انتهت الحرب الإمريكية الفيتنامية في عام 1975 ، وقبلها انتهت حروب فرنسا في الهندالصينية، فلم يعد أحد يسمع عن الجنرال “فو نغوين جياب”، إبن مزارع الأرزّ الأمي الذي وضعه المؤرخون في مصاف قواد الحروب العظام من أمثال نابليون، ورومل، وويلنغتون.
وظل الأمر كذلك حتى يوم الرابع من أكتوبر الجاري الذي شهد وفاته عن عمر ناهز 102 عاما في مستشفى عسكري بهانوي، جراء تقدمه في السن، وليس بسبب أي مرض، حيث ذكر ان جسده تقرح كنتيجة لاستلقائه الطويل في سرير المستشفى.
سبب غياب إسم وصورة جياب الطويل هو أن الفيتناميين، رغم حبهم الشديد لهذا الرجل بإعتباره محررا لبلادهم ورفيقا لزعيمهم الكبير “هو شي منه” الذي أعاد توحيد شطري فيتنام، ومؤسسا لجيش الشعب الفيتنامي، كانوا قد طلقوا الحروب وذكرياتها المريرة طلاقا بائنا، واتجهوا بسواعدهم وعقولهم نحو بناء وطنهم كي تغدو نمرا جديدا ضمن النمور الآسيوية. وهكذا ظل جياب ومعاركه وإنتصاراته لا يــُذكر إلا عند المؤدلجين ممن لا يريدون الإعتراف أن زمنه قد ولى، وأن العالم قد تغير ولم يعد يتتطلب حرب العصابات والأدغال التي كانت وراء شهرة جياب وانتصاراته. من جهة أخرى ظلت فيتنام لا تــُذكر في نشرات الأخبار إلا في سياق محدود، من بعد أن كان إسمها يتردد في وسائل الإعلام مئات المرات كل يوم. والسياق المقصود هنا هو علاقاتها بأعدائها السابقين من يابانيين وفرنسيين وأمريكيين. وهنا تحديدا يكمن مربط الفرس! فالمتنصر الفيتنامي، الذي ألحق هزيمة مدوية بجيوش ثلاث قوى عظمى في حروب غير متكافأة لجهة السلاح والمقاتلين والإمكانيات اللوجستية، لم يكابر فيسترجع ذكريات حربه الأليمة مع هذه القوى – وخصوصا الأمريكيين الذين أمطروا عاصمته هانوي بغارات سجادية وحشية يومية – كسببٍ للصدود عن الأيادي الممدودة نحوه للتعاون والشراكة والإستثمار المشترك، وإنما رحب بها ووجد فيها فرصة لتعويض ما فات، والنهوض إلى مصاف الأمم الآسيوية الصاعدة.
بل كان هذا أيضا هو موقف جياب نفسه الذي لم يعترض على سياسات حكومته الرامية نحو التعاون مع أعداء الأمس، ولم تصدر منه أية إشارة إستنكار أو تحريض على الرفض أو تهديد بالإستقالة من منصبه الحكومي كوزير للدفاع ونائب لرئيس الوزراء، أي على العكس مما يفعله بعض المسئولين في عالمنا العربي حينما لا تمضي الأمور نحو الوجهة التي تتطابق مع فكره الإيديولوجي وطموحاته الشخصية، أو يستبد به مرض الإنتقام. الشيء الوحيد الذي قاله جياب في عام 1995 وهو يرى عدو الأمس الأمريكي يعود إلى فيتنام – وتحديدا إلى سايغون عاصمة الشطر الجنوبي الذي خرج منه مدحورا في عام 1975 – بشركاته وأمواله وثقافته هو: “نستطيع أن نترك الماضي وراءنا، ولكن لا نستطيع نسيانه“.
في عالمنا العربي عشق الكثيرون جياب، دون سابق زيارة لفيتنام أو معرفة بخرائطها وثقافتها، فقط لأنه كان ماركسيا معاديا للإمبريالية، ومخترعا لحرب العصابات التي رأت فيها الأحزاب الشيوعية العربية، ومعها القوى الراديكالية كحركة القوميين العرب والفصائل اليسارية الفلسطينية طريقا نحو الإنتصار على ما كانت تسميه “قوى الرجعية العربية”، على الرغم من أن الظروف والمعطيات الطبيعية والطبوغرافية اللازمة لشن مثل تلك الحرب لم تكن متوفرة في أي مكان داخل حدود الوطن العربي، بما في ذلك إقليم ظفار العُماني الذي خرجت منها شرذمة الماويين، من أنصار حرب العصابات، مدحورة.
