الجامعة الأميركية في بيروت بين الماضي والحاضر والمستقبل
عندما دعاني رئيس الجامعة (•) جون واتربوري الى ان اكون خطيب الاحتفال في يوم الآباء المؤسسين اقترح وهو الاكاديمي، ان اتحدث عن نقاط القوة ونقاط الضعف في الجامعة، وعن توقعاتي وطموحاتي لمستقبلها. ونظرا الى ضيق الوقت فاني سأكتفي بان ارفع بعض الملاحظات بهذا الخصوص.
بداية اود التشديد على ما اعتبره ميزة مكرسة على نطاق واسع في ما يخص الرسالة التربوية والثقافية للجامعة الاميركية، وهي الثقافة الليبرالية، والانسانيات في صلبها، التي تعتبر خلفية اساسية لاي تخصص اكاديمي او مهني. ان الثقافة والتربية الليبرالية، وضمنها العلوم، تطور القدرات الفكرية والقابليات النقدية للانسان. كما ان التعرض للانسانيات ولافكار المفكرين الكبار عبر العصور يمكن ان يعلم الطلاب مغزى الافكار المتعددة حول العدالة والحرية، والاخلاقيات، والمسؤولية الاجتماعية واهميتها، وهي التي اتضحت وتبلورت عبر القرون، والتي بإمكانها ان تعطي معنى حقيقياً للكرامة الانسانية.
أن تكون مثقفاً حقيقياً يعني ان تكون مطلعاً ومتآلفاً مع الافكار المرتبطة بالقيم الانسانية. وبهذا المعنى، أستطيع ان احدد المهمة التربوية للجامعة الاميركية في بيروت: وهي ان تخّرج اطباء مثقفين، ومهندسين مثقفين، واقتصاديين مثقفين، واختصاصيين مثقفين في مجالات اكاديمية ومهنية مختلفة. الفشل في تخريج طلاب مثقفين تبعاً لما ذكرت يعادل الفشل في القيام بجانب اساسي من مهمة الجامعة.
فتطوير الخبرات التقنية في معزل عن المعرفة الاوسع التي تمنحها الثفاقة الليبرالية، لا يفضي وحده الى التقدم الانساني. وفي مجال اختصاصي- الاقتصاد – فإن القيم الانسانية وخاصة الحريات الانسانية، هي جزء جوهري واساسي للتنمية كما عبر عنها بشكل جميل امارتيا سن، الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد للعام 1998. اذ يبين في عمله ان الحرية هي جوهر التنمية. يقول سن ان الحريات الانسانية الجوهرية (سواء كانت سياسية ام اقتصادية ام اجتماعية) والتي يصفها بالقدرة على اختيار حياة يريدها كل انسان، هذه الحريات تقع في اساس التنمية. فللحرية هنا صفة تكوينية وصفة ادائية في الوقت عينه بالنسبة للتنمية. وهكذا، ليست الديموقراطية هدفا بحد ذاتها، لكنها تعطي الناس صوتاً ودوراً بنّاء في تشكيل القيم والمبادئ. ويمكننا ان نضيف ان فكرة التلازم بين التنمية والحرية ليست حكرا على أي امة او ثقافة معينة.
والسؤال، هل نجحت الجامعة الاميركية في بيروت في ايصال رسالتها التربوية والثقافية بطريقة جيدة؟ اضع هذا السؤال في اطار الجامعة التي عرفتها ولا ازال. وأترك للمؤرخين كي يقولوا لنا كيف تغيرت الجامعة الاميركية في بيروت عبر السنين وكي يقولوا لنا كيف أعيد نسج ثوبها التبشيري ليصبح ثوبا يتناسب مع مهمتها كمؤسسة علمانية تتعاطى التعليم العالي. واعتقد ان الجواب على هذا السؤال: هل نجحت الجامعة في ايصال رسالتها الثقافية بطريقة جيدة هو نعم على العموم. وسوف اوضح ذلك عبر اربع ملاحظات.
