جمع سليمان الحكيم أهل القرية في ساحة عامة وخاطبهم من مكان عال قائلا: سارق الطيور موجود بينكم وها هي الريشة ظاهرة على رأسه، وإذا بالسارق يرفع يده نحو رأسه ليزيل الريشة، ففضح نفسه. من حسبوا أنفسهم اليمين اللبناني وقعوا في فخ الريشة.
أول الأدلة على الغباء ردود الفعل. منهم من غضب ومنهم من لاذ بالصمت ومنهم من ضحكت أساريره. مهلا. تستعجلون تصنيف أنفسكم يمينا ولا داعي للعجلة. منذ عقدين من الزمن اختلط حابل اليمين بنابل اليسار ولم يعد يعرف واحدهما من الآخر. حصل ذلك منذ أن شارك اليسار العالمي، الاشتراكي والشيوعي “سابقا” في الحرب الاميركية على يوغسلافيا، وشاركت معه القوى “القومية والتقدمية” العربية في الحرب على العراق. إذن انهار، من بين ما انهار، المعيار الذي نميز بواسطته اليسار من اليمين. وصرنا ملزمين، إلى أن يعتمد معيار جديد، بإضافة صفة اليمين السابق أو اليسار السابق، أو بقايا اليمين وبقايا اليسار، حين الكلام عن تلك الاصطفافات. بهذا المعنى كان إطلاق صفة اليمين على قوة سياسية أمرا طبيعيا بمعايير زمانه، أما اليوم فالأمر يحتاج إلى روية. سنقترح معيارا جديدا، لكن، قبل ذلك نطلب ممن زجوا بانفسهم في خانة اليمين وكذلك ممن احتكروا لأنفسهم صفة اليسار أن ينظروا إلى تاريخهم نظرة نقدية، لعل ذلك يساعدنا على بلورة هذا الاقتراح. لذلك نرى من المفيد،في هذا المجال، التذكير بالقضايا التالية وبالمواقف منها المتباينة منها:
1- صدق اليمين واليسار ما كان يقال عنهما: اليمين المسيحي واليسار المسلم، وتصرف كل منهما من غير اعتراض على النعت والتسمية، حتى قيل في غمرة الحرب الأهلية أن هناك طوائف وطنية وأخرى غير وطنية. ومن الغباء أن ما تبقى من اليسار لم يكتشف بعد أنه تعرض للإبادة على أيدي الأصولية الإسلامية وأن المقاومة التي أسسها ضد الاحتلال الصهيوني انهارت تحت ضربات الحلفاء من القوى “الوطنية والقومية والإسلامية”، وأن اليمين لم يكتشف بعد أن حبه للمسيحيين “قتلهم” وعرضهم للإبادة والهجرة والاستئصال من الشرق. كل ذلك تحت شعار الدفاع عن المسيحيين و عن الوطن القومي المسيحي.
2- القوى اليسارية (القديمة) تجمعت في إطار “الحركة الوطنية اللبنانية”، بينما تجمعت القوى اليمينية (القديمة) في إطار الجبهة اللبنانية، لكن لبنان الوطن كان غائبا عن كليهما. فهل يصح الادعاء بوجود يمين ويسار على بقعة من الأرض لايحسبها سكانها وطنا نهائيا لهم؟ ذلك أن الإطار الأول كان عبارة عن جاليات عربية وعالمية على الأرض اللبنانية، بينما حاولت قوى الإطار الثاني أن تمسخ لبنان بالتقسيم والفدرالية والكونفدرالية لتقضي على كل مقومات وحدة الشعب والأرض والمؤسسات. كانت القوى كلها تشبه المونديال السياسي: لكل قوة علم يرفرف على ناصيتها، كما على سيارات مشجعي الرياضة في موسم المونديال، إلا العلم اللبناني. ومن الغباء أن يصر اليسار (القديم) على تكرار تجربة الحركة الوطنية، ويصر اليمين (القديم ) على تجربة الجبهة اللبنانية، ويكاد التكرار أن يطال الأطر والأسماء، وينقسم اللبنانيون بين يسار مسلم منحاز للقضية الفلسطينية وللولاء لسوريا والتبعية لإيران ولو على حساب الوحدة الوطنية، ويمين يخشى على المسيحيين من الانقراض، فيما لا يفضي سلوكه إلى غير ذلك.