وأتذكر أن بعض الجهلة وأنصاف المتعلمين في بيروت السبعينات – حيث كنت أتلقى تعليمي الجامعي – كان يتباهى بوضع صورة الرجل في مكان عمله وسكنه أو على صدره – تماما كما كان يفعل مع صور “تشي غيفارا” و “هوشي منه”- وهو لا يدرك اي معلومة عنه سوى انه من بلد اسمه فيتنام، ويقاتل الأمريكان. القلة فقط من هؤلاء كانت تردد ببلاهة عبارة “ديان بين فو” في سياق الحديث عنه.
والحقيقة أن إسم جياب إرتبط بمعركة “ديان بين فو” في 7 يونيو 1954 ، فهي التي حققت له الشهرة والأمجاد على إعتبار أنها المعركة التي هزم فيها الفيتناميون الفرنسيين ، وأسدلوا بموجبها الستار على التواجد الإستعماري الفرنسي في الهند الصينية كلها، وإنْ كان هذا الحدث المدوي سببا في تقسيم فيتنام إلى شطرين: شمالي مدعوم من الإتحاد السوفيتي والصين وأوروبا الشرقية، وجنوبي مدعوم من الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين والآسيويين، وبالتالي قيام الحرب المعروفة بين الشمال والجنوب التي شاركت فيها قوات الفييتكونغ الشيوعية تحت أمرة جياب من منتصف الستينات وحتى إنتصارها في عام 1975.
والمتصفح للسيرة الذاتية لجياب يجد أن حياته كانت مثقلة بمظاهر التمرد والعصيان والشغب والإنشغال بالسياسة والقتال من أجل تحرير وإستقلال بلاده منذ سن مبكرة. فمن الإنضمام في سن المراهقة إلى صفوف حركة “أنام” الجديدة السرية المقاتلة ضد الفرنسيين، وحركة “تان فييت كاش مانغ دانغ” الشبابية الثورية الرومانسية وبالتالي دخوله إلى المعتقل لعدة أشهر، إلى طرده من الأكاديمية الوطنية (معهد من معاهد “الليسيه فرانسيه”) في هوي بسبب نشاطه السياسي وتحريضه لزملائه على التظاهر والعصيان، إلى انضمامه للحزب الشيوعي الفيتنامي في عام 1931 ومساهمته في تأسيس “الجبهة الديمقراطية” في عام 1933 وقيادته للمظاهرات الشعبية بإسمهما في أقطار الهند الصينية، ومن مغادرته فيتنام في عام 1939 إلى المنفى في الصين بعد حظر الفرنسيين للحزب الشيوعي الفيتنامي ثم عودته إليها في عام 1944 لتنظيم صفوف المقاومين للإحتلال اليابانـــي ما بين عامــــــي 1944 و 1945 بإسم “الرابطة من أجل إستقلال فيتنام” المعروفة إختصارا بـ”فييت منه” والتي تشكلت في الصين واختير هو قائدا لها بتزكية من “هوشي منه” وبدعم من بكين. إلى تخطيطه للضربة الموجعة التي سددها للقوات الإمريكية في جنوب فيتنام في مطلع عام 1968 عبر كمين محكم أثناء الإحتفال برأس السنة القمرية. تلك الضربة التي أقنعت واشنطون بأنها لم تعد قادرة على دعم الجنوبيين وأنه من الضروري التفاوض مع قوات الفييتكونغ وشيوعيي الشمال لإنهاء الحرب.
غير أن جياب وجد وسط كل هذه التطورات والتقلبات في حياته متسعا من الوقت ليدرس لبعض الوقت في معهد “ألبرت ساروت” النخبوي في هانوي حيث كان يتم إعداد وتدريب الفيتناميين للعمل في إدارات المستعمر الفرنسي (رغم نفيه لهذه الواقعة خوفا من أن تنال من ثوريته)، ويلتحق بجامعة هانوي لدراسة الحقوق والسياسة والإقتصاد، ويعمل كمدرس للتاريخ، ويكتب المقالات الصحفية، ويؤسس صحيفة فرنسية وأخرى فيتنامية سرية، ويقرأ المؤلفات العديدة في الفلسفة والتاريخ والإستراتيجيات الحربية.
* باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
Elmadani@batelco.com.bh