقراطية.
وشكّل هذا الحدث، المرّة الأولى التي تعرِف فيها ليبيا نُـقلة سِلمية وديمُوقراطية منذ أكثر من ستة عقود. وستُستَـكمل تلك الخطوة عندما يعود المؤتمر إلى الاجتماع يوم 23 أغسطس (أي بعد عيد الفطر)، لاختيار رئيس الحكومة الجديدة وأعضائها، وهي الحكومة الثالثة في هذه المرحلة الانتقالية، بعد حكومتيْ محمود جبريل وعبد الرحيم الكيب.
وأعطت الجلسات التي تمّ خلالها انتِخاب رئاسة المؤتمر الوطني (رئيس البرلمان الانتقالي ونائبيه)، مؤشِّـرات قوية على قانون اللّعبة الجديدة في ليبيا، بعدما ظهرت أول مؤسسة مُـنتَـخبة بعد ثورة 17 فبراير 2011، إذ تفَـوَّق المعارِض العنيد محمد المقريف (113 صوتا) على معارض آخر، لا يقل عنه حسْما في نظام القذافي، هو علي زيدان (85 صوتا).
ثلاث محاولات اغتيال
وكان المقريف قد أعلن استقالته من منصبه سفيرا في الهند عام 1980 والتحَق بصفوف المعارضة بالخارج، الساعية حينها إلى الإطاحة بنظام العقيد معمر القذافي. ومنذ ذلك الوقت، تعرّض لِما لا يقِل عن ثلاث محاولات اغتيال، في روما سنة 1981 وفي الدار البيضاء سنة 1984 وفي مدريد سنة 1985. وأسَّس مع صِهره إبراهيم صهد والمعارض أحمد إبراهيم حواص (الذي قُتِل لاحقا في عملية نوعية داخل ليبيا)، الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا، التي تلقَّـت دعما من الولايات المتحدة، حيث أقام المقريف عشرين عاما، وهو يحظى أيضا بدعمٍ قوي من بلدان الخليج ومصر والمغرب، التي قامت بحمايته لمّا كان السادات والحسن الثاني على خلافٍ مع القذافي.
أما زيدان فهو شخصية مستقِلّة وكان يرأس الرابطة الليبية لحقوق الإنسان من ألمانيا، حيث كان لاجئا. والملاحظ أن الجولة الثانية من الانتخابات هي التي فرزت الأصوات بين المرشّحين، ولهذا الأمر دلالاته السياسية. فبقاء الرجليْـن إلى الجولة الثانية له مغزىً يتعلّق بموقِفهما القاطع من النظام السابق، إذ اتفق المقريف وزيدان على اعتِبار مبادرة سيف الإسلام، نجل العقيد القذافي، بفتح حوار مع المعارضة في الداخل والخارج في تسعينات القرن الماضي، مُـناورة مرفوضة.
لكن الواضح، أن المقريف، الذي يُـسيطر حِزبه على ثلاثة مقاعد في المجلس من أصل 80 مخصّصة للأحزاب، حظِي بدعم حزب العدالة والبناء، الذِّراع السياسية للإخوان المسلمين (17 مقعدا) وأيضا بأصوات المستقلِّين الذين يشكِّـلون أكثرية داخل المجلس.
في المقابل، من الأرجح أن أصوات كُـتلة جبهة القوى الوطنية (39 مقعدا)، ذهبت إلى الليبرالي المستقل زيدان، لكن هذا لا يعني تصنيف القِوى في المجلس إلى كتلتيْـن. فقد دعم حزب العدالة والبناء في الجولة الأولى عبد الرحمن السويحلي. ولما بقِي متنافسان فقط في الجولة الثانية، دعم المقريف بناءً على خلفيته الإسلامية.
مع ذلك، لا يمكن اعتبار رئيس المؤتمر الوطني شخصية إخوانية. فقد اعترف في محاضرة ألقاها بعد عودته إلى ليبيا، بأنه تربى في أجواء إخوانية عندما كان الإخوان أفرادا وقبل أن يؤسِّسوا تنظيما في ليبيا، غير أنه حمل بشدّة على قيادتهم، بسبب انخراطها في مبادرة سيف الإسلام، وقال “إنهم انحنَـوا لمعمّر القذافي. فكيف سيُقابلون وجه ربّهم بهذا الصّنيع، بينما أنا لم أنحن له؟”.