الملاحظة الاولى هي انه بغض النظر عما اذا كان يتوجب تطوير برنامج الثقافة الليبرالية في الجامعة وجعلها اكثر ملائمة لخدمة اهدافها. فتاريخيا اكتسبت الجامعة في هذا المجال ميزة مهمة مقارنة مع مؤسسات اخرى في لبنان وبالتاكيد في العالم العربي. للجامعة الاميركية الفضل ليس فقط لكونها، باعتقادي، اول مؤسسة تتبنى هذا النوع من الثقافة والتربية، بل ايضا لمساهمتها في التقبل المتصاعد لهذه الثقافة في جامعات اخرى هنا وفي البلدان المجاورة. لكن هذه الافضلية بدأت بالتراجع مع قيام مؤسسات جديدة وانتشار فلسفة الثقافة الليبرالية في لبنان والمنطقة. واذا كان ذلك صحيحا، فعلى الجامعة الاميركية في بيروت ان تعتبره حافزا للمضي والاستمرار في تطوير برامجها التعليمية لمواجهة التحدي الناجم عن انتشار التعليم والثقافة. ان التطوير الدائم لنوعية البرامج في الجامعة الاميركية هو احدى الطرق لمواجهة هذا التحدي، لكن لا تقل اهمية عن ذلك مواصلة تطوير الطرق المثلى لدعم وتعزيز برامجها للتربية الليبرالية. ولا شك، ان نجاح الجامعة في هذا المجال سيساعد على اجتذاب اعداد متزايدة من الطلاب في المنطقة والخارج واستقطابها، مما يغني بيئتها الطالبية المتعددة الثقافة.
ملاحظتي الثانية هي انه في ضوء عملي الطويل في الجامعة الاميركية في بيروت، لا اعتقد انه من التجني القول ان الجامعة من خلال ممارسة عملها التربوي قد وقفت عموما الى جانب حرية التعبير والحوار الفكري الحر. وهذه صفة مهمة للبيئة الاكاديمية للجامعة الاميركية مقارنة مع ما هو سائد في بعض الجامعات في لبنان وبالتأكيد الكثير من الجامعات في العالم العربي. ولكن، من جهة ثانية كانت هنالك حالات تدخل لادارة الجامعة، في قضايا تتعلق بالتعبير الاكاديمي الحر وان كانت متباعدة في ما بينها. واذا اعتبرنا هذه الحالات استثنائية فانه يمكننا القول ان الجامعة طالما تميزت على العموم ببيئة اكاديمية ليبرالية. ويبقى، ان تكون حذرة من عودة اية تدخلات في الحرية الاكاديمية او ما هو اسوأ ان تسمح لها ان تزداد بشكل او بآخر.
خلال فترة الحرب الاهلية (1975-1990) كان من الطبيعي ان تتعرض حرية التعبير والنقاش للخطر. وذلك نتيجة الحرب وهيمنة الميليشيات المسلحة على بيروت. ولم يكن هذا الامر فشلاً لما تمثله الجامعة. وبالفعل، ومع انها تعرضت للاذى والضرر بطريقة او بأخرى، فقد نجحت في البقاء والاستمرار في زمن الحرب بالرغم من المصاعب الهائلة التي واجهتها. ويعود الفضل في ذلك بالطبع الى كل مكونات الجامعة في ذلك الوقت، الادارة والهيئة التعليمية والموظفين والطلاب. ولكن حتى ولو بدوت متحيزاً هنا، دعوني اقول ان الهيئة التعليمية في الجامعة الاميركية تستحق لفتة خاصة، ففي المراحل الاولى من الحرب كان مجلس الامناء يفكر بجدية في اغلاق الجامعة موقتاً. الا ان موقف الهيئة التعليمية العلني والقوي ضد الاغلاق، هو الذي رجح القرار بالاستمرار.
ملاحظتي الثالثة: هي ان الجامعة الاميركية في بيروت، برأيي، استطاعت عموما ان تقاوم المحاولات الخارجية للتدخل في مهمتها الاكاديمية او في الحوار الفكري الذي تحتضن. وفي ظل بيئة محلية واقليمية يسودها الصراع السياسي والعسكري، وبوجود انظمة اوتوقراطية في المنطقة وتأثيرات خارجية سلبية، فان هذا الانجاز ليس بالانجاز السهل. لكني، لست مؤرخا، ولا ازعم اني استطيع التأكيد بأن هذه هي الحال التي كانت سائدة خلال تاريخ الجامعة الطويل. على أي حال، لا يبدو الامر غريباً اذا ما كانت الجامعة قد خضعت في مناسبات محددة لضغط خارجي. واذا كان الامر كذلك، اود ان اعتبر هذه المناسبات مجرد زيغ عن تقاليد الجامعة ومبادئها، وبالتأكيد يجب ألا يسمح بتكرارها مستقبلا. ان الحرية الاكاديمية هي اداة قوية وكامنة للتغيير في المجتمعات. وفي منطقتنا من هذا العالم، حيث الحكم والممارسات الديموقراطية هي، اقل بكثير مما هو مرغوب فيه، وحيث تستمر الصراعات الاقليمية، تكتسب الجامعات مثل الجامعة الاميركية في بيروت دورا مهماً في تعزيز التحاور الفكري الذي يساعد على حصول التغيير المطلوب. وكلي امل انها لن تتراجع ابدا عن الدفاع عن حق هيئتها التعليمية وطلابها في ممارسة حرية الفكر والتعبير بمسؤولية. ان الحفاظ على بيئة فكرية حرة يعزز الجامعة كمركز للحوار حول قضايا الشأن العام، كما يشجع الطلاب على تطوير افكارهم حول قضايا تساهم في تنمية مجتمعاتهم.