3- ما أن قبل اليسار بالانضواء في إطار “وطني إسلامي” حتى صارت علمانيته موضع شك، بل إنه تعامل مع العلمانيين وكأنهم طائفة جديدة من طوائف المجتمع اللبناني، وطالب بحقوقهم كطائفة لا كمواطنين، ثم راح يحارب الطائفية بسلاحها، فانخرط تحت شعار المشاركة، لينتزع من الرئيس المسيحي صلاحيات ويعطيها لرئيس الحكومة المسلم، إلى أن أفلت الشعار من يديه وصار سلاحا في ايدي الطوائف كلها، يستخدمه الأقوى من بينها في مواجهة الدولة أو لتعطيل مؤسساتها وبناء مؤسسات بديلة. ومن الغباء أن يصر اليسار القديم على الانحياز إلى انقسامات لبنانية ليست العلمانية أحد معاييرها الاساسية، انقسامات لا تؤول إلى غير الحروب الأهلية وتهديد الوحدة الوطنية، إذ لا يخفى على أحد أن قيادة اليسار(القديم) دأبت من غير كلل على التغني بالتحالف مع الأخوة والرفاق في قوى في الحركة القومية والإسلامية التي يحسب بعض أطرافها، من موقع جهلهم، العلمانية مرادفا للإلحاد.
4- اليمين ” المسيحي”، من يحتمي منه بالمؤسسة الدينية أو من يقف ضدها ويهاجمها، يتوسل اللغة السياسية ذاتها في الدفاع عن “المصالح المسيحية” وعن “الشعب المسيحي” ولم يتعلم بعد أن الدفاع عن الوجود المسيحي لا يكون بالتسابق على الشحن الطائفي ولا باستدراج التحالف مع قوى خارجية لا تقدم مساعدة لأحد إلا في سبيل مصالحها وحدها، بل بالدفاع عن لبنان الوطن والدولة، ولم يتعلم بعد أن الخطر على الوجود المسيحي هو من الأصوليات كلها، المسيحية والإسلامية والقومية. الخطر الحقيقي على المسيحيين وعلى المسلمين يتمثل في النظر إلى التعامل مع الطوائف باعتبارها ” شعوبا”. هذا خطر اليمين المسيحي على المسيحيين وخطر اليمين الإسلامي على المسلمين، وخطرهما معا على الوطن.
5- علاقة اليسار واليمين اللبنانيين بالعروبة ولدت ولادة مأزومة ولا تزال تتفاقم رغم مرور قرن من الزمن على ولادتها. بدأت العروبة مطمحا مسيحيا وروادها الأوائل مسيحيون، لكنها لم تكن عندهم مطلبا لذاتها، بل منجاة لهم من الإسلام التركي الجائر، وسبيلا للتطور والتقدم أسوة بالحركات القومية في الغرب الأوروبي فبدا المسيحيون، بفعل ذلك، وكأنهم يمثلون جالية غربية في لبنان في مواجهة الأتراك والمسلمين. في مرحلة لاحقة تولت “الجاليات ” العربية في لبنان حمل راية العروبة، من ناصريين وبعثيين ثم مناصرين عروبيين وأمميين للقضية الفلسطينية، وكان آخرهم أنصار الوجود السوري في لبنان، ما أدخل العروبة في التباسين كبيرين : علاقتها بأنظمة الاستبداد العربي، وعلاقتها بالإسلام. في مثل هذه اللوحة، من يكون اليميني ومن يكون اليساري؟ وهل يمكن أن يستمر التصنيف استنادا إلى المعايير القديمة، فيتوحد المسيحيون والمسلمون في الدفاع عن الحقوق الإنسانية للفلسطينيين وفي مواجهة التوطين، لكنهم يظلون، بالرغم من وحدة موقفهم في الأمرين معا، منقسمين بين يمين ” مسيحي” ويسار “مسلم”؟ انقسام لا يشير إلى أنهم يبحثون في قضية معاصرة وآنية بل في قضية من التاريخ، تماما كما تفعل الشيعية السياسية حين تستحضر صراعا مع السنة على الخلافة والإمامة تستحضره من تاريخ مضى وتستحضر معه قيما وعادات وتقاليد وثقافة، وتوظفها كلها بما يكرس الانطباع العام بأنها، كما كل الطوائف اللبنانية، مجرد جاليات متساكنة أو متعايشة على الأرض اللبنانية. مع ذلك، فالشيعية السياسية حسب التصنيف القديم يسار، بل هي قلب اليسارالقومي والتقدمي النابض، المعادي للإمبريالية والصهيونية والاستعمار والشيطان الأكبر والاستكبار العالمي، بدليل تحالفها الراسخ مع اليسار المحلي ممثلا بأحزاب “متطرفة في ماركسيتها” وأخرى أقل تطرفا، ومع اليسار العالمي من فنزويلا وكوبا إلى إيران وكوريا (باعتبار أن من الشروط التي ينبغي توفرها في اليسار هو أن يكون معاديا للولايات المتحدةالأميركية!!)