بهذا المعنى، يمكن فهم تصريح المقريف بأنه سيُحافظ على مسافة متساوية مع كل الأحزاب، وهذا مؤشر مهِم على طبيعة العلاقات المُستقبلية بين الأحزاب الرئيسية الثلاثة في المؤتمر، والتي تختلِف مثلا عن التحالُفات في المجلس التأسيسي التونسي.
التوازن بين المناطق
وهناك مؤشِّر ثانٍ يتعلق بهاجِس التوازن بين مناطق ليبيا، أي أساسا الشرق الذي ظل مهمَّـشا بل ومعاقَـبا في عهد القذافي، والجنوب الذي بقِي محروما من التنمية، والغرب، حيث العاصمة طرابلس ذات الوزْن السكاني الأثقل. بهذا المعنى، يُعتبر إسناد رئاسة المؤتمر الوطني إلى شخصية من بنغازي، التي تعالت فيها الأصوات منادِية بالعدل بين المناطق، بل وظهرت فيها النزعة الفدرالية بقوّة قبل الإنتخابات، استجابةً لتلك الأصوات ومُراعاةً لضرورة امتِصاص أية احتقانات مناطقية.
ومن الناحية الرمزية، عادت الأمور إلى ما كانت عليه قبل عهد القذافي، حين كان رئيس البرلمان من بنغازي ورئيس الحكومة من الغرب، بل وكان مقَـر البرلمان نفسه في بنغازي. ويندرِج في هذا السياق أيضا، انتخاب المحامي المصراتي جُمعة عتيقة نائبا أولا لرئيس المؤتمر، بالنظر للدوْر الهام الذي لعِبته مصراتة (ثالث المدن الليبية) في حرب التحرير، مثلما يسميها الليبيون اليوم، خاصة أنه الحقوقي الذي ذاقَ سجون القذافي مرّات عدة، وقد حصل على ثاني أكبر عدد من الأصوات في الإنتخابات. وأكّد المعارض السابق جمعة القماطي لـ swissinfo.ch هاجس التوازُن بين المناطق في اختيار رئيس المؤتمر الوطني ونائبيه، كي لا يكون هناك شعور بالهيْمنة أو التفرُّد.
أما المؤشِّر الثالث، فيتعلق بموقف رأس المؤتمر الوطني من عناصر النظام السابق. فإلى جانب الأصوات التي تحذِّر من تِكرار السيناريو العِراقي في ليبيا، مُشدِّدة على ضرورة الإبقاء على التكنوقراط والمحافظة على ما تبقّى من الدولة من خلال الخِبرات التي لم تتلوّث أياديها بدَمِ الشعب أو بأمواله، يرفض آخرون بشدّة هذا الطّرح ويدعون إلى استئصال مَـن كانت لديهم أيّة صِلة بالنظام، ومن هؤلاء الرّاديكاليين رئيس المؤتمر المقريف ونائبه عتيقة.
هل يستمر التوافق؟
كيف ستكون خارطة الطريق في هذه المَناخات القائِمة (حتى الآن) على التوافُق، والمُستبعدة للتجاذُبات الفكرية أو الحزبية؟ الأمر الواضح في هذه الخارطة يتعلّق بمساريْن يحظيان بالتوافُق، وهما تشكيل الحكومة، والتي يُرجّح أن تضمّ عناصر من أبرز الأحزاب الفائزة في الإنتخابات، لكن لن يكونوا من أعضاء المؤتمر الوطني. والثاني، هو تشكيل لجنة تأسيسية لوضع دستور للبلاد مؤلّفة من ستِّين عُضوا، تيمنا بلجنة الستين، التي وضعت الدستور الليبي الأول بعد نيل الإستقلال، والذي علّق القذافي العمل به عندما استولى على الحُكم عام 1967، وسيُراعى في اختيار أعضائها، التّوازن الجِهوي، إذ سيُعطى الثلث لكل منطقة (برقة شرقا وطرابلس غربا وفزان جنوبا).