ملاحظتي الرابعة هي انه اذا كانت المهمة التعليمية للجامعة الاميركية في بيروت تقوم على مبادئ المساواة والعدل، فهذا يعني ان اداءها الخاص يجب الا يعتريه أي تمييز او تحيز واضح او ضمني في كل المجالات، وعلى كل المستويات. وعلى الرغم من تاريخ الجامعة المميز والطويل، لقد دخل عامل التمييز بين الحين والآخر وبوتيرة اكثر او اقل في ادارة شؤون الجامعة. ممارسات كهذه يجب ألا يترك لها مجال. فالموضوع ليس فقط موضوع اخلاقيات على اهميته. وانما في عالم يزداد انفتاحا ومنافسة، تبقى سياسة عدم التمييز معيارا مهما في الاداء المنتج والفعال.
ولكن، ماذا عن المستقبل؟ واين يمكن الجامعة الاميركية في بيروت ان تطمح الى التقدم والتطور كمؤسسة اكاديمية سليمة؟ هناك العديد من المجالات بالطبع. وسوف اعلق على اثنين منهما، تحديدا موقع الجامعة الاميركية في المنطقة ودورها كجسر ثقافي وحضاري بين العالم العربي والغرب.
منذ فترة ليست بعيدة، نشر تقرير حول المستوى الاكاديمي لمؤسسات التعليم العالي في المنطقة. ووضعت الجامعة الاميركية في بيروت على رأس اللائحة. لا اعرف مدى دقة هذا التقرير وأهميته. ولكن مما لا شك فيه ان الهيئة التعليمية للجامعة تشمل اساتذة مرموقين دولياً وابحاثهم معروفة في الوسط الاكاديمي العالمي. اما الجسم الطالبي فهو عموما على مستوى عال، وهذا ما يؤكده الاساتذة الزائرون من الخارج. اعتقد انه لمن الانصاف القول ان الجامعة الاميركية في بيروت تؤمن تعليما جيدا. والعديد من طلابها الذين يتابعون تخصصهم العالي في الخارج يتفوقون في البعض من افضل واعرق الجامعات في العالم. ولكن، في المقابل،على الجامعة الاميركية ان تتابع انجاز عدد من المهمات الاساسية لتبقى مؤسسة اقليمية مميزة، وبالأهمية نفسها، اذا ارادت المنافسة في العالم الاكاديمي الواسع، وان تصبح مؤسسة اكثر عالمية مما هي عليه الآن. هنالك دراسات ومقترحات عدة لاكاديميين معروفين تتناول التوجهات التي يمكن ان تعتمدها الجامعة للسير في هذا الاتجاه. لكن هنالك مسألة اود التأكيد عليها. فقياسا مع هدفها المعلن الداعي الى تعزيز البرامج الدراسية وخاصة الدراسات العليا والدكتوراه، فمن الضروري ليس فقط ان تحافظ الجامعة باستمرار على العمق الاكاديمي المطلوب في هيئاتها التعليمية في مختلف دوائرها الاكاديمية بل ان تعززها باضطراد باتخاذ جميع الخطوات الضرورية لتأمين هذا الهدف. فهذا شرط اساسي للابقاء على قدرتها التنافسية في العالم الاكاديمي. والا فانها قد تتعرض لخسارة موقعها المميز في المنطقة.
والى الذين قد يقولون ان الجامعة الاميركية في بيروت هي حقا قوية في مجالات واختصاصات محددة، جوابي هو ان الجامعة يجب ان تطمح الى ان تكون قوية في كل المجالات والاختصاصات التي تتعاطى فيها. وان المتطلبات الاكاديمية والمادية التي تستلزم هذا التوجه هي في الواقع تفاصيل تقع على عاتق ادارة الجامعة ومجلس الامناء. وآمل انه مع توافر الدعم من قبل خريجي الجامعة الاميركية المنتشرين في العالم ان يكون النجاح حليفها. وهنا اود ان اشير الى ان اعادة نظام العقد الاكاديمي الدائم (Tenure) وله قواعده ومتطلباته المعروفة هي امر في غاية الاهمية اذا ما ارادت الجامعة ان تجتذب هيئة تعليمية واعدة ومميزة وتحافظ عليها.