6- استنادا إلى هذه القراءة النقدية، من الأفضل أن نعتمد معيارا جديدا قوامه الموقف من الاعتراف بلبنان وطنا نهائيا لجميع أبنائه والتصرف على أساس ذلك وعلى أساس البرامج المطروحة لإعادة بناء الوطن والدولة. وبناء على هذا المعيارنقدم اقتراحا من شقين: الأول أن يكون أهل السلطة هم اليمين، والموجودون خارج السلطة ممن في حوزتهم برنامج بديل، أو برامج، لا أن يقتصر خلافهم مع أهل السلطة خلافا على السلطة فحسب، هم اليسار. هذا اقتراح مؤقت إلى أن تستقر الصراعات السياسية اللبنانية على تنافس من أجل إعادة بناء الوطن والدولة، من داخل الالتزام بلبنان وطنا نهائيا لجميع أبنائه. وهو اقتراح لا يصح حاليا على من هم بمثابة جاليات لا تنقسم على البرامج بل على الولاءات الخارجية وعلى العروبة والقضية الفلسطينية، ولا تحكمها علاقات الوحدة الوطنية بل التخوين والتكفير.غيرأن أهل السلطة اليوم متشابهون، سيان إن سموا أنفسهم يمينا أم يسارا، أو إن عدوا أنفسهم معارضة من خارج الحكومة أو من خارجها.
الشق الثاني من الاقتراح، وهو الأكثر أهمية، يقضي بطي صفحة العلاقات والتصنيفيات والتهم القديمة بين اليسار واليمين، وهي كانت كعلاقة القط والفأر، اليسار للمظاهرات والمشاغبة وتغيير النظام والثورة، والحكومة لقمع اليسار وزج المناضلين في السجن. اليسار الجديد واليمين الجديد ينبغي أن يتصارعا من داخل وحدة الوطن والولاء له، له وحده دون أي ولاء آخر.
في ظل الصورة المعروفة عن اليسار مدافعا عن العدالة الاجتماعية، وصورة اليمين مدافعا عن حرية رأس المال، ينبغي البحث عن صيغة جديدة من الصراع لا تظل فيها الحرية العدالة عدوين أو نقيضين، وعن صيغة جديدة للصراع تحمي الوطن من الانقسام ومن ويلات الحروب الأهلية وتضع أسسا لتقدمه وتطوره وبناء مستقبل زاهر لأجياله الجديدة.
moukaled47@hotmail.com
• جامعي لبناني
…أما اليسار فليس أقل غباء – قبل ان يتقدم لامتحان للحصول على شهادة استعد له الاستعداد المطلوب بالقراءة والحفظ وحل التمارين .. وقرر ان يزور شيخ القرية (محمد , علي , راغب , انطون : فكلهم في لبنان شيوخ) .. رحب الشيخ بالضيف وطلب من زوجته ان تذبح دجاجتين وتعد وليمة لاكرام الزائر (ابن الناس) , طلب الضيف حسن المشورة والدعاء والبركات وتعهد بهدية “صغيرة” مناسبة للشيخ ان اجتاز الامتحان .. اجتاز الامتحان وتقدم لوظيفة وعاود زيارة الشيخ متعهدا بهدية “اكبر” مناسبة .. وهكذا ترقى وتقلب في المناصب واصبح حاكم البلاد والعباد .. قصده الشيخ (لنقل للحصول على الهدية الموعودة… قراءة المزيد ..