والأرجُح، أن تشكيل الهيئة التأسيسية أو لجنة الستين، وكذلك تأليف الحكومة، سيخضعن لمنطق التوافق، وعند اقتضاء التصويت داخل المؤتمر الوطني العام. وذهب المقريف (الذي استقال من رئاسة حزبه بعد اختياره رئيسا للمؤتمر)، إلى حدّ إطلاق وعْـد بإشراك جميع الأحزاب، بما فيها غيْر الممثّلة في البرلمان الانتقالي، في المشاورات. واعتقد بعض المحلِّلين أن رئاسة الوزراء ستُسنَد إلى الدكتور محمود جبريل بعد فوز التحالف الذي يقوده بأكبر عدد من المقاعد، إلا أن أوساطا قريبة من جبريل نفت لـ swissinfo.ch اعتزامه تولّي هذا المنصب، ملمِّحة إلى أنه قد يكون مهتَما بترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية بعد وضع الدستور. والأرجح أن يكون رئيس الحكومة من المنطقة الغربية، بعدما اختير رئيس المؤتمر الوطني من المنطقة الشرقية، في إطار تكريس التوازن بين المناطق.
بناء مؤسسات الدولة
أما الجانب الأهَـم من خارطة الطريق التي سيتقدّم المؤتمر الوطني على هديها، فيتعلّق بوضع “ركائز مؤسسات الدولة عبْر إجراء حِوار جدّي ومسؤول”، مثلما قال المقريف. وتبرز هُـنا استحقاقات وتحدِّيات عديدة ومختلفة، يمكن اختِزالها منهجِيا في أربعة، لأن المؤتمر، كما قال رئيسه أيضا، هو “في سباق مع الوقت”. وفي مقدِّمة تلك التحديات، إعادة الأمن إلى كافة المدن الليبية، إذ هناك مناطق قصية، وخاصة في المناطق الحدودية، لا وجود للسّلطة المركزية فيها، وتسيْطر عليها جماعات مسلّحة منذ وضعت الحرب مع كتائب القذافي أوْزارها. وليس من السهل جمع الأسلحة من الميليشيات وفرْض هيْبة الدولة على جميع الفرقاء، وإن كان بعض السياسيين اعتَبروا أن كلمة “الثوار” لم يعُد لها من معنى منذ الإطاحة بالقذافي، ورأوا أن المتشبِّثين بها اليوم، خارجون عن القانون، طالما لم ينضمّوا إلى تشكيلات وزارة الدّفاع أو الداخلية.
أكثر من ذلك، عرفت طرابلس وبنغازي في الفترة الأخيرة ظاهِرة جديدة وبالغة الخطورة، تمثّلت في التفجيرات والسيارات المفخّخة والاغتيالات الفردية التي تذكِّر بما عاشته بغداد بعد سقوط النظام السابق. وآخر تلك العمليات، حادثة الاغتيال التي تعرّض لها الجمعة الماضي العميد محمد هدية الفيتوري، المسؤول عن الذّخيرة والتسليح في الجيش اللِّيبي، لدى خروجه من مسجدٍ في بنغازي، على أيْدي جماعة مجهولة الهوية. وإذا لم يتِم ضبط الجماعات التي تنفِّذ هذه العمليات، فستكون مرشّحة للاستمرار، بما يُهدِّد سلامة أعضاء المؤتمر الوطني أنفُسهم، واستطرادا، الحكومة المقبلة، خاصة أن محمود جبريل تعرّض لمحاولة اغتيال مماثلة قبل خمسة أيام من انتخابات المؤتمر الوطني، التي أجريت في السابع من الشهر الماضي (يوليو).
ومن الواضح، أن تلك الجماعات التي لا يُخفي بعضها ارتباطه بتنظيم “القاعدة”، لا تعترِف بالانتخابات ولا بالمسار السياسي لإعادة بناء ليبيا أصلا. وقد حوّلت بعض المدن التي سيْطرت عليها، إلى جيوب طالبانية.
ومن المهِم الإشارة في هذا الصدد، إلى ما قاله الكيب لمجلة “تايمز” الأمريكية مؤخّرا، من أنه لن يستسْلم للمخاوف التي تتركها التفجيرات الإرهابية المتفرِّقة في أنحاء البلاد، موضِّحا أن “ما يحصل من تفجيرات، سبَبه جهادِيون يُدينون بالولاء للقذّافي ويتلقّون مساعدات من دول الجِوار، وهم لا يخيفوننا”، وهو كلام ينطوي على تلميحاتٍ وأبعادٍ غيْـر بسيطة…
وفي هذا السياق، تأتي موجة التصفيِات الأخيرة في بنغازي، التي استهدفت عددا من الضبّاط الكِبار والمسؤولين الأمنيين، الذين انشقّوا في بداية الثورة عن القذافي وانضمّوا إلى الثوار، الذين اطاحوا بالنظام السابق. وكانت وُجِّهت انتقادات لاذِعة إلى المجلس الوطني الانتقالي برئاسة مصطفى عبد الجليل، على ما اعتبره كثير من الليبيين تقْـصيرا في فرض الأمن وإخْفاقا في نزْع الأسلحة الثقيلة والفردية، على رغم اعترافِهم بإنجازات كثيرة، قالوا إن المجلس حقّقها. كما أخْفقت السّلطات الجديدة حتى الآن في بناء جيش فِعلي، رغم تجنيد آلاف المتمرِّدين السابقين، الذين قاتلوا نظام القذافي بين فبراير وأكتوبر 2011..
تطهير البلاد من السلاح العشوائي
وعلّق على ذلك، الأكاديمي الدكتور محمد المفتي بالقول “لترسيخ وِحْـدَتنا الوطنية، لابد من تطهير البلاد من السِّلاح العشوائي أولا، لكي تستعيد الدولة هيْبتها ويستعيد المواطِن أمنه. فلا إدارة فعّالة ولا قضاء عادلا، بل ولا نشاطا اقتصاديا في غياب جيش وشرطة، لأنهما من أساسيات أية دولة متحضِّرة. وهذه المهمّة لا يمكن أن تُـنجَز إلا بمشاركة ثوّارنا البواسل، الذين أنجزوا الثورة وأمّنوا البلاد طيلة الشهور الماضية، والذين بفضل تضحِياتهم، وصلنا إلى هذه المرحلة المتقدِّمة من الاستقرار والوفاق”.
وعليه، فستقاس قوة الحكومة المقبلة بمدى قُدرتها على ضبْط 250 ألف مسلّح، بينهم مَـن ينتمي إلى جماعات متشدِّدة، بالإضافة لمصادرة 20 مليون قِطعة سلاح وضمّها إلى مخازِن الدولة. وبعد وصول قِسْـم مهِـم من المتفجِّـرات التي كان يحتفِظ بها القذافي إلى أيْدي الجماعات المتشدِّدة التي لم تعترِف بالانتخابات ولا بالحكومة التي ستنْـبثِـق عنها، أصبحت الخِشية من سيناريو عِراقي، أمرا غيْـر بعيد عن الواقع، خاصة في ظلّ الترابط بين تلك الجماعات وعِصابات المهرّبين التي تتقاتل يوميا على الحدود المُـشترَكة مع تونس ومصر، من دون أن تستطيع القوات النظامية إلجامها أو مطاردتها.
أكثر من ذلك، يعتبر حقوقيون أن على الحكومة المُقبلة أن تضمَن الأمن والأمان للمواطنين، في ظلِّ ظهور عمليات اختِطاف مشبُوهة، كتلك التي تعرّضت لها الناشطة الحقوقية المعروفة مجدولين عبيدة وإحدى زميلاتها بمدينة بنغازي على يَـد مجموعة مسلّحة، يقال أنها تابِعة لجماعة “أنصار الشريعة”.
وقال ناصر الهواري، رئيس المرصد الليبي لحقوق الانسان لـ swissinfo.ch تعليقا على تلك الحادثة، “إن سيادة ثقافة الاختِطاف والاعتقال خارج إطار القانون، خاصة في حقّ النشطاء وأصحاب الرأي، هي مؤشِّـر خطِر على عوْدتنا إلى عهد الظلام الذي كان الطاغِية يُـضيِّـق فيه على الحقوق والحريات، وينال من كل صاحب رأي وقلم مُخالف له”. وشدّد على أن “أول أسُـس بناء الأوطان، هي الشراكة القائمة على الحوار وقبول الآخر”.
رموز النظام السابق
وفي سياق متّصل، يبدو الاستحقاق الآخر المُـتمثَّـل بنوع التّعاطي مع بقايا النظام السابق، معضلة معقَّـدة، إذ تتبايَن مواقِف النُّخب الجديدة بشأنها، في داخل المؤتمر الوطني وخارجه، بيْن الفريق الذي يقصِّر المحاسبة على رموز النظام، المتورِّطين في جرائم سياسية أو مالية، والفريق الثاني، الذي يروم التخلّص من كل بقايا النظام ومعاودة البناء من صِفر، أسْـوة بالتجربة العراقية.
وفي هذا السياق، قال الدكتور محمد المفتي: “لابد من ترسيخ وِحدتِـنا الوطنية المهدّدة الآن بشتّى التوجّهات السَّلبِية، وهذا لن يتحقّق إلا بمشاركة الجميع”، مُضيفا أن ليبيا تعاني برأيه من “انقِسام سيكولوجي إلى درجة الإفراط، بين “حزب الثورة”، ومَـن وقف في الجانب الآخر. ولابد من تجاوُز هذه الهوّة النفسية، أولا بمحاكمة مَـن توجد ضدّهم أدِلّـة، وهُـم قِـلة. وثانيا، بتأكيد مبدَإ المُواطنة التي تُساوي بين الجميع. فكل الليبيين إخوة، وما فَـرّقتهم خلال الشهور السابقة، سوى سياسات وتعنُّـت النظام الهمَـجي المقبور، القائمة على الدسّ وإثارة الفِتن”.
لكن الثابت، أن المؤتمر الوطني سيكون منقسِما في التّعاطي مع هذه المسألة. وهنا، يُطرح موضوع محاكمة سيف الإسلام القذافي، المقرّرة للشهر المقبل، والتي يُصِر أهل الزّنتان على إجرائها في مِنطقتهم، انطلاقا من إصرارهم على أن يحتفِظوا بورقة بالِغة الأهمية في بناء ليبيا الجديدة، بينما تعتبِر تيارات وشخصيات عدّة أن هذه المهمّة من مشمولات الدولة، أسْوة بمحاكمة مدير المخابرات السابق أبو زيد عمر دوردة. وفي الإطار نفسه، ستواجه الحكومة الجديدة مسألة ترحيل رموز النظام السابق، اللاّجئين في دول عربية، وستستأنف المساعي التي بذلتها حكومة الكيب إلى آخر يوم في عمرها، إذ تنقّـل رئيسها على رأس وفْد كبير، إلى كل من القاهرة والرباط، حاملا رسالة مَفادُها أن علاقات ليبيا الجديدة مع أية دولة، سيتحدّد بمدى تجاوُبها مع طلب تسليم المسؤولين السابقين، اللاجئين لديها.
وينطبق هذا التحذير على موريتانيا، التي ما زالت تحتفِظ بصندوق أسْرار القذافي عبد الله السنوسي، وهو صِهره ومدير مخابراته، المطلوب من المحكمة الجنائية الدولية.
وكان المجلس الوطني الانتقالي تبنّى بالإجماع قبل شهور، قانون العزْل السياسي، الذي يستبعِـد المُـوالين للنظام السابق، من الحياة السياسية لفترات تراوحت بين خمس وعشر سنوات، غير أن القانون لم يجِد طريقه للتنفيذ، بسبب قلّـة اقتناع قطاعات مهمّـة من المجتمع المدني والنّخب، بجَـدواه، إذ اعتبرتْه “نيلا من الحقوق الفردية وذريعة لإقصاء منافسين بغيْـر وجه حق”.
موقع الشريعة
المسألة الكبرى الأخرى، التي يُتوقّـع أن تثير جدلا في شأنها داخل المؤتمر الوطني العام وخارجه، هي موقع الشريعة في الدستور المقبِـل وعلاقة السياسي بالدِّيني. وكان المبادر إلى طرح هذه المسألة، بشير الكبتي، المرشد العام للإخوان المسلمين، الذي وجّه رسالة إلى رئيس المؤتمر الوطني العام المقريف، طالبه فيها بأن يكون الدستور مُـنبَـثقا من الشريعة الإسلامية، باعتبار ذلك “مطلَـب الشعب الليبي وعقيدته”، غيْـر أن مراقبين رأوا أن الكبتي يخلَـع بابا مفتوحا، لأن هذا الموضوع لا يشكِّـل خِـلافا بين القوى الرئيسية الممثلة في المؤتمر الوطني.
ولئن كان المجتمع الليبي المتّـسم بالمحافظة والوسطية في آن معا لم يعرِف حتى الآن حدّة الاستقطاب، الذي شهدته الجارتان تونس ومصر حوْل هذه المسألة، فالأرجُـح أن الجدل بشأنها مرشّح للبروز على السطح مع التقدّم في وضع الدستور. وظهرت مؤشِّـرات هذا الجدل مع محاولات بعض الأئِمة والشخصيات الدِّينية، استثمار مواقعهم في المساجد للتّحريض على التصويت لأحزاب معيَّـنة ومقاطعة أخرى أثناء انتخابات المؤتمر الوطني. وكان لافِتا أن المحامية والناشطة وفاء البوعيسي، انتقدت بشدّة عبد الباسط غويلة، إمام جامع سيدي محمد في العاصمة طرابلس، الذي قالت إنه تعمَّـد اختيار يوم الجمعة، “حيث يحتشِد مئات المسلمين، إن لم يكن الآلاف، لأداء طقس ديني تقوم الخُـطبة فيه مقام الرّكعتيْـن الأوليين من الصلاة للدِّعاية لحزب من الأحزاب وتخوين الحزب الآخر والتكفير وفرض الوصاية”.
وأوضحت أن الإمام اتّخذ الخُطبة مطية “ليس لجلْد التجمّع الوطني بقيادة (محمود) جبريل، الذي لا يريده، بلسانه وبذاءاته فقط، بل وحتى لفرض وصاية على ملايين الليبيين الذين كانوا قد تجاوزوه وقرّروا أن يختاروا مَـن يُـمثِّلهم في المؤتمر الوطني، فتحوّل الطقس المخصّص للعبادة والتدبر والنُّـصح والإرشاد، إلى ما يُـشبه خُطبة من خُـطَـب القذافي نفسه، التي كان يلقيها على جمع من الناس لا يستطيعون أن يخالفوه بكلمة، وكأنهم في صلاة من خلفه”.
هذا الخلْط بين الفروض الدِّينية والدِّعاية السياسية، التي تقول المحامية البوعيسي، إن البعض (وسمَّت منهم الصادق الغرياني وأسامة الصلابي)، يمارسونها علنا مسخّرين المساجد للسِّجالات مع الخصوم الحزبيِّين، يشكِّل ظاهرة تحتاج إلى تنظيم لرسم الحدود بين المجال الدِّيني والمجال السياسي، كي لا تغدو المساجد حَـلَـبة للصراع وسوقا للمزايدة. وترتدي هذه المسائل المتعلقة بضوابط العمل السياسي أهمية، خاصة في هذه المرحلة، لأن المؤتمر الوطني العام سيضع لدى عوْدته إلى النشاط بعْد العيد، خِيارات كُبرى تصوغ في ضوئها لجنة الستِّين مشروع الدستور، الذي سيكون المرجع في إقامة المؤسسات وضبط العلاقات بينها وتحديد قواعد اللعبة السياسية في المستقبل.