اشتهرت الجامعة الاميركية في بيروت بانها جسر ثقافي بين العالم العربي والغربي، وفي ايامها الاولى عرفت كناقل لاساليب التعليم الغربية الى العلم العربي، وحديثا حاولت تعزيز المعرفة العربية حول الثقافة والمؤسسات الاميركية. في نظري هذا الدور يجب تطويره من قبل الجامعة بشكل فعال بحيث تساهم اكثر في تدعيم المعرفة الغربية حول الثقافة العربية وتعزيزها. اقول ان تساهم اكثر، لان العديد من افراد الهيئة التعليمية في الجامعة كانوا ولا يزالون تقليدياً يتعاطون اكاديميا وفكريا مع جامعات واكاديميين في الغرب، وقاموا بنشر الكثير من الابحاث حول العالم العربي، ومجتمعه، واقتصاده ولغته وثقافته. وهكذا لعبوا، ولا يزالون، دور نقل الثقافة العربية الى الغرب. لكن، ربما، حان الوقت لنسج علاقات منهجية مع مؤسسات اكاديمية غربية مختارة، خاصة تلك التي لديها برامج حول العالم العربي لجهة اقامة نشاطات اكاديمية وثقافية مشتركة بطريقة منتظمة تتناول بالعمق الجوانب المتعددة للمنطقة العربية. ليس مقصدي هنا التلويح براية ثقافية شوفينية، على الاطلاق. غير انه في زمن يتحول فيه العالم بسرعة نحو الترابط والانفتاح والتواصل، تحتل التفاعلات والتفاهمات الثقافية مكانة مهمة. لماذا، اذن، لا تقوم الجامعة الاميركية في بيروت بلعب دور متنام ومنتظم في توطيد اواصر تفاهم ثقافي عربي/ غربي في الاتجاهين مع كل ما لها من مميزات بهذا الخصوص. امام المنعطف الحالي من تاريخ العالم العربي، يبدو لي، ان هذه المهمة ترتدي اهمية قصوى وتلائم بصورة مثالية الهدف الاكاديمي للجامعة الاميركية في بيروت.
كلمة اخيرة، على الرغم من الممارسات المتدنية في ما يتعلق بالديموقراطية والحقوق المدنية، يبقى لبنان البلد العربي الاكثر ديموقراطية والاكثر التزاما بالحقوق المدنية. هو بلد كانت مجموعاته الطائفية المتنوعة ولا تزال مصدراً للغنى الثقافي على الرغم من ان المذاهب الدينية جرى استغلالها لاشعال صراعات محلية وتغذيتها. كان هذا البلد ولا يزال معرضا للتأثيرات السياسية الخارجية، لكنه بقي موطنا للتفاعلات الثقافية، الاقليمية والعالمية. انه بلد لطالما شدد تقليديا على التربية والثقافة. وهو بلد مليء بالمواهب، على الرغم من ان عدداً كبيراً من شبابه المتعلم، ولاسباب متعددة، اختار الهجرة الى الخارج.
لماذا تراني اقول كل هذا؟ اقوله كي اذكرّ الجميع بان الجامعة الاميركية بفضل تمركزها في لبنان استمرت في التمتع ببيئة وطنية مكنتها وتمكنها من تجديد مسارها الاكاديمي وانجاز طموحاتها التربوية. وان هذه البيئة هي نفسها، وإن في ظروف تاريخية مختلفة، قادت في المقام الاول قبل 141 سنة، الى تأسيس الجامعة في لبنان.
لو كان لبنان اوتوقراطيا، لكان ازدهار الثقافة الليبرالية فيه امر من الصعب تحقيقه. علينا ان ننتظر كي نرى هل بامكان الجامعات ذات المنهج التربوي الاميركي التي تؤسس في بلدان اوتوقراطية في العالم العربي ان تتطور لتصبح جامعات حاضنة حقاً للتربية الليبرالية، وذلك في غياب الديموقراطية في الدول المعنية. في عالم اليوم المتميز بالمنافسة العالمية، لا تزال الجامعة الاميركية في بيروت تتمتع بالميزة التي تمكنها من بلوغ اهدافها الاكاديمية والتربوية كمؤسسة رائدة ومتقدمة للتعليم العالي والليبرالي في المنطقة العربية.
(•) كلمة ألقيت في احتفال يوم الآباء المؤسسين للجامعة الاميركية في بيروت في 3 كانون الاول 2007.
(مدير معهد العلوم الاقتصادية في الجامعة الاميركية – وزير اقتصاد سابق)
(نقلاً عن “النهار